ومن بين روايات هاني نقشبندي التي أثارت الجدل وتعرضت للرقابة والمنع، منذ لحظة صدورها، نذكر روايته الأولى "اختلاس" (2007)، وفيها يتطرق لواقع المجتمع السعودي في صورته المحافظة المنجذبة إلى موروث يجدد سطوته، الموسومة بالتناقض والشيزوفرينيا، على مستوى ما يطاول المرأة من إهمال وما يعيشه الرجل من سلطة مطلقة، وروايته الثانية "سلام" (2009)، وفيها يتفاعل الروائي مع تاريخ الأندلس، من زاوية مغايرة، وذلك على مستوى طبيعة الرؤية إلى تاريخ الأندلس، كما سيأتي.
بعد هاتين الروايتين، صدرت للروائي الراحل مجموعة أخرى من الروايات، كان آخرها رواية "قصة حلم"، التي تحولت إلى مسلسل تلفزيوني، وهي روايات، تتفاوت موضوعاتها وتتعدد، بين التطرف الديني، والتعصب والكراهية، والحياة والموت، والأنا والآخر، وغيرها من القضايا...
وفي اعتقادي أن رواية "سلام" تبقى من بين أهم روايات نقشبندي، لاعتبارات مختلفة، فهي رواية تمكنت، في وقت قياسي، من أن تلفت إليها الأنظار والتحاليل والمتابعات النقدية، بشكل واسع ومضيء، منذ لحظة صدورها، اعتبارًا، وبإجماع من كتبوا عنها، لجرأة موضوعها ولخصوصية فكرتها من ناحية، وأيضًا للجهد اللافت الذي بذله فيها كاتبها، على مستوى البحث والتقصي التاريخي والاجتماعي، من ناحية ثانية، حيث اتخذت رواية "سلام"، من الأندلس، ومن التواجد العربي الإسلامي فيه، مجالًا لبناء روائي- تخييلي- تاريخي، مؤسس على ترميز التاريخ وأسطرته، ربما لكون هذا النموذج، حسب الرواية، هو الأسوأ في تاريخ الصراع بين الأديان، حيث تقدم الرواية تاريخ الأندلس، من منظور مغاير لما ألفناه، في بعض الكتابات التاريخية وفي الروايات التاريخية العربية.
ففي الوقت الذي راهنت فيه الرواية السعودية، في مجموعة من نصوصها الجديدة، على نقد المجتمع السعودي وتعريته من الداخل، تمكن هاني نقشبندي في روايته "سلام" من السفر بعيدا، والغوص في عمق الوعي التاريخي العربي والإنساني بشكل عام، فحتى "المرأة" التي شكلت بؤرة روايته الأولى "اختلاس"، نجدها، هذه المرة، غائبة بشكل لافت في روايته الثانية "سلام"، كصورة وصوت...
صحيح أن روايات عربية كثيرة قد استلهمت تاريخ الأندلس، في تجلياته، وفي فتراته وأوجهه المختلفة، التاريخية والسياسية والاجتماعية والفكرية، حيث اختارت كل رواية زاوية، أو زوايا معينة، لبناء فضائها التخييلي، ولاستعادة جوانب من تاريخ الأندلس، وشخصياته التاريخية، وسير مدنه، إلا أن رواية "سلام"، وإن شكلت فيها المادة التاريخية حيزًا ضئيلًا فقط (لا يتجاوز خمسة بالمائة من مجمل العمل، حسب الكاتب نفسه)، فقد تجسد بعض الاختلاف مع ما سبقها من نصوص روائية عربية، استلهمت، هي أيضا، التاريخ، بالنظر لكونها رواية اختارت النفاذ إلى عمق التاريخ، انطلاقا من لحظة الحاضر، ومن استشراف المستقبل، دون أن تكون رواية تاريخية بامتياز، وإن كان السؤال التاريخي يطفو بشكل لافت على سطح محكيها العام، وذلك بغاية تحرير التاريخ من سلطة الوهمي، وأيضًا لتنزع عنه تلك الصورة التقديسية والوثنية، كما يتصورها البعض، من خلال الحلم بالفردوس المفقود، وكما يتصورها الأمير الشاب في الرواية، من خلال رغبته في بناء قصر بالرياض، شبيه بقصر الحمراء بغرناطة، هو الذي يوجه خطابه لسلام، قائلا: "إن كنت تريد أن تعرف السر وراء رغبتي في الحمراء دون غيره، قلت لأنه رمز مجدنا. جزء من ذاكرتنا... هو أندلسنا الذي ضاع، فما تبقى منه غير هذا القصر" (ص 226). والرواية بذلك، إنما تتوخى إعادة صوغ سؤال الأديان والحضارات والتعايش بين الهويات المختلفة، في مراهنتها على خلخلة ذلك الانشداد العربي التاريخي والنوستالجي بالأندلس، باعتباره انشدادًا غير مبرر، لا حضاريًا، ولا تاريخيًا، ولا وجدانيًا.
