}

عن سقوط الرؤية العولميَّة الغربية: الهويَّة عازلًا بين البشر

فخري صالح 30 مايو 2023
آراء عن سقوط الرؤية العولميَّة الغربية: الهويَّة عازلًا بين البشر
(GettyImages)
نحن نعيش في زمن الرماد، حيث تتساقط الأحلام، وتشحب الآمال، وتسيطر على البشرية الصراعات، وصعود النزعات الإمبراطورية، والسعي إلى الهيمنة، والتقاتل على الموارد، وتفشي موجات كراهية الآخر، وتقوقع البشر على هوياتهم الضيقة، وصعود نوع من الخطاب يعزز التنميطات، وميكانيزمات تصوير الآخرين، المغايرين لنا في اللون أو العرق أو الجنس أو الثقافة. هكذا ينغلق البشر على أنفسهم، ويتعالى اتهام الآخرين بأنهم يهددون استقرار المجتمعات، التي وفدوا إليها، ربما منذ عشرات الأعوام. ويمكن أن نشهد هذا الوضع المؤسف الذي انتهت إليه البشرية، خلال العقدين الماضيين، في جهات الأرض الأربع، وفي شمال العالم وجنوبه، في شرقه وغربه؛ حيث تتعالى أصوات العزل، والإقصاء، والتمييز، والرغبة في الانتقام من الآخر المختلف، وصولًا إلى طرده، وربما قتله.

لقد ظنَّ الكثيرون منا، أو أنهم توهَّموا، أو جرى إيهامهم، مع انتشار العولمة الاقتصادية، وكذلك السياسية، والثقافية، خلال العقود القليلة الماضية، بأن العولمة هي قدر البشرية، ومآلها الأخير، وأن حدود الدول، والجغرافيات، وحركة رؤوس الأموال، وكذلك حدود الثقافات، أصبحت سائلة، رجراجة، جرى محوها بالتدريج، لصالح مجتمع عالمي موحد، وثقافة استهلاكية، يغلب عليها النمط الأميركي. تمامًا، كما حدث عند سقوط الاتحاد السوفياتي في مطلع تسعينيات القرن الماضي، فصرخ المفكر الأميركي، من أصل ياباني، فرانسيس فوكوياما، معلنًا نهاية التاريخ، وانتصار الغرب، الديموقراطي الليبرالي، مرة واحدة وإلى الأبد.

لكننا نشهد الآن سقوط هذه الرؤية العولميَّة، الليبرالية، الغربية، وتجوُّفها من الداخل، وتحولها إلى مجرد عولمة اقتصادية، استهلاكية، ورأسمالية متوحشة، تثير الحروب والنزاعات في العالم، وتسعى، بشقِّ الأنفس، إلى إفقار الشعوب، التي منَّتها برخاء اقتصادي، ورفاهية، تتبع الانتقال السريع لرؤوس الأموال، وسهولة وصول السلع إلى مستهلكيها، وتوحُّد العالم تحت راية الغرب، بقيادة أميركا، زعيمة العالم، والقوة المسيطرة الوحيدة على مقدَّرات البشرية، ومصيرها المحتوم. لكن هذا الحلم الأميركي – الغربي، أو الوهم الذي أشاعه شكل جديد من الإمبريالية الزاحفة، التي تسيطر من خلال الاقتصاد، والدبلوماسية، بدل الجيوش التي تحتل، وتدير البلاد التي تحتلها، بدأ يتهاوى. فهو نموذج للهيمنة، والسيطرة، لا يأخذ في الحسبان حاجات الشعوب، والأمم، والثقافات، والبشر الآخرين عمومًا.

