}

شاعر تمّوزي بنكهة فلسطينية.. في تجربة وليد سيف الشعرية

فخري صالح 7 سبتمبر 2022

على الرغم من أنه توقف عن نشر الشعر منذ حوالي أربعين عامًا"1"، فإن تجربة الشاعر الفلسطيني – الأردني وليد سيف (مواليد مدينة طولكرم الفلسطينية 1948) تبقى واحدة من العلامات الأساسية في المدوَّنة الشعرية، في الأردن وفلسطين، كما في المدوَّنة الشعرية العربية بعامة. فصوته الشعري يتمتع بالفرادة والتميز، ولغته تملك سطوحًا وأعماقًا متعددة، ومصادره، التي يتأثَّر بها ويتصادى معها، عديدة وغائرة في النص الشعري العربي منذ خمسينيات القرن الماضي، وحتى ثمانينياته على الأقل. فوليد سيف سليل التحولات الشعرية التي ضربت جسد القصيدة العربية في النصف الثاني من القرن العشرين، وهو، من وجهة نظري، أحد ممثلي تلك التحولات، ومن علاماتها المتوهجة التي وضعها في الظل انسحابُه من المشهد الشعري العربي، في ثمانينيات القرن الماضي، ولجوؤه إلى الكتابة الدرامية التي أصبح واحدًا من أبرز كتابها في العالم العربي. صحيحٌ أن ما نشره سيف من مجموعات لا يتعدى ثلاثًا: "قصائد في زمن الفتح" (1969)، "وشم على ذراع خضرة" (1971)، و"تغريبة بني فلسطين" (1979)، أي أنها تنتمي إلى مرحلة اندفاعة الشباب الأولى، واحتشادها، في تجربة وليد سيف الكتابية، لكن كل واحدة من هذه المجموعات تمثل تطورًا، وتحولًا، وإنجازًا، في تجربته الشعرية. فرغم عثورنا على بذور كل مجموعة في المجموعة التي سبقتها، فإن كل واحدة منها تسعى إلى التجاوز والاندفاع في فضاء مختلف عن الفضاءات التي احتلتها المجموعات السابقة. وكأن الشاعر الشاب، في حينه، يتعجَّل الخروج من أسر الشخصية القالبيَّة التي بدأت تهيمن على الشعر العربي في تلك المرحلة الفاصلة من تطور الشعرية العربية في سبعينيات القرن الماضي؛ وكأنه، في الوقت نفسه، يحاول العثور على صوته الشعري الخاص في زحمة الأصوات الكثيرة الطالعة في ذلك الزمان.

في مجموعة "قصائد في زمن الفتح"2"، التي تمثل عمل وليد سيف الشعري الأول، الذي نشره ولم يكن قد تجاوز العشرين من عمره، نعثر على الإرهاصات الأولى لقصائده في المجموعتين التاليتين، على الثيمات المحورية، والصور الملحَّة المتكررة في قاموسه الشعري، كما أننا نقع على تطلُّعه إلى كتابة قصيدة ملحمية، دراميَّة، تتحاور فيها الأصوات المتعددة، وتتقاطع، ليروي فيها تراجيديا الحكاية الفلسطينية. ثمَّة أصداء واضحة من شعر بدر شاكر السيّاب، وفي قلب هذا التأثير تحضر قصيدة الشاعر العراقي "أنشودة المطر" التي يستلهم منها سيف بعض مفردات قاموسه الشعري، ومعاني الخصب والتحوُّل، والطبيعة المتفجرة الغاضبة، ومفردة المطر التي ترتكز إليها مقاطع شعرية كاملة في "قصائد في زمن الفتح". كما أننا نعثر على تأثيرات التجربة الشعرية المصرية في خمسينيات القرن الماضي، وأخص بالذكر هنا تجربة صلاح عبد الصبور، التي تزود سيف ببعض نثريَّة عالمه الشعري، وبساطته ووضوحه، وقدرته على التواصل مع قارئه. لكن التأثيرات الأخيرة تبدو خافتة، إذا قورنت، بالتأثير الطاغي لمعجم السياب المائيّ، وعوالمه الشعرية الخصيبة، التموزيَّة، التي سوف ينسرب بعضٌ منها في مجموعتي سيف التاليتين، أي من خلال تكرار ثنائية الجدب والخصب، الموت والحياة، والولادة المتجددة، وعودة بطل وليد سيف الملحمي من الموت، وانبعاثه مثل عنقاء لا تفنى ولا تموت.





وبغض النظر عن الخطوات المترددة الحيرى للشاعر، ووقوعه أسير تأثيرات السياب، وغيره من الشعراء العرب المؤثرين في تلك المرحلة الستينيَّة، بمن فيهم صلاح عبد الصبور، وأحمد عبد المعطي حجازي، ومحمود درويش، فإن القارئ لا يخطئ تمييز النبرة الشخصية لشاعر يبحث عن موطئ قدميه بين جوقة الأصوات الكثيرة.

تمثل "وشم على ذراع خضرة"3"، التي كتبت قصائدها أيضًا والشاعر ما زال في بدايات عشرينيّاته، وفي جو طلوع المقاومة الفلسطينية، وبروز الهويَّة الفلسطينية وتظهيرها على خلفية المشهد المقاوم، المتحدي لسلب الأرض ومحو الهوية، العلامةَ الأساسية في تجربة سيف الشعرية. إنها تمثل عنفوانها، وغناها، وطاقتها التعبيرية والتخييلية العالية، وتدفق صورها المبتكرة، وإيقاعها المتفجر، مثل نشيد طويل. قصائد هذه المجموعة منشغلة بتطوير احتفال شعري بالحياة من خلال تزويج الشهيد لجسد الأرض، حيث تدور القصائد حول شخصية "زيد الياسين" وعلاقته بـ"خضرة"، المرأة والأرض، المعشوقة وعلامة الخصب والحياة والولادة والتجدد، ومقاومة المحو والاندثار. إن الثنائية الأسطورية – التموزية (زيد الياسين – خضرة) هي الموتيف الأساسي، المتكرر في قصائد "وشم على ذراع خضرة"، وكذلك "تغريبة بني فلسطين"، الذي بنى عليه وليد سيف عالمه الشعري.

في "أعراس"، وهي القصيدة الأولى التي نعثر فيها على رمز سيف التموزي المتكرر في شعره، نلتقي بعناصر الرؤية التموزيَّة: الخضرة والماء، والطمي، وعناصر الطبيعة التي تحتفل بالحياة والخصب والتجدد. لكن الشاعر يقوم بتحويل الأساطير التموزية إلى استعارة فلسطينية الدلالة، عن زواج الشهيد بحسد الأرض. وهكذا تتداخل عناصر تلك الأساطير بعناصر الحكايات الشعبية الفلسطينية (الزعتر، المأساة، ستر القمباز، الوشم الأخضر) لتشكل معًا قالبًا أسطوريا يعبر عن الالتحام بجسد الأرض، والطلوع منه، والعودة من الموت إلى الحياة. إن الهاجس الأساسي في شعر وليد سيف هو كيف نكتب ملحمة التاريخ الفلسطيني من منظور تموزي خالص، كيف نعيد الفلسطيني المطرود من فردوسه الأرضي (وطنه ومسقط رأسه) إلى بيته الأول؟

"زيد الياسين"

مسكونًا بالزعتر والمأساة

مسكونًا بعصافير الدم..

وبعض وجوه الموتى

(جارحة كالموسى..

شيقة تلهب مصطبة البيت)

"زيد الياسين"

مسكونًا برموز الطمي..

وستر القمباز (ص: 25)

ولتحقيق هذه العودة يبتكر سيف حكاية شعبية أسطورية عناصرها "زيد الياسين" و"خضرة"، واحتفال الطبيعة والنبات بزواجهما المتكرر. "خضرة" هي المعشوقة، وهي الأرض، في الوقت نفسه، و"زيد الياسين" هو العاشق والفدائي الذي يموت ليعود ويحيا من جديد، متزوجًا جسد الأرض، ومخصبًا فيها الحياة كل مرة.


هكذا يبدو الاحتفال الطبيعي – النباتي، في قصائد "وشم على ذراع خضرة"، ترجمةً لمحور الخصب والتجدد، الذي يسببه موت "زيد الياسين" وعودته إلى الحياة ثانية. ومن الواضح أن الشاعر يحاول توسيع هذه البؤرة الرمزية الأساسية في الشعر الفلسطيني، التي نعثر على بذورها الأولى في شعر عبد الكريم الكرمي (أبو سلمى)، كما نجد تطويرًا لها في قصائد كوكبة شعراء المقاومة الفلسطينية في الستينيات، وخصوًصًا في شعر محمود درويش. ويسعى وليد سيف إلى الوصول بتلك البؤرة الرمزية إلى مرتبة الرمز الأسطوري، رافعًا بذلك التجربة الفلسطينية إلى مقام التجربة الإنسانية الكونية، عبر إدخال التجربة الفلسطينية إلى مصهر الرموز الأسطورية التموزية التي تشير إلى أن في الموت حياة وإخصابًا لها وقيامة دائمة. ففي قصيدة "أعراس" نجد أن حكاية "إيزيس وأوزوريس" الفلسطينيين تصبح تعبيرًا عن حكاية الفلسطينيين وتجربتهم التاريخية، ونكبتهم المستمرة. كما أننا نجد أن حضور الطبيعة وفورانها مصحوبٌ بعوامل التهديد والقتل، وكذلك بحضور قمر الشاعر الإسباني فيدريكو غارسيا لوركا المتلصص، الشبق، القاتل، الملتبس الدلالة، في شعر لوركا، كما في شعر وليد سيف.

حين تعرَّت

وانغرس النهدان بصدر الريح

طالت أشجار الصفصاف

والتهبت أجفان القمر الداعر

حين امتدت في كل طريق غابة

والتمعت خلف الأغصان خناجر!

"يا خضرة ردّي يا خضرة..

من طرف الثوب عليك"

غطست خضرة في ماء النهر

فتنفست الدنيا..

عطرًا محمومًا وفجيعة! (ص: 28)

تشدد القصيدة، رغم حضور الفجيعة وعناصر المأساة، على الخصب والنماء نتيجة اتصال خضرة بالأرض. إن أسطورة إيزيس وأوزوريس هي الخُطاطة الرئيسية التي يبني عليها وليد سيف عمله الشعري هنا، رغم تطعيمه هذه الأسطورة بحكاية "خضرة".

ركضت خضرةُ..

لسعت قدماها الأرض العطشانة

فنما النعناع البري على كل

الجدران. (ص: 30)

إن الخاتمة الأولى للقصيدة تقوم بتحويل أسطورة الخصب الفرعونية إلى حكاية شعبية فلسطينية، يلعب فيها القمر المتلصص، دور المخبر، دور القاتل. 

وأمام الباب

صار القمر الغادر طفلًا..

يطرق باب الدار

فتّان اللثغة والقسمات

يسأل أن تفتح خضرة

تسقيه ماء. أو تطعمه كسرة!

....

"زيد الياسين"

تحت الأشجار الفارعة الخضراء

قرب الخصر

ظل مثقوب "أخضر"!

وجراح مزروعة!!! (ص: 33- 34)

نجد حضور قمر الشاعر الإسباني فيدريكو غارسيا لوركا، الملتبس الدلالة في شعر لوركا، كما في شعر وليد سيف



وإذا كان القسم الأول من القصيدة يقوم على أسطورة الخصب الفرعونية، فإن القسم الثاني يقوم على الحكاية الشعبية الفلسطينية "الست جبينة"، والأغنية الشعبية الفلسطينية التي تتحدث عن "البارودة"، في نوع من تخليق رموز أسطورية فلسطينية تلتصق بالأرض وتستوحي عناصر طبيعتها وحكاياتها وأغانيها ورموزها. إن أمل "جبينة" الذي لا يفتر بالعودة إلى أمها هو تعبير استعاري عن رغبة الفلسطيني بالعودة، كما أن الاستعانة بأغنية "البارودة" تزود الحكاية الشعبية بعنصر المقاومة الذي يبثه الشاعر في مفاصل قصيدته الملحمية، التي تتعالى فيها الأصوات والإيقاعات، وتتزاوج العناصر، وتندغم الرموز والحكايات الأسطورية والشعبية الفلسطينية. إن السمة الدائرية، التي تتمتع بها الأساطير التموزية، حيث نعود دائمًا إلى الزمن الأول، إلى البدايات، تفرض نفسها على بنية قصيدة وليد سيف، في الإيقاع الدائري، والعودة إلى الجملة المركزية الأولى التي تنبثق منها القصيدة، وتأثيرات أساطير الخصب الفرعونية والرافدينية والكنعانية. وتتضافر هذه التأثيرات لتشكيل فضاء رمزي فلسطيني طالع من حكايات الفلسطينيين وأغانيهم.

(طلّت البارودة والسبع ما طلّ

يا بوز البارودة من الندى مبتلّ) (ص: 45)

إن اختيار وليد سيف هذه الأغنية مقصودٌ تمامًا ليتطابق الوعي المقاوم وفعل الشهادة مع رموز الخصب ومعاني أساطيره.

تنقبض الكف الممدودة

تسقط في قاع العالم

تتفتح عشبًا بريًّا وصبايا

شعرًا ورصاصًا وحكايا!! (ص: 53)

في "وشم على ذراع خضرة" يزوج وليد أساطير الخصب بالحكايات الشعبية الفلسطينية، وفي القلب منها حكاية "الست جبينة" التي تحلم بالعودة وخيط الدم الذي يسيل من البارودة، مشكِّلًا البنية الرمزية الكاملة التي يقوم عليها عالمه الشعري. وإذا كانت "أعراس" القصيدة الأساسية التي أظن أن شعره يطلع منها، فهي أيضًا العمل الذي سيطور الشاعر ابتداءً منه "تغريبته الفلسطينية"، في الشعر والدراما.

ومع الوقت

يصبح صوت المطر المتساقط

فوق الجدران

سكينًا يحفر آذان رجال الشرطة!

كدبيب الوحشة والموت

ويجيء الشجر الأخضر

من كل الأنحاء

يحتل عيون الأطفال

وحارات القرية

حيث بدت كل الأشياء

تشتعل من الخضرة والماء:

الجرح النازف..

والأفراس الراعية على التلة..

والسحب الدكناء!! (ص: 64)

هذه العناصر موزعةٌ على قصائد "وشم على ذراع خضرة"، ففي "سوناتا" تحضر عوامل القتل المهددة، والاحتفال النباتي، وعناصر الخصب، والأغنية الشعبية.

حين انكسر العالم بين يديّ

وانفجر الجرح المدفون

الجرح السريّ

صار البدر رغيفًا في عينيّ

والوطن الموت..

الوطن الحيّ

يبحث عنه رجال الحرس الليليّ

داخل موّال بلديّ (ص: 6)

كما تحضر في "سوناتا" أخرى عناصر الاحتفال النباتي الطالعة من جسد امرأة ريفية.

مفتونًا بالموت

أستسلم للمطر اللاذع والأعشاب

من يحمل عني هذا الفرح الوحشيّ

هذا الشعب الطافح من جرحي البريّ (ص: 17)

كما تحضر عناصر القتل المهددة:

ويظل الوطن القاتل وطني المقتول

مطرودًا.. يبحث عنه رجال الحرس الليليّ

وبوليس الطرقات (ص: 19)

في قصيدة "أعراس"  نجد أن حكاية "إيزيس وأوزوريس" الفلسطينيين تصبح تعبيرًا عن حكاية الفلسطينيين وتجربتهم التاريخية، ونكبتهم المستمرة 



ومن عنصري الاحتفال النباتي وفوران الطبيعة وعناصر القتل المهددة ستتشكل بنية المجموعة التالية "تغريبة بني فلسطين"، التي تتبادل فيها تغريبة الشخص "زيد الياسين"، وتغريبة فلسطين، الوطن والأرض والشعب والهوية، الأدوار، حيث تتطابق التغريبتان، وتضيئان بعضهما، وتقود الواحدة منهما إلى الأخرى، في سياق من الأسطورة التي يقوم الشاعر بتخليقها في شعره، وملحمة الشعب التي يجهد في بنائها في عمله الشعري.

في "تغريبة بني فلسطين"4" ثلاث قصائد طويلة: "تغريبة زيد الياسين"، و"سيرة عبد الله بن صفية"، و"مقتل زيد الياسين على طرف المخيم"، وهي مكتوبة على التوالي في الأعوام: 1977، 1976، 1972. القصيدة الأخيرة مكتوبة في سياق أحداث أيلول الأسود، والمعارك التي اشتعلت بين منظمة التحرير الفلسطينية والجيش الأردني، وانتهت برحيل المقاومة الفلسطينية من الأردن إلى لبنان. وهي، وإن كانت طالعة من أجواء "وشم على ذراع خضرة"، وتستعيد قاموس تلك المجموعة الشعرية المتميزة، وصورها واستعاراتها المبتكرة، إلا أن حسَّ الفاجعة فيها أعلى وأكثر وضوحًا، ونبرة الغضب عالية، والشعور بالخذلان، وتخلي الشقيق والقريب عن الفلسطيني المطرود من أرض إلى أرض، هي الثيمة الأساسية التي يجري توسيع مداها والتشديد عليها في هذه القصيدة، كما في القصيدتين الأخريين.

واهًا يا أقمار الحزن الباردة الفضيّّة

يا زهرات المدن السحريّة..

حيث تعلّق خضرةُ

  .. فوق الجدران

اسمًا ممنوعًا .. وقصائد مسبيّة (ص: 121)

ورغم التعبير عن حس الخذلان العميق، فإن الشاعر يعود إلى الموتيف المركزي في مجموع قصائده، أي الإيمان العميق بانتصار الحياة على الموت، وقيامة الفلسطيني من دمه المسفوح على أيدي الإخوة الأعداء، مستعينًا مرة أخرى بأساطير الخصب ورموزه.

إذ تقفز خضرة

خارج سكين الزمن الباهت

في منطقة يسمح فيها بالتجوال

مثل غزال طاهر

فضيّ الجبهة والضلف

يركض أبدًا

في أكوان الخضرة والدهشة والرؤيا

مرحًا كفراشة (ص: 122 – 123)

لكن ارتفاع النبرة، وصخب الإيقاع، واللجوء إلى التعبير المباشر، يبدو واضحًا في قصيدة "سيرة عبد الله بن صفية"، كما في قصيدة "تغريبة زيد الياسين"، حيث تستجيب القصيدتان للشرط التاريخي الذي أحاط بزمن كتابتهما، أي بعد اندلاع الحرب الأهلية اللبنانية، وسقوط مخيم تل الزعتر، وتوجُّه مصر لإقامة سلام وتطبيع سياسي مع الكيان الصهيوني عام 1977، وشعور الفلسطيني بتعمُّق الخذلان والغربة في الأرض العربية. ومع أن وليد سيف يظلُّ وفيًّا لقاموسه الشعري، ورموز الماء والعشب والخضرة والطبيعة والخصب وتجدد الحياة، إلا أن النبرة المباشرة تطغى على هذه المرحلة من شعره. فقصيدة "سيرة عبد الله بن صفية" هي معادلٌ رمزيٌّ وردٌّ في الوقت نفسه على ذبح الفلسطينيّ، ومحاولات طرده المتكررة من هواء العالم العربي، في تلك المرحلة التاريخية المأساوية من صراع الفلسطيني مع الإخوة. والصوتُ الصارخ في هذه القصيدة يكرر التشديد على فلسطينيته، ومقاومته للمحو، وانتصار العنق على السكين.

يا عبد الله بن صفية

حين يجيء إليك الشرطيان

الموكلُ لهما التحقيق مع الجثث الثورية

قل لهما: إنك فلسطيني وابن فلسطينية

قل لهما: أمك ماتت تحت بساطير القوات المدنية

وأخوك يموت الآن هنالك في إحدى الغرف السرية

في سجن الرملة، تحت هراوات يهودي من روسيّة

وأخوك الثاني مات من العطش القاتل في الأرض الصحراويّة (ص: 73)

يتواصل صخب الإيقاع، وارتفاع النبرة، والصوت المتفجِّع، المتسائل، الغاضب، في قصيدة "تغريبة زيد الياسين" التي تسعى إلى كتابة ملحمة التغريبة الفلسطينية، والتعبير عن جرحه النازف، ورحيله من عاصمة عربية إلى أخرى، تطارده الشرطة وكلاب البوليس السري. لكن هذه القصيدة تبدو، بالمقارنة مع "سيرة عبد الله بن صفية"، أقرب إلى عوالم "وشم على ذراع خضرة"، واستخدامها لرموز الخصب، واتكائها على حكاية "زيد الياسين" و"خضرة". وهو ما يوازن، في النبرة والإيقاع، والقاموس الشعري، بين النبرة العالية ومحاولة بناء أعماق أسطورية، ورموزٍ تدل على تجدد الحياة، والالتحام بحسد الأرض، والقيامة من الموت، وانتصار الجرح على السكين، وفتح كوَّة في الحاضر اليائس الدامي. تعود "خَضرةُ" إلى الظهور في اللحظة التي يتعرض فيها "زيد الياسين" لأسئلة الشرطي المتشككة، فتساعده على الصمود وتشدُّ من عزيمته.

فردت في الريح جديلتها

فانتشرت في الكون عصافير الكون الفضيّ

ضحكت، فانتبه الوردُ وطار إلى الشفتين

فمشت فوق الشاطئ فانتقل البحر إلى الكتفين (ص: 14)

يبدو وليد سيف، كما هو واضح في تحولات تجربته الشعرية، وفي مسعاه إلى العثور على صوته الخاص ضمن أقرانه من الشعراء العرب، في سبعينيات القرن الماضي، وفيًّا للتيار التموزي، الذي يؤمن بالخصب والتجدد، وطلوع الحياة من الموت. لكنه يزوج الأساطير التموزيَّة للحكايات الشعبية والأغاني الفلسطينية التي تحتفل بالحياة، وتتغنّى بالشهادة، والتضحية بالحياة، لتحقيق عودة الفلسطيني إلى أرضه المسلوبة، إلى فردوسه المفقود.

 

هوامش:

  1. لم ينشر وليد سيف أيَّ مجموعة شعرية بعد "تغريبة بني فلسطين" (1979)، ولكنه نشر في ثمانينيات القرن الماضي قصيدتين: "البحث عن عبد الله البري"، و"الحب ثانية"، في صحيفة "الدستور" الأردنية، على ما أذكر.  
  2. وليد سيف، قصائد في زمن الفتح، دار الطليعة، بيروت، 1969.
  3. وليد سيف، وشم على ذراع خضرة، دار العودة، بيروت، 1971.
  4.  وليد سيف، تغريبة بني فلسطين، دار العودة، بيروت، 1979.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.