وبذلك تختلف رواية "سلام"، في كثير من أفكارها المركزية، عن روايات عربية أخرى، استوحت تاريخ الأندلس في بعض تجلياته المختلفة، على اعتبار أنها رواية تتغيا استثمار التاريخ، للحديث عن الراهن، هنا والآن، واستشراف المستقبل الإنساني، من خلال تمرير أطروحتها المركزية، والمتمثلة بالأساس في الدعوة إلى إعادة قراءة التاريخ العربي في الأندلس روائيا، بغية اكتشاف حقيقة التواجد العربي الإسلامي هناك، وهي حالة تاريخية تقدمها الرواية بأشكال مختلفة، ضمنية أحيانًا ومباشرة أحيانًا أخرى، وذلك في صورة اصطدام وصراع مع الآخر، بغض النظر عن المبرر الديني، الذي يؤطر قصة فتح المسلمين لبلاد الأندلس، والذي تجده الرواية، من خلال ساردها المتواري، مبررًا غير صحيح، لكونه ينبني في عمقه الروائي على خطأ تاريخي، فهو صراع تتصوره الرواية ممتدًا في تاريخنا الراهن، وتخشى استمراره في المستقبل.
هكذا، إذًا، تعيد رواية "سلام" تفكيك سؤال "الحقيقي" و"الوهمي" في الكتابة الروائية، من خلال إعادة قراءة جوانب من التاريخ العربي الإسلامي في الأندلس: "إذا كان التاريخ صادقًا، فيمكن أن يكون كاذبًا ومضللًا بالقدر ذاته"، يقول ابن برجان، معقبًا على قول رماح بأن "تاريخ العرب في الأندلس شيء عظيم" (ص101)، وذلك وفق نظرة نقدية، لا تلغي التوسل بدرجة كبيرة من الجرأة في إعادة البحث في فترة زمنية، وفي حقبة حضارية أسالت حبرًا كثيرًا.
لقد جاءت رواية "سلام" محملة بسؤال كبير يستفز به الروائي قارئها، من خلال أطروحة روائية واضحة، تمكن الكاتب من تمريرها بطرائق روائية- تخييلية متنوعة، مستلهما في ذلك محطات وصورا محددة من تاريخ التواجد العربي في الأندلس (الماضي) من أجل مساءلة "الحاضر"، واستشراف المستقبل، وذلك من خلال التنبيه إلى مزالقه وأوهامه الماضية، حتى لا يتكرر الصراع مستقبلًا، وهو صراع تجسده الرواية في صورته العقائدية، وفي مرجعيته الدينية، بين فاتح، وقد تحول حسب الرواية، إلى "محتل وغاز" (الإسلام) وبين بلاد الأندلس (المسيحية). يقول سلام موجهًا كلامه للأمير عبد الرحمن: "هل تريد أن تجسّد هذا العار مرة أخرى أيها الشاب؟ هل تريد أن تزيل الجرس من فوق الحمراء... أم يبقى الجرس؟"(ص 233).
تتأسس رواية "سلام"، في بناء محكيها العام، على أربعة شخصيات رئيسة: الأمير السعودي الشاب، رماح، ابن برجان، سلام، إلى جانب السائق بيدرو، بدوره الباهت في الرواية. وتعكس شخصيتا الأمير وسلام، بدرجة أولى، وعي الرواية وضميرها، دون أن نقلل من وظائف الشخصيتين الأخريين، إلى جانب الدور المركزي، أيضا، الذي يلعبه السارد المتواري في الرواية، باعتباره يجسد قناعا للكاتب الضمني، بدوره الكبير والمؤثر في توجيه دفة الحكاية وخلق الصراع وبناء الدلالات والتباسها في النص.
فإذا كان "الأمير الشاب عبد الرحمن"، باعتباره شخصية مركزية في الرواية، ولتسميته بهذا الاسم في الرواية أكثر من دلالة تاريخية ورمزية (عبد الرحمن الداخل- عبد الرحمن الناصر- عبد الرحمن الغافقي): "وأي عبد الرحمن تريد أن تكون للأندلس؟" (ص223)، يقول سلام موجهًا سؤاله للأمير السعودي. وإذا كان الأمير، في هذه الرواية، يجسد، في إحدى صوره، استمرارية ذلك الرابط التاريخي المجسد للإحساس بوهم عظمة الأشخاص، كما في قول السارد: "لم يفكر الأمير في المسألة من قبل: ولم تخطر على باله فكرة الأسماء المتكررة. لكن صدره انتشى بذاك التطابق الذي بدا كقدر إلهي!" (ص224)، فإن "سلام"، باعتباره هو أيضًا شخصية بؤرية ومؤثرة في توجيه الحكي، وتحديد مصائر الشخوص في الرواية، يجسد صوت الحقيقة الممتدة في التاريخ، من الماضي نحو الحاضر، والمستشرفة للمستقبل، في محاولة منه تصحيح التاريخ، وهو ما جعل خيبة أمل "الأمير" تزداد بعد عثوره على "سلام"، بخلاف ما كان متوقعًا، وذلك أحد أسرار نجاح هذه الرواية، في انبنائها على عنصر المفاجأة بشكل كبير، حيث إن لقاء "الأمير" بـ"سلام"، وقد ابتعث من مجاهل التاريخ، لم يكن ليحرر بناء القصر في الرياض من اللعنة، بقدر ما كان ليحرر الأمير، ومعه القراء، من لعنة الماضي، ويطهرنا نحن من وهم الموروث التاريخي، ومن التباس أحداثه بين الصحيح والمزيف، وبين الأسطوري والحقيقي، وبين الصادق والكاذب (يكفي أن نشير، هنا، إلى بعض الأحداث والوقائع التي تسوقها الرواية، من منظور التشكيك في تاريخيتها، وفي صحتها: قصة فتح الأندلس على يد طارق بن زياد، خطبة طارق بن زياد، هوية أسماء المدن الأندلسية، سر تسمية القصر بـ"الحمراء"، وصف أمراء الأندلس العرب بالعظماء، وغيرها...). أليس الروائي هاني نقشبندي، من قال في أحد الحوارات معه، في جريدة "الشرق الأوسط"، بخصوص تشكيكه في التاريخ: "لا أعتقد أن على المثقف أن يثق بكتاب وضع قبل مائة عام، فكيف بما كتب قبل ألف عام مثلًا. ثم إننا على يقين أن التاريخ يكتبه المنتصر والمنهزم أيضًا. كل يكتب من وجهة نظره. فكيف تثق بصحته؟ نعم، لا أشكك في كل شيء، لكني أيضًا لا أصدق كل شيء، ولا كل ما يقرأ، ولا حتى كل ما يسمع".
والرواية بذلك إنما تعمق الإحساس بطبيعة الصراع القائم بين نمطين من الفكر: فكر يتمسك بالعمق التاريخي والإنساني العقلاني المتنور والمنفتح، وفكر متحجر، يعيش على هامش التاريخ وزيفه.
من بين ميزات رواية "سلام" أيضًا، انبناؤها على أسلوب التشويق والإثارة والترقب، وعلى شد القارئ والسيطرة على مخيلته، وعلى خلخلة وعيه ومعارفه ومداركه، أمام ما تقدمه له الرواية من دهشة ومفاجآت، والرواية بذلك، إنما تساهم في خلخلة الوعي التاريخي العربي، عبر إنتاج وعي جديد بالتاريخ، لأجل فهم المستقبل، وعبر التنبيه إلى ضرورة تجنب حدوث كارثة أو اصطدام جديد مع الآخر، في بعده الديني تحديدًا، بعد ذلك الذي حدث في الأندلس بين الإسلام والمسيحية: "لا أريد أن يستمر هذا الصدام... لا أريد" (ص234).
كما تتميز رواية "سلام" بكثرة الحركة والترحل والسفر في الأمكنة، وفي الأزمنة، وفي الوجوه، بلغة رشيقة، وكثافة رمزية لافتة في الصور، متحررة من كثرة الالتباس، ومشحونة بتعدد الأوصاف الدقيقة للأمكنة وأسرارها وخباياها، سواء في إسبانيا (في ماربيا وغرناطة) أو في المغرب (في طنجة، وتطوان، والشاون)، والرواية في ذلك تذكرنا بدقة الوصف للأمكنة في روايات عالمية مشهورة، وهو ما جعل رواية "سلام" تنجح في اختراق فضاءاتها وأمكنتها، سواء في بعدها الجغرافي أو التاريخي أو الراهن، وفق لعب شكلي وسردي يتسم بتكسير الأزمنة بين الماضي والحاضر، وسبر أغوار الشخوص، وتلوين الحكايات وتشبيكها، فيما يشبه أسلوب الرواية البوليسية، حيث نجد الشخوص، على امتداد الرواية، في حالة لهاث وراء سراب البحث عن فك اللغز، والذي ليس سوى لغز "سلام"، أو بالأحرى هو لغز تاريخي ومستقبلي، على حد سواء.
إلا أنه مع اقتراب نهاية الرواية، نحس بخيط الحكاية ولغزها يتسربلان أمامنا بعد عثور "الأمير" على "سلام" في مدينة "الشاون"، وهو حامل لغز "لعنته"، التي أدركته أيضًا، فبقي حيًا، يحارب الموت بالنسيان، فيما تنكشف أطروحة الرواية أمام القارئ بشكل مباشر، فيما يشبه صراع الأفكار بدون تمويه، بين فكر سائد قابل للخلخلة والتصحيح (فكر الأمير) وفكر يؤمن بالتغيير وبخلخلة الجاهز والثابت (فكر سلام)، وهو ما يجعل منها رواية "أطروحة" ورواية "أفكار" بامتياز.
وبذلك تنضاف رواية "سلام" إلى سلسلة الروايات العربية الجديدة التي توفقت في التأسيس تخييليًا لخطاب جديد، ولحوار إيجابي مع الآخر، ومع الثقافات الأخرى، من موقع التسامح والاحترام المتبادل، وليس من موقع الصراع والإلغاء: "قبل أن نبني الحمراء مرة أخرى علينا أن نطهر أنفسنا. حان للمعركة أن تنتهي. لن ننتصر على أحد. لن ينتصر أحد على أحد. لأنه لا يمكن أن نحيا دون آخر نستمد منه بقاءنا. الأشجار الكثيرة هي ما يصنع حديقة جميلة. كذلك الأديان. كلها يقربنا إلى الله. وكلها يصنع إنسانًا صالحًا وحديقة جميلة" (ص 236).
في مقابل ذلك، يلاحظ تغييب لمنظور "الآخر" وصوته في هذه الرواية، حيث إن المنظور المهيمن فيها هو منظور "الأنا" (المنظور العربي الإسلامي)، في بعده التاريخي والراهن، فحتى السائق الإسباني "بيدرو" كان دوره محصورًا جدًا في الحكاية، وكأننا بالرواية هنا تبرئ الآخر من ثقل السؤال التاريخي الجاثم على وعي الشخصية العربية، باستثناء تلك الإشارة إلى الإسبان، لكن من منظور الأنا، باعتبارهم "شعبًا طيبًا ومتسامحًا"، كما تصفهم إحدى الشخصيات برحابة صدرهم، أمام ارتفاع صوت القرآن الآتي من أجهزة تسجيل وضعت أمام مداخل الحوانيت العربية في غرناطة القديمة، وهو ما يطرح، هنا، أكثر من سؤال حول غياب صورة الآخر وصوته في هذه الرواية، مع أنها تتخذ من فضاءاته وأمكنته مجالًا لتمرير أطروحتها المركزية، إلا إذا اعتبرنا رد الإسبان التاريخي، كما تمرره الرواية، على بناء "قصر الحمراء" ببناء كنيسة مكانه، بعد طرد العرب من الأندلس، رسالة مضادة، تلخص عمق صراع حضاري كان وما يزال ممتدًا في زمننا.
كما أنها رواية تختلف عن غيرها من الروايات العربية، على مستوى الطابع الاستفزازي لأطروحتها المركزية بالنسبة للمتلقي، من خلال إدانة السارد للحقبة الأندلسية، بعيدًا عن تلك النظرة الضيقة والانتقائية والاستهلاكية للأحداث، انطلاقًا من توظيف معجم جديد، ربما لم تألفه عينة كبيرة من القراء والأجيال، كقول الرواية "بالغزو" بدل "الفتح الإسلامي"، واعتبارها "قصر الحمراء" "وصمة عار" وليس "رمزًا لعظمة التاريخ العربي"، كما "يعكس قوة زائفة للإسلام"، واعتبارها أيضًا أن "المسلمين هم من بدأ الصراع"، وكذا قولها بـ"الصراع" بدل "السلام".
وتكمن، أيضًا، أهمية هذه الرواية، في تمكن كاتبها من عجن أطروحته المركزية وسط عالم تخييلي، مشحون بالقصص والحكايات والخرافات والاستيهامات والكوابيس والغموض والخيالات والألغاز، والرحلات في الأمكنة، وفي الكتب والهواجس، بما في ذلك هاجس الخوف الذي يتملك "الأمير" وشخوص الرواية (الخوف من المفاجآت، ومن لعنة القصر، ومن حقيقة الأشياء وغموضها)، كما يتملك القارئ (خوفه من انفلات لغز الحكاية، وخوفه على مصائر الشخوص، في اتجاهها نحو زمن معتم)، ألم تكن رحلة الأمير الشاب، منذ البداية، رحلة نحو العتم والمجهول والغموض، كما في قوله، واليخت على مشارف ماربيا: "أحس أننا نبحر نحو زمن آخر في هذا العتم" (ص12)، ثم ألا تشكل عودته إلى الرياض عودة إلى الواقع...