}

إبراهيم الكوني: مبدع سرديات الصحراء

آراء إبراهيم الكوني: مبدع سرديات الصحراء
إبراهيم الكوني

[احتفاء بمرور نصف قرن على صدور أول عمل سردي له]

في البدء كان اللقاء بالكوني
يتم الاحتفاء هذه السنة بمرور نصف قرن على صدور أول عمل سردي للكاتب العربي الليبي إبراهيم الكوني، هو عبارة عن أول مجموعة قصصية صدرت له بعنوان "الصلاة خارج نطاق الأوقات الخمسة" (قصص ليبية) عام 1974، تلتها مجموعة قصصية بعنوان "شجرة الرتم" 1986، ما يعني أن الكتابة القصصية قد سبقت الكتابة الروائية عند إبراهيم الكوني، حيث صدرت له أول رواية بعنوان "رباعية الخسوف" عام 1989، في أربعة أجزاء (البئر، الواحة، أخبار الطوفان الثاني، نداء الوقواق)، ليتوالى صدور مجاميعه القصصية ورواياته، حيث أتى العقد التسعيني من القرن الماضي، مقارنة بسابقيه، طافحًا بالمجاميع القصصية والروايات المنشورة للكوني، وبغيرها من الـ "نصوص" النثرية الأخرى، كما يفضل الكوني تجنيسها. ومع ذلك، يبدو أن إبراهيم الكوني قد اشتهر بكونه روائيًا كبيرًا، بالنظر للتراكم الذي حققه في مجال كتابة الرواية تحديدًا، وأيضًا بالنظر لحجم حضوره، داخل العالمين العربي والغربي، على مستوى التلقي والشهرة والترجمة والجوائز والندوات، وغيرها، مما يجعل صورة الروائي لديه تهيمن على صورة القاص، وتلك اعتبارات متضافرة في ما بينها، قد نجد لها مبررًا، في ما نعيشه اليوم من زمن للرواية...
لقد كنت من بين المحظوظين الذين التقوا بالروائي العربي الليبي إبراهيم الكوني، في سياقات مختلفة، وأمكنة متفرقة. فقد كانت المناسبة الأولى غير مباشرة، من خلال اطلاعي على بعض كتاباته الروائية الأولى، كان ذلك في بداية تسعينيات القرن العشرين الماضي؛ إذ حدث الأمر مصادفة، إثر عثوري، في سوق شعبية لبيع الكتب، على روايته "المجوس"، في جزأين اثنين مجلدين بالأسود، في طبعتهما الأولى (ط1، سنة 1990 وط2، سنة 1991)، والجزآن معًا صادران عن الدار الجماهيرية للنشر والتوزيع والإعلان في ليبيا، ودار الآفاق الجديدة في المغرب، وتم تجليدهما في معامل النجاح الجديدة في الدار البيضاء.
أما المرة الأولى التي التقيت فيها إبراهيم الكوني، بشكل مباشر، فكانت في مدينة أصيلة المغربية، في إطار إحدى دورات موسمها الثقافي الدولي، فقد حصل، وعلى مدى دورات، أن كنت من منظمي موسم أصيلة، وصادفت الدورة السابعة والعشرون تنظيم منتدى أصيلة لـ"جائزة محمد زفزاف للرواية العربية" سنة 2005، التي كانت في تلك الدورة من نصيب الكوني، وكان ثاني فائز بالجائزة، بعد الروائي السوداني الطيب صالح. فاز الكوني بجائزة الرواية العربية عن مجمل أعماله الروائية، التي كرست، حسب لجنة الجائزة، "رواية الصحراء مقابل رواية المدينة، وعدلت كثيرًا من المفاهيم النقدية في تاريخ الرواية المعاصرة".
أما المناسبة الثانية المباشرة، فكانت في القاهرة سنة 2010، إبان "ملتقى القاهرة الدولي للإبداع الروائي العربي الخامس"، حيث فاز خلاله إبراهيم الكوني بـ"جائزة الملتقى للرواية العربية" التي يمنحها المجلس الأعلى للثقافة بالقاهرة، وقد كنت محظوظًا باختياري عضوًا في لجنة الجائزة التي منحت الكوني تلك الجائزة الرفيعة، ما يُعدُّ مصدر تشريف واعتزاز، وشعورًا جميلًا ظل يسكنني إلى اليوم. وقد ثمنت لجنة التحكيم "انشغال الكوني في تطوير مشروع روائي أصيل يبدأ باستنطاق الصحراء، بشتى عناصرها الطبيعية والبشرية والروحية والأسطورية، ويبلغ في هذا درجة رفيعة من المزج البارع بين المحسوس والرمزي، بين الواقعي والمُتخيل". وهي الجائزة التي وهب الكوني قيمتها المالية لأطفال قبائل الطوارق، في نيجيريا ومالي، بما عُهد فيه من التفاتات نبيلة تجاه شعب الطوارق، الذين وصفهم بـ"المحرومين"، وبكونهم يعيشون "ما يشبه المأساة".




فيما كانت المناسبة الثالثة التي ألتقي فيها بالروائي إبراهيم الكوني مباشرة في مدينة أكادير في المغرب، في إطار "ملتقى الرواية في أكادير"، الذي تنظمه "رابطة أدباء الجنوب". كان ذلك عام 2022، بشراكة، في تلك الدورة، مع "بيت الرواية في المغرب"، وقد كنت مساهمًا في الندوة الرئيسة للدورة، وكان موضوعها "رواية الصحراء: منطلقات وتجارب"، وهو ربما ما يبرر تكريم المنظمين للروائي إبراهيم الكوني، واحتفاءهم به في تلك الدورة. حضر الكوني إلى أكادير بكامل ثقله الإنساني والفكري والإبداعي، بمثل ما حضر مرجعًا في مساهمتي، التي تمحورت حول روايتين مغربيتين، من روايات الصحراء في أدبنا الروائي المغربي، كما أضحى يكتبها اليوم بعض الروائيين المغاربة الجدد المنحدرين من أصول صحراوية، من بينهم محمد سالم الشرقاوي، كاتب الروايتين معًا، وذلك في علاقتهم الخاصة بالصحراء، المطبوعة بالانتماء والوفاء والعشق النوستالجي، بما هي علاقة يحكمها تسلحهم بمعرفة مرجعية خاصة بمجتمع الصحراء، في أبعاده السوسيولوجية والأنثروبولوجية والإثنوغرافية، وفي خصوصيته وفتنة حكاياته وسحرها، وفي غنى موروثه الثقافي وتقاليده وأعرافه وقيمه وعاداته وأخباره، ومعرفة بطبيعة نمط العيش في المجتمع الصحراوي، في تناقضاته وصراعاته ومفارقاته، وفي تحوله وانفتاحه على محيطه الخارجي.
ويعرف عن الروائي الكوني، وعن غيره من روائيي الصحراء في المغرب، مثلًا، رغم قلتهم، امتلاكهم الدقيق للقدرة على الكتابة روائيًا عن مجتمع الصحراء، وعلى تمثله في نصوصهم الروائية، في تلويناته وسردياته ومشاكله وقضاياه المختلفة، اعتبارًا لما تشكله روايتا الشرقاوي، على سبيل المثال، من امتداد حكائي وتداخل سردي، على مستوى استثمارهما معًا لثيمة "الماء"، وهي الثيمة نفسها المهيمنة في عديد من روايات الصحراء في العالم، ومن بينها روايات إبراهيم الكوني، وهو أحد أبرز روائيي "سرديات الماء" في رواية الصحراء بامتياز، في تمثل رواياته لثيمة "الماء" بشكل بؤري، وخصوصًا من حيث استثمارها لفضاء "البئر"، باعتباره ثيمة مهيمنة في روايات الكوني، كما في غيرها من روايات الصحراء في أميركا اللاتينية، وغيرها، بأبعادها الدلالية العميقة والمختلفة، كما هي الحال في رواية الكوني الشهيرة "التبر"، حيث يغدو "الماء" في الصحراء، حسب الكوني، كأنه "الدم الذي أضاع لونه"...
وأثناء لقاءاتي بالكوني، كنت أجد فيه إنسانًا استثنائيًا وراقيًا وطيبًا ومتواضعًا، بشكل يجعل منه شخصية مختلفة عن كثير من الروائيين العرب... فهو لن يكلفك كثيرًا من الوقت لكي تنخرط في فضائه الإنساني الرحب، وسرعان ما يرحب بصداقتك وبانتمائك لأفقه، وهو ما جعلني، في كل مرة ألتقيه فيها، ولو أنها لقاءات لم تصل إلى مستوى الصداقة، أزداد إقبالًا على جديده الفكري والمعرفي وجديد كتاباته، في تنوع أجناسها ومجالاتها التعبيرية، وتحديدًا ما يتصل بكتاباته عن الصحراء، بمثل ما أزداد إعجابًا بوفائه الأسطوري لهذا اللغز المسمى الصحراء، وبطرائق تفكيره وتأمله وتفكيكه لبنيات مجتمع الصحراء، في تنوعها وتعقدها وغموضها، والذي ارتبط به وافتتن به، رغم أنه لم يعش فعليًا في الصحراء سوى سنوات طفولته الاثنتي عشرة.

هوية رواية الصحراء


رغم أن الكوني يشتهر بكونه روائيًا عالميًا، وقد اختارته مجلة "لير" الفرنسية المتخصصة في الفكر والأدب من بين خمسين كاتبًا عالميًا، فإن أعماله، القصصية والروائية، على حد سواء، رغم ما حققته من تراكم وانتشار وشهرة، لم تحظ بعد بما تستحق من اهتمام نقدي وتحليلي عربي، بما قد يعكس قيمة إبداعاته في تراكمها النصي المتزايد، رغم ما أنجز حولها من كتابات نقدية وندوات موازية، وذلك في وقت اهتم فيه الغرب بكتاباته الروائية وبترجمتها إلى لغات مختلفة، وقد انبهر بها، اعتبارًا لما تكشف عنه كتابات الكوني الروائية من تجارب وثقافة مختلفة، لم يألفها القارئ في الغرب، في كونها كتابات تتناول واقع قبائل الطوارق في الصحراء الكبرى، موظفة أسلوب العجائبيّ بشكل بديع، وفي مراهنة رواياته على أسطرة واقع الصحراء الكبرى، انطلاقًا مما يتيحه المكان/ الصحراء وروح الأسطورة والعجائبي فيها، من أشكال التعبير عن المجتمع الصحراوي الطوارقي، وعن أسراره وسكونه وغموضه وأساطيره المختلفة وعاداته وقيمه، في شتى تجلياتها وتلويناتها السردية والحكائية وصورها العجائبية المفارقة، العاكسة لجوانب من طبيعة الحياة الصحراوية لقبائل الطوارق ولطرائق وجودهم وتفكيرهم وثقافتهم.
وقد تمكن الكوني من خلال ذلك من التأسيس لتيار جديد في الكتابة الروائية، متوسلًا بما يمتلكه من "إعجاز في الخيال"، كما يسميه، معارف مختلفة، يمتزج فيها الأنثروبولوجي بالفلسفي بما هو مرتبط بتجربته الذاتية وبمعارفه الدقيقة والعميقة عن الصحراء الكبرى ومتخيلها الإنساني الواسع، وتلك واقعية عجائبية جديدة على غرار ما يعرف بالواقعية السحرية في الرواية الأميركولاتينية، بالنظر لكون كلا التيارين يمتحان من خصوصية فضاءيهما، في أسطوريتهما وعجائبيتهما وخرافاتهما وخوارقهما ورموزهما وعلاماتهما وأسرارهما وألغازهما واغترابهما وغموضهما ومجاهلهما وحقائقهما ومعانيهما ودلالاتهما، وغيرها...
وتكمن أهمية استنطاق فضاء الصحراء في روايات إبراهيم الكوني، انطلاقًا من كونها تعيد الاعتبار لتراث الصحراء، في أبعاده التاريخية والأسطورية والعجائبية والقيمية والروحية والنفسية، وتلك علامات، وغيرها كثير، مميزة لكتابة الصحراء عنده، هو الذي "كان همه إخراج الموروث الثقافي الصحراوي إلى دائرة الضوء، واستثماره إبداعيًا"، على حد تعبير الدكتورة الضاوية بريك، في دراستها "أسطرة الفضاء الصحراوي في روايات إبراهيم الكوني" (مجلة جيل الدراسات الأدبية والفكرية، العدد 68، ص 101)، وهو ما يضفي على رواية الصحراء عند الكوني خصوصية ومنطقًا مغايرين لنصوص أخرى في مدونة الرواية العربية، في ارتباط رواياته بواقع الصحراء المروي والمغري في آن: "ومن أي باب دخلنا إلى هذا الأدب، إن قصة قصيرة أو رواية مطولة لا نجد إلا الصحراء ولا شيء عداها. فهي مادته الأولى ومناط الفكرة، المهاد وأفق الرؤيا. مسرح أحداثه ومنها أشخاصه ومعانيه من أساطيرها. عالمه الواحد الأوحد..."، على حد تعبير توفيق بكار، في تقديمه لكتاب "من أساطير الصحراء" لإبراهيم الكوني (ص11-12).




وفي هذا السياق نفسه، نجد أن كتابة رواية الصحراء عند الكوني ما فتئت ترسخ، نصًا بعد آخر، هويتها الخاصة، وذلك في حرصه الشديد على العودة دائمًا إلى النبع الذي هو الصحراء، كما يكتب عنها في رواياته وفي نثرياته الموازية، وكما يتأملها ويفكر فيها نظريًا وثقافيًا في كتاباته وحواراته الموازية، وأيضًا كما يتلقاها الغرب ويتفاعل معها ويرحب بها في ثقافته بشكل كبير وإيجابي، بمثل ما أشادت بها الأوساط الثقافية والنقدية والأكاديمية، في أوروبا وأميركا واليابان، عبر استقبالها الكبير لروايات الكوني وترجمتها إلى أكثر من أربعين لغة. وهو النبع الذي يجعله في نصوصه، ببساطته وهدوئه، نقيضًا لحياة المدينة المعقدة والباردة ولأجوائها المشحونة بالصراعات والتعقيدات والمواجع...

من فردوس الصحراء إلى فردوس الألب
إذا كانت الرواية، كما هو متداول، قد ارتبطت بالمدينة تحديدًا، فقيل إن "الرواية ابنة المدينة"، بشخوصها وأمكنتها وعوالمها المتحضرة فقد أضحت مع الكوني "ابنة للصحراء"، وذلك من منطلق أنه قد تفاجأ وهو "على مقاعد الدراسة بالنظرية السائدة في منطق أوروبا بعدم وجود أدب روائي خارج العالم العمراني، المعتمدة لا كمجرد نظرية، ولكن كمسلمة أيضًا"، ويضيف الكوني، في الحوار نفسه مع بلقيس الأنصاري المنشور في "منصة معنى"، داحضًا مزاعم لوكاتش تلك، ومستندًا إلى نزعة التشكيك في المسلمات، ليهتدي إلى حقيقة لم تخذله "وهي عدم الرهان على الأحكام المسبقة، التي تتعاطاها النظريات، واعتماد الواقع العملي في اللعبة حكمًا"، حيث قام الكوني بخلخلة ذلك المعطى النظري المتوارث وتطويره، فجعل من الرواية عملًا إنسانيًا مفتوحًا على عوالم جديدة وغير مطروقة، ظلت مجهولة ومنسية ومهمشة ومنفية ومعزولة ومنذورة للضياع، إنسانيًا ووجوديًا وروحيًا وتاريخيًا وجغرافيًا ودينيًا وأسطوريًا، فغدت الرواية، بذلك، ابنة للصحراء أيضًا، عبر ما أنجزه، وغيره، في هذا الإطار، من ملاحم روائية عن الصحراء، في شكل شبيه بما قام به روائيون آخرون، غربيون وعرب، في لجوئهم إلى ابتعاث مغايرات روائية أخرى، من قبيل "رواية الريف"، التي تشكل إلى جانب "رواية الصحراء" المقابل الموضوعي لـ "رواية المدينة"...
من هنا، ما فتئ الكوني يوسع سرديات الصحراء ويضيف إلى تراكمها النوعي، من منطلق وفاء إبداعي خاص منه تجاه فضاء الصحراء، وبشكل لم نعهده من قبل في مدونة الرواية العربية والعالمية. وهذا الوفاء لهذا المغاير الروائي، ليس معناه أن الكوني ظل سجين إغرائه، ولم يجرب الخروج من صحرائه لمعانقة فضاءات أخرى مغايرة، وهو ما حاوله، على سبيل المثال، في سيرته الذاتية الممتعة، الصادرة بعنوان: "عدوس السُرى: روح أمم في نزيف ذاكرة"، في أربعة أجزاء عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر ببيروت (ج1: 2012، ج2: 2013، ج2014:3، ج4: 2016)، وقد زاوج فيها بين الحكي عن الصحراء وعن المدينة التي رحل إليها، وذلك منذ الجزء الأول من سيرته، الذي تناول فيه طفولته في الصحراء فنزوحه إلى الواحة ومنها إلى المدينة، في الاتحاد السوفياتي، فيما حكى في الجزء الثاني عن مدينتي القاهرة وموسكو، وغيرهما من المدن، وعن قبيلة الطوارق، وتلك نقلة أخرى في التفكير الإبداعي للكوني، فرضتها الكتابة السير ذاتية، أو بالأحرى فرضها ذلك الاغتراب القهري، كما يسميه في الجزء الأول من سيرته الذاتية: "تمثل في هجرة قسرية عن مسقط الرأس وأرجوحة التكوين (الصحراء) ليتواصل هذا الاغتراب في اغتراب أشمل تمثل في الخروج من الوطن الأم لتصير الإقامة في الاغتراب ..."(ص8)، وذلك بشكل جعل سيرته الذاتية منفتحة على عوالم استكشافية جديدة، بعيدًا عن أية شوفينية ضيقة، وعن أي تعصب منحاز للنبع، وهو ما يبرره الكوني في سيرته الذاتية، بقوله: "وإذا كان الإنسان لا يغترب بلا سبب بالطبيعة، فلا بد أن يكون سببًا جليلًا ذلك السبب الذي ينتزعه من نعيم المكان، من نعيم المقام بجوار النبع، ليهيم على وجهه في أرض الله الواسعة..." ( ص 35-36).

وفي أحد نصوص الكوني الأخيرة، الصادر بعنوان "معزوفة الأوتار المزمومة" (ط1، دار سؤال للنشر، بيروت 2016)، وهو ما يراه الكوني "عملًا نثريًا" (ص93)، فيما أراه إضافة سير ذاتية مفتوحة على "سيرة الطبيعة"، بالنظر لطابعه الحكائي ولخلفيته المعرفية والثقافية، في علاقته بالطبيعة في أبهى تجلياتها، ما يشكل إضافة إبداعية جديدة في تجربة الكوني السردية الرائعة، على مستوى انفتاحه، هذه المرة، على فضاءات خارجية، بطلتها الطبيعة، إلى جانب استعادته لمعشوقته الصحراء، في مزاوجة تذكرية مدهشة بين "طبيعة الألب" الباردة والصارمة والمعادية والطاردة، كما يصفها الكاتب في بداية النص، و"طبيعة الجنوب" التي ظلت تسكن الكاتب، والتي ينعتها بصوت الفردوس الضائع، وذلك فيما يشبه "حكاية صدام حضاري بين الجنوب والشمال..."، على حد تعبير رلى راشد، في قراءة لهذه الرواية.
ورغم حدوث هذا الانزياح في حياة الكوني، بزيارته لعدد من المدن، وإقامته في بعضها، خارج النبع، فقد ظلت الصحراء، مع ذلك، تشكل لغزًا لديه، هذا الذي بقي غائبًا عن الأدب العالمي الحافل بكل الأمكنة، إلّا الصحراء، فهي لم تحظ بعد بما تستحق من اهتمام تخييلي، ولم تقل كلمتها بعد، على حد تعبير إبراهيم الكوني، وما هذا الوفاء للصحراء من قبله، سوى تجل مضيء لهذا الاهتمام، الذي كان من نتائجه أن كتب لنا هذا الروائي الكبير، حتى الآن، أكثر من تسعين كتابًا، إبداعًا وتأملًا ودراسة "حول حقيقة الصحراء، وحقيقة هذا اللغز والأحجية المسماة بالصحراء"، بشكل غدت معه الصحراء تشكل بطولة في مجمل إبداعاته الروائية...

الحواشي الروائية
تبرز أهمية الأوراق التي يقدمها الكوني في لقاءاته الموازية حول تجربته، وفي مناسبات مختلفة، فيما تضمره من تأملات فكرية وفلسفية ونظرية، وفيما تلقيه من إضاءات مفيدة وممتعة حول تجربته مع كتابة رواية الصحراء تحديدًا، إبداعًا ولغات وموضوعات وتقنيات وسرودًا وأساليب وفكرًا ومعرفة ورؤية وأساطير وعجائب ومجتمعات وبيئة وأسرارًا، حيث تشكل أوراقه دومًا حواشي بليغة ومضيئة لتلقي كتاباته الروائية والمساعدة في سبر أغوار معانيها ودلالاتها، بالمعنى العميق لمفهوم "حاشية"، كما وظفه، على سبيل المثال، الروائي أمبرتