}

الرواية والتنوير في كتابات "حارس التنوير"

نبيل سليمان 30 أغسطس 2022
آراء الرواية والتنوير في كتابات "حارس التنوير"
جابر عصفور

أَوْلى الناقد الراحل جابر عصفور الرواية عنايةً خاصة في كتاباته النقدية، وهو الذي نظر إلى ظهورها في القرن التاسع عشر كعلامة فارقة للتنوير. فالرواية فن التنوير، فن تنويري، قل: من التنوير وإليه، بما هي من تعبيرات الوعي المديني، والانتقال من عصر (الانحدار ـ الانحطاط) إلى عصر النهضة. ولذلك لم يفتر اهتمام جابر عصفور بالريادة الروائية في القرن التاسع عشر، من خليل الخوري، وفرنسيس مراش، إلى الرباعي النسْوي الروائي: أليس بطرس البستاني في رواية "صائبة"، ولبيبة هاشم في رواية "حسناء الحب"، وزينب فواز في رواية "حُسْن العواقب"، وعائشة التيمورية في رواية "نتائج الأحوال في الأقوال والأفعال".
وبالمضي إلى الرواية في زمنه، ظل جابر عصفور معنيًا بالرواية فنًا للتنوير. وها هو ما أطلقه عام 1999 في كتابه "زمن الرواية" لا يزال مدويًا. فزمن الرواية هو زمن الاستنارة، والاستنارة تعني أولوية العقل على النقل. كذلك قوله إن الرواية العربية كانت في مقدمة أسلحة التنوير، وفرنسيس المراش في "غابة الحق"، ورفاعة الطهطاوي في "تخليص الإبريز في تخليص باريز" دافعا عن عقل الاستنارة في البحث عن قيم الحرية والعدالة والتقدم. وتسرع الإشارة هنا إلى كتاب جابر عصفور "الرواية والاستنارة"، الذي تحدث فيه عما أورثه رواد التنوير له من أفكار عن أهمية الدولة المدنية واقترانها بحرية الفكر، وحق العقل ـ كل العقل ـ في الانفتاح على نتاج العلم المتقدم والإفادة منه، بعد وضع منجزاته الفكرية موضع المساءلة.



عمّق جابر عصفور في "الرواية والاستنارة" ما سبق له من القول في الرمزية الكبرى لطه حسين، وعباس محمود العقاد، في مجال الاستنارة، ومن القول أيضًا في تنويرييي القرن التاسع عشر الذين أطلقوا الوعي المديني، ورفدوا بالرواية حركة التنوير، وهنا يتأسس التلازم الذي أقامه جابر عصفور دومًا بين فن الرواية وفكر الاستنارة.




وسوف يعود جابر عصفور إلى الاستنارة في كتابه "تحرير العقل"، الذي ضمّ فصولًا سبق أن ضمّها كتابه "أنوار العقل". وقد حدد هدفه من الكتاب بأن يجعل من فعل التنوير فعل تحريرٍ، بالمعنى المعرفي والوجودي. كما يحدد المهمة الأولى لمثقف الاستنارة بالعمل على تحرير عقول مواطنيه من كل ما يحول دون استغلالها ودون وعيها النقدي الخلاق.
في سيرة عصفور أن والده كان يريد له أن يكون طه حسين. وقد كان طه حسين أمثولة وأيقونة عصفور، كما كانت أطروحة عصفور للدكتوراة في نقد النقد التطبيقي، تحت عنوان: "المرايا المتجاورة: دراسة في نقد طه حسين". في هذا الكتاب بدا مبكرًا وجليًا كم هو كشاب مهمومًا بالتنوير.
من الألقاب الكبيرة التي حملها جابر عصفور أنه: حارس التنوير. وفي الذخيرة التي تركها، عبر عشرات المؤلفات، مجموعة من الكتب المتعلقة بالتنوير، بدأ بإصدارها قبل قرابة ثلاثين عامًا، في مواجهته هو وأقرانه من المثقفين في مصر، لِمَا كان قد بدأ يطغى فيها ـ كما في سورية والجزائر وسواهما ـ من التعصب والتطرف، ومن الممارسات الإرهابية بالرصاص، أو بالدين، أو بقطع الرقبة، أو بالمال، أو بالسياسة.
أما مؤلفات جابر عصفور التي أوقفها على التنوير، فهي: "التنوير يواجه الإظلام" (1993)، و"محنة التنوير" (1993)، و"دفاعًا عن التنوير" (1993)، و"هوامش على دفاتر التنوير" (1994)، و"أنوار العقل" (1996)، و"زمن الرواية" (1999), و"الرواية والاستنارة" (2011)، و"التنوير والدولة المدنية" (2014). وإلى ذلك، أوقف جابر كتبًا أخرى على معوقات التنوير، من الإرهاب، أو التطرف، أو التعصب، ومنها: "مواجهة الإرهاب: قراءات في الأدب العربي المعاصر"، و"دفاعًا عن العقلانية والعقل الحر"، و"ضد التعصب"، و"نقد ثقافة التخلف"، و"عن الثقافة والحرية"، و"المقاومة بالكتابة".
من اللافت في هذه السلسلة العتيدة من المؤلفات أن ثلاثة منها صدرت عام 1993. ولعل ما يفسّر ذلك ما كان قد بلغه الإرهاب آنئذٍ في مصر. فقد جرت في ذلك العام تفجيرات إرهابية كبيرة عديدة، مثل تفجير حافلة سياحية عند هرم خفرع، وقتل سيّاح أميركيين وفرنسيين في فندق سميراميس في القاهرة.




على مستوى استهداف الإرهاب للمثقفين، اغتيل فرج فوده في 8/ 6/ 1992. وفي 14/ 10/ 1994 تعرض نجيب محفوظ إلى الطعن بسكين صدئة في رقبته وهو في طريقه إلى ندوته الأسبوعية في كازينو قصر النيل. ولم يكن كل ذلك سوى نفخة في النار التي كانت تضطرم في صدر جابر عصفور، ولم تزدها السنون إلا اضطرامًا، فكان أن أثرى الناقد الأكاديمي الفذّ المكتبةَ العربية بتحليلاته وسجالاته ومنافحاته في الأدب وفي الثقافة والفكر، إعلاءً للقيم الإنسانية النبيلة ودحضًا للمتاجرة الدموية الديماغوجية بالدين.



يشدد جابر عصفور على أن العقل والحرية جزءان لا يتجزآن من الفكر التنويري. ويسجل أنه كلما فكر بكلمة التنوير تداعى إلى ذهنه مدلولان هما: العقل والنور. ويُوقف القسم الرابع من كتابه "تحرير العقل" على من يسميهم: شخصيات مستنيرة، ابتداءً برائد الاستنارة جرجي زيدان، وبالطبع: العقاد، وطه حسين، وكذلك سلامة موسى...
في مواجهة معوقات التنوير، أصدر جابر عصفور كتابه "مواجهة الإرهاب: قراءات في الأدب"، رأى فيه ما يعنيه الإرهاب من التأشير على ما وصلنا إليه من الاضطراب الفكري، وما بلغته الحال من التردي التاريخي. وينوّه حارس التنوير بما سبق التنويه إليه الشيخ محمد عبده (1849 ـ 1905) من الأصل الرابع من أصول الإسلام، وهو عدم التكفير، وهذا ما عارضته التيارات المتطرفة. وقد تناول حارس التنوير في كتاب "مواجهة الإرهاب" عددًا من النصوص الأدبية، منها رواية "الزلزال" للكاتب الجزائري الطاهر وطّار (1936 ـ 2010)، التي صدرت عام 1974، وبكّرت إلى تصوير شخصية مدير الثانوية (بو الأرواح) كمتطرف تخرج من جامعة الزيتونة التونسية، وهي الجامعة التي تخرج منها الطاهر وطار نفسه. ودرس جابر عصفور في كتابه هذا أيضًا رواية "الأفيال" (1981) لفتحي غانم (1924 ـ 1999)، ورأى أن هذه الرواية تُرهص باغتيال السادات، مثلها مثل قصة "اقتلها" ليوسف إدريس (1927 ـ 1991)، وقد صدرت الرواية والقصة القصيرة قبيل اغتيال السادات، وتحضر فيهما شخصية المتطرف. أما الرواية القصيرة "المهدي" (1982) لعبد الحكيم قاسم (1935 ـ 1990) فقد قدم لها جابر عصفور، وأضاء ما أبدعه الكاتب من شخصية المعلم القبطي عوض الله أثناء نزوله في قرية محلة الجياد، حيث يُساق إلى تبديل دينه. ولا يكتفي كتاب "مواجهة الإرهاب" بالقصة والرواية، بل يحلل أيضًا فيلم "الإرهابي" (1994) الذي كتبه لينين الرملي (1945 ـ 2020)، والفيلم من إخراج نادر جلال، وبطولة عادل إمام. كما يحلل مسرحية "منمنمات تاريخية" (1993) لسعد الله ونوس (1941 ـ 1997)، وبخاصة منها شخصية الشيخ برهان الدين التاذلي، الذي مثّل صوت (النقل)، وهو العدو اللدود لصوت (العقل)، والذي يزجّ بهذا الصوت في السجن بينما التتار بقيادة تيمورلنك يطوقون دمشق. وكان جابر عصفور قد أوقف كتابه "دفاعًا عن العقلانية والعقل الحر" على تعرية العقل السلفي الذي استخدم سلاح التكفير ضد (العقل النقدي)، وذلك في قضية تكفير نصر حامد أبو زيد (1943 ـ 2010).




وأفتح كتاب عصفور "المقاومة بالكتابة: قراءة في الرواية المعاصرة". وقد حللّ فيه عددًا من الروايات التي بكّرت إلى تصوير شخصية الإرهابي. ومن ذلك رواية فتحي غانم "تلك الأيام"، التي تعود إلى عام 1966، ولا يكون من يوصف بالإرهابي فيها إلا عمر النجار المناضل الوطني ضد الاحتلال الإنكليزي لمصر، الذي يقتل من المحتلين، وممن يتعاون معهم من المصريين. ومثل عمر النجار هو إبراهيم حمدي بطل رواية "في بيتنا رجل" (1957) لإحسان عبد القدوس، ويغتال فيها المناضل إبراهيم حمدي ذلك الزعيم المتعاون مع الاحتلال الإنكليزي (عبد الرحيم باشا شكري).
لقد تنزل جابر عصفور بالنقد الأدبي من علياء الأكاديمية إلى رحابة وسخونة الواقع، وذلك عبر مقاومة معوقات التنوير: الإرهاب والتطرف والتعصب. وليس كل ما سبق غير قبس من أشعة حارس التنوير.

مقالات اخرى للكاتب

استعادات
1 مايو 2024
استعادات
15 أبريل 2024
يوميات
31 مارس 2024
آراء
15 مارس 2024

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.