ونحن نلاحظ أن سقوط هذا النموذج الغربي من العولمة، يجلب معه حروبًا، وصراعات، داخل الغرب، وفي مجتمعاته، وخارج الغرب، وعلى حدوده، حيث تنتعش نزعات التطرُّف، وكراهية الأجانب، والعداء للمهاجرين، وصعود اليمين المتطرف، وتنامي قوته، في أميركا وكذلك في أوروبا، مولِّدًا في الوقت نفسه انتعاش سياسات الهويَّة، وصعود الهويَّات القوميَّة، وكذلك العرقيَّة، والطائفية، والمناطقيَّة، واللغوية، في مناطق شاسعة من الكرة الأرضية. فعلى عكس ما قدَّر منظرو العولمة، فإن هذه الهويَّات التي ظننا أنها ستضعف، لتحل محلها هويَّة عولميَّة جديدة، بدأت في الصعود، وباتت أقوى مما كانت عليه في السابق. لقد عوَّلت العولمة على ثورة تكنولوجيا المعلومات، وهيمنة برامج ووسائط التواصل الاجتماعي، مثل فيسبوك، وتويتر، وإنستغرام، وغيرها من برامج ومواقع، باتت تتحكم في طرق تواصل البشر وأذواقهم وخياراتهم، وطرق نظرهم إلى العالم. لكن هذه الثورة التكنولوجية، والمعلوماتيَّة، قادت إلى نوع من تعزيز الهويات الفرعية، وكذلك القومية، المتعصبة، والمتطرفة، والمعادية للآخر، في كثير من الأحيان. فإذا كان هذا الانفجار المعلوماتي، والتطوّر المتسارع لتكنولوجيا التواصل، قد قرَّب البشر من بعضهم، وحوَّل العالم إلى قرية كونيَّة، وألغى الفواصل الجغرافية، ودفع البشر إلى العيش في عالم افتراضي، ونوعٍ من الحضور المستمر عبر الشاشات، فإنه باعد بينهم، وقاد إلى تقوقعهم، والتفافهم حول هوياتهم، الأصغر فالأصغر، عبر الاصطفافات، والتوافقات، التي يجري تأليفها، وبناؤها، وتمتينها، والذهاب بها إلى حدودها القصوى، من خلال وسائط التواصل الاجتماعي.

نشهد الآن سقوط الرؤية العولميَّة، الليبرالية، الغربية، وتجوُّفها من الداخل، وتحولها إلى مجرد عولمة اقتصادية، استهلاكية، ورأسمالية متوحشة، تثير الحروب والنزاعات في العالم، وتسعى، بشقِّ الأنفس، إلى إفقار الشعوب

لقد أصبحت الهوية، بوصفها الجدار العازل الذي يفصل المجموعات الجغرافية والإثنيَّة والثقافية، عاملًا متجددًا وحاسمًا خلال السنوات الأخيرة. وهي، وإن أطلت برأسها بقوة خلال العقد الأخير من القرن العشرين، فإنها تقيم في أساس الحروب الناشبة، والتوترات السياسية والوجودية، التي تقبض على عصب العلاقات البشرية في اللحظة الراهنة.
لقد أصدر المفكر الأميركي صمويل هنتنغتون (1927- 2008)، بعد كتابه الشهير "صراع الحضارات" (1996)، كتابه "من نحن؟" (2004) يتساءل فيه عن هوية أميركا، وعن المكونات الأساسية لتلك الهوية. وهذا يعني أن سؤال الهوية، أو سؤال الآخر، مطروح بقوة في قلب القوة القطبية الوحيدة، حتى هذه اللحظة، في العالم المعاصر. وإذا كان هنتنغتون، الذي يوصف بأنه مشعلُ نار الفتن في العالم في العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، برؤيته العرقية، والثقافية، اليمينية المحافظة، قد قام بالتنظير للصراع الحضاري - الإثني، متحدثًا عن حدود دموية للصراع بين الحضارات والثقافات، فإنه يختم مسيرته الأكاديمية، وتنظيره الاستراتيجي، بتخوفه على تحلل الهوية الأميركية، المسيحية، البروتستانتية، الإنكليزية - الساكسونية الثقافة واللغة. وهنا تكمن خطورةُ هذه السياسات القائمة على الهوية، وكارثيتُّها، وقوتُها التدميرية، وطاقتُها غير المحدودة على إثارة نزعات الكراهية بين الشعوب، بحيث تحولت، كما يشير أمين معلوف إلى "هويات قاتلة".

انطلاقًا من التصوّر السابق، تكتسب ثنائية العولمة والهوية ثقلًا متزايدًا في تحليلات مثقفينا ومفكرينا لحالة العالم العربي خلال السنوات الأخيرة. فهي من حيث الوعي النظري تمثل أداة فحص لما آل إليه العالم العربي منذ تسعينيات القرن الماضي. أما على الصعيد الأيديولوجي فهي وسيلة من وسائل مقاومة زحف الاقتصادات المتطورة على منطقة من العالم لم تدخل عصر الحداثة بعد، فيما دخل العالم المتقدم عصر ما بعد الحداثة، وما بعد الصناعة، وغيرها من المابعديات.

لكن التطور المدوّخ في التكنولوجيا، والمرور من ثورة علمية إلى ثورة تالية، لم يمنع عددًا من المفكرين والمثقفين، في استبصارهم لمستقبل العرب، من اللجوء، مرة بعد مرة، إلى بحث ثنائية العلاقة بين العرب والغرب، التي ما فتئت تطل برأسها في أوقات التأزم الحضاري، والخوف على تفتت الهوية في زمان صعود الغرب الرأسمالي ما بعد الحديث. وهم يتحدثون على الدوام عن حزمة من المفاهيم، التي يستخدمونها لحل إشكاليات العلاقة بين العرب والغرب، مثل الهوية والخصوصية، والعولمة الاقتصادية والسياسية والثقافية. وهي مفاهيم متحولة ذات طبيعة مراوغة يصعب على الباحثين ضبطها، كما أنها تستدعي ضرورة إعادة تعريف الغرب، والخروج من التحديد الجغرافي التقليدي إلى مدى أرحب يضمُّ إلى الغرب بعضَ الشرق، الذي أصبح جزءًا من الاقتصاد المعولم (اليابان، وكوريا الجنوبية، وسنغافورة، وربما الصين)، وكذلك عدم النظر إلى الغرب بوصفه كلًّا موحدًا له هويته الثابتة المحددة.

في هذا الحقل، السريع التغير والتبدل، من تحول التعريفات الرائجة، وتخلخلها، وعدم صلاحيتها في زمان يلهث وراء التحولات في المفاهيم، والأنساق، وطبيعة المعرفة، وأشكال انتقالها، تبدو مهمة تعيين التحديات القادمة، التي تتطلب من العرب حلولًا، وأشكال علاج وتعامل، شديدة الصعوبة. ومن الواضح أن تحديات العولمة تتمثل بالنسبة للمفكرين والمثقفين العرب في تهديد الهوية والعمل على "تفكيكها"، واستبدالها بهويات فرعية تمكن الغرب من الهيمنة، وفتح الأسواق العالم ثالثية على مصراعيها أمام السلع التي تنتجها الشركات المتعددة الجنسية، التي تتخذ من الغرب مراكز لها بالأساس. بهذا المعنى تبدو الهيمنة السياسية، وعملية "تفكيك الهوية"، مجرد وسائل لتحقيق الهيمنة الاقتصادية، وتحويل بلدان العالم الثالث إلى أسواق استهلاكية لمنتجات الشركات المتعددة الجنسية.

يختم صمويل هنتنغتون مسيرته الأكاديمية وتنظيره الاستراتيجي بكتابه "من نحن"، بتخوفه على تحلل الهوية الأميركية، المسيحية، البروتستانتية، الإنكليزية - الساكسونية الثقافة واللغة


لكننا بهذا التفسير الاقتصادي لا نأتي على ذكر الحلول السياسية المتصلة بالتخفيف من خطر هذه التحديات، في زمان أصبحت فيه قبضة الدولة أو ما يسمى بالـ Nation State أقل قدرة على التحكم في العمليات الاقتصادية، التي تجري على أرضها، ناهيك عما يحدث على صعيد الإعلام، واكتساب المعرفة، والوصول إلى المعلومة. والأهم أنه في غياب مجتمع مدني حقيقي في الوطن العربي، تظل الدولة هي صاحبة القرار في رسم السياسات على صعيد المجتمع والاقتصاد والثقافة والسياسة. إن جماعات المصالح غائبة عن مجال صناعة القرار، ومن ثمَّ فإن الدولة في الوطن العربي تصبح عرضة لضغوط واسعة تمارسها سياسات المصالح والشركات المتعددة الجنسية عن طريق مجالس إداراتها، وممثليها، من الاقتصاديين المحليين، وربما عن طريق سياسيين، غربيين، وغير غربيين. 

أود أن أبدي هنا بعض الملاحظات، التي أظنها مهمة، وتتصل بسياق التصورات العامة التي ناقشتها في الفقرات السابقة، بخصوص أدوار المثقفين وعلاقتهم بالسلطة في العالم العربي. فمن وجهة نظري، يتمثل جزءٌ أساسي من معضلة علاقة المجتمع بالسلطة في العالم العربي بطبيعة الأدوار التي يلعبها المثقف العربي في علاقته بالسلطة من جهة، وعلاقته بالمجتمع المدني، أو بالجماهير، من جهة أخرى. فعلى الرغم من ضعف المجتمع المدني في بلادنا بعامة، وغلبة الهويات الفرعية، من طائفية ومناطقية وعشائرية، وغيرها من الهويات ذات الطابع البدائي، إلا أن ضعف دور المثقفين، وحتى ما يسمى "عمال المعرفة" في مفاهيم ما بعد الحداثة، وكذلك ضعف صلاتهم بالمجتمع المدني ومؤسساته المختلفة، يجعل من أدوار المثقفين التحريرية، التي تدفع إلى تقدم المجتمعات وتحضرها، شبه غائبة. هكذا يغيب الدور التنويري، التحريري، للمثقف الذي يشخِّص، للمجتمع والسلطة، الطرق البديلة، خصوصًا في مراحل الأزمات وافتقاد الطريق.  

إن عدم تشكُّل قاعدة اجتماعية للمثقفين يعرضهم للاستتباع، والترهيب والترغيب، من قبل سلطات عربية لا تؤمن بالديموقراطية وتداول السلطة، وحرية الرأي والتعبير. ولو أننا نظرنا إلى علاقة المثقف بالسلطة، على مدار السبعين عامًا الماضية، التي هي عمر معظم الاستقلالات العربية، فسنجد أن هذه العلاقة قد اتخذت طابعًا مشوَّهًا. فإما أن يكون المثقف مقيمًا في المعارضة، محارَبًا ومنبوذًا، أو مسجونًا، أو أن يكون جزءًا من آلة السلطة، ترسًا صغيرًا في ماكينتها الجهنمية. لا مكان هناك للمثقف الحر الذي يقول لا للسلطة، سواء كانت في الحكم أو المعارضة. لا مكان في تاريخ العرب المعاصرين للمثقف الضمير الذي يبصِّر السلطة والمعارضة بأخطائهما، وما جرتاه على المجتمعات العربية من كوارث، خصوصًا أن السلطة قد تصير معارضة بعد أن تركب المعارضة الدبابات، أو صناديق الانتخابات، لتستولي على السلطة.    

ومع ما في التعميم السابق من إمكانات خطأ، فإن ثمة نهجًا عامًّا يمكن العثور عليه في علاقة المثقف بالسلطة. ونحن إذا حاولنا تأمل علاقة المثقف العربي المعاصر بالحرية سنجد أن ثمة أنواعًا من المثقفين، لا نوعًا واحدًا، وهؤلاء يتفاوتون حسب تصوراتهم لأدوارهم كمثقفين، وطبيعة اقترابهم أو بعدهم عن السلطة، أو حتى علاقتهم بالفئات المعارضة للسلطة الحاكمة في بلدانهم. لكن مشكلة المثقف العربي المعاصر أنه سعى لكي يكون جزءًا من السلطة خلال القرن الماضي، وأصبح بالفعل جزءًا منها، أو ترسًا في آلتها، في بعض الأحيان، مما أثر على وظيفته كمثقف نقدي له رسالته التي يسعى إلى تحقيقها في الحياة العربية المعاصرة. ولكي لا نغمط المثقفين دورهم، يمكن القول إن ثمة مثقفين كانوا راغبين فعلًا بالقيام بهذا الدور النقدي، إلا أن ضغط الحياة اليومية، وتوحش أداة قمع السلطة، في بعض البلدان العربية، وتطور آليات الاستتباع، واشتغال لعبة الترغيب والترهيب، وقصر نفس المثقف العربي، قد أثمرت فشلًا ذريعًا للمهمة الرساليَّة، التي ينبغي أن ينذر لها المثقف نفسه، على صعيد الخطاب والنظرية. لكن الواقع جرف هؤلاء وجعلهم يتحولون إلى مثقفين تقنويين في خدمة السلطة، أو حتى في خدمة الفئات المعارضة، التي تدفع لهم أجرهم وتصطفيهم، بصورة أو أخرى.

ها هو العالم العربي يجني ثمن أخطاء السياسيين الذين أبعدوا المثقفين، ومنعوهم من ممارسة أدوارهم الفاعلة في التشكيلات السياسية ــ الاجتماعية في المجتمعات العربية

لقد ذهب الحلم النهضوي بمثقف قادر على مراقبة السلطة، والتقليص من دورها على حساب المجتمع والمؤسسات المدنية، ودخلت النخب الثقافية الديموقراطية والليبرالية حالة سبات، لا أدري متى تفيق منها. فيما نشطت النخب الدينية، أو المثقفون التوفيقيون الذين يقدمون تنازلات واضحة للفكر السلفي، الذي يمارس تأثيرًا شديد القوة على الشارع. وحتى لا نلوم المثقف العربي، الطامح إلى صعود مؤسسات المجتمع المدني، وتبلور التجارب الديموقراطية، في العالم العربي، علينا أن نذكِّر أن السلطات العربية الحاكمة لم تهمش دور المثقف فقط بل حاولت إلحاقه وتمييع مواقفه، وسحقته في بعض الأحيان، وحولته إلى هلام، إن لم تحوله إلى بوق وببغاء يمتدح سياساتها الكارثية على صعيد السياسة والاقتصاد والمجتمع. ولا شك في أن هذه المؤسسات الحاكمة خسرت المثقف، بعد أن حولته إلى شخص تابع يمتدح، أو مثقف هامشي يناصبها العداء. وها هو العالم العربي يجني ثمن أخطاء السياسيين الذين أبعدوا المثقفين، ومنعوهم من ممارسة أدوارهم الفاعلة في التشكيلات السياسية ــ الاجتماعية في المجتمعات العربية.

هكذا، وفي غياب مؤسسات المجتمع المدني الفاعلة، وفي ظل تصاعد الأيديولوجيات الدينية، (بكافة تلاوينها، وغاياتها، وطرق نظرها إلى الحكم، وشكل الدولة، وسبل تسيير المجتمع والاقتصاد)، التي يعتقد معتنقوها أنهم يملكون الحقيقة المطلقة، سوف يكون دور المثقف شديد الضآلة والهامشية. بل إن هذا الدور مرشح للتآكل، أكثر فأكثر، في ظل اشتداد الأزمات السياسية والاقتصادية والاجتماعية في العالم العربي. نعم سيبقى هناك مثقفون يتمتعون بالمصداقية والجرأة على قول الحقيقة، لكن أصواتهم، في ظل هيمنة الإعلام والإعلام المضاد، ستظل ضعيفة، ولن تستطيع الوصول إلى آذان الناس، وسط الصخب والضجيج الذي يتعالى حولها يكاد يمحوها.

انطلاقًا من الإشارات السابقة، تتوزَّع مقالات هذا الكتاب على سياقات معرفية، وانشغالات فكرية وثقافية، متعددة، تتصل، في جانب من جوانبها، بالتغيرات المتسارعة التي تضرب بعصاها السحرية عالمنا المعاصر، وبانفجار الصراعات، والحروب، والنزاعات، التي ترتكز على صراعات الهويَّة، كما على التقاتل على مناطق النفوذ، السياسي، والاقتصادي، في عالمٍ يشهد بروز أقطاب سياسية واقتصادية، وإمبرياليات جديدة، وقديمة، في الآن نفسه، تسعى إلى منافسة قطب العالم الأوحد، الولايات المتحدة، الذي بقي يتمتع، وعلى مدار ثلاثة عقود من الزمن، أي منذ سقوط الاتحاد السوفياتي، عام 1991، بما يسميه أمين معلوف "الأعلويَّة" السياسية، أو ما اصطلح على تسميته بـ "شرطيِّ العالم". ففي ضوء هذه التحولات، والانزياحات، وتغير خرائط التحالفات والاصطفافات، على صعيد السياسة والاقتصاد، تلعب الأفكار، والتنظيرات، وتأمل أحوال العالم، وصراعاته، أدوارًا أساسية في رسم علامات التحوُّل.

يصدق هذا الكلام على ما يحدث في جهات الأرض الأربع، كما يصدق على العالم العربي، الذي ترجُّه، منذ حوالي العقدين من الزمن، فوضى النزاعات، والحروب الأهلية، الصائتة أو الصامتة، كما تهدد كياناته القائمة، بالتفتت والتشرذم، وانهيار السلطة المركزية، وتحول بعض دوله إلى دول مفلسة، وفاشلة، لا تحقق الأمن السياسي، أو الاجتماعي، أو الاقتصادي، لمجموع السكان الذين ينتمون إلى تلك الكيانات والدول، التي تعاني شروخًا عميقة، وتحللًا للعقد الاجتماعي الذي ربط السلطات والشعوب في هذه الدول، بعد الاستقلال.

من هنا، تبدو مقالات هذا الكتاب، التي كتب بعضها قبل ما يزيد على ربع قرن، فيما كتب بعضها الآخر خلال السنتين أو الثلاث الأخيرة، مشغولة بالجوانب الفكرية، والمعرفية، لهذا التغير الذي يشهده عالمنا المعاصر، ومن ضمنه منطقتنا العربية، التي تعصف بها رياح التغيير، سواءٌ على صعيد السياسة، أو الاجتماع الإنساني، أو الشواغل الفكرية والثقافية، التي ما زالت، رغم كل التصدعات التي أصابت العالم من حولنا، صدى، وتقليدًا، ونقلًا لما ينتجه مفكرو الغرب ومثقفوه، دون أن نعي السياقات السياسية، والمجتمعية، والأيديولوجية، التي تحدَّرت منها تلك الأفكار والشواغل، والتنظيرات، ومحاولات البحث عن حلول لمجتمعات تختلف عن مجتمعاتنا، وسياقات حضارية تسعى إلى الإجابة على أسئلة مختلفة عن الأسئلة التي نسألها، ونحاول البحث لها عن أجوبة في هذه المنطقة من العالم، التي ما زالت مسكونة بصراعات الماضي، البعيد، غير قادرة على النظر إلى مشكلات الحاضر، والبحث عن حلول للأفراد والجماعات، والدول، والأقاليم، التي يختلف راهنها عن ماضيها، وعليها أن تبحث عن القواسم المشتركة، التي تجمعها، وتبني مجتمعات مدنية، قادرة على التعايش المشترك، بدل العودة إلى ثارات الماضي البعيد، الذي نأى، لكنننا ما زلنا نفكر فيه وكأنه مقيمٌ بيننا، لا يحول ولا يزول.

يكمن بعضٌ من تفسير الأزمة التي نعيشها الآن، ومنذ حوالي نصف قرن، وربما أكثر، أن رؤوسنا تتجه إلى الخلف، وعيوننا تنظر باتجاه ما مضى. ليس هناك للأسف تفكير جدي بالحاضر ومشكلاته، وحلول تطلع مما يواجهنا من معضلات تعترض طريقنا كعرب معاصرين، يسعون للعيش في زمان مضطرب. وما أقصده بهذا أننا لا نملك مشروعًا طالعًا من مشكلات الراهن وتعقيداته، مصنوعًا من خبز يومنا. والحلول التي نستدعيها، عندما نواجه هذا الهجوم المستمر علينا، تحسب في خانة الهروب، وعدم الرغبة في مواجهة المشكلات، والبحث عن طرق لتفكيكها وإيجاد مخرج منها. وسبب هذا الهروب يكمن في أن بعضنا يعتقد جازمًا أن ما صلحت به الأمة في الماضي تصلح به في الحاضر. وتلك معضلتنا التي ستظل تجر علينا الكارثة تلو الكارثة ونحن نعبر من مأزق إلى مأزق. 

*من تقديم كتابي، الذي يصدر قريبا عن الدار الأهلية في عمان، بعنوان: تحت سماء رمادية: المنفى، الاستشراق، إنسان العصر العاري، ما بعد الحداثة، ومقالات أخرى.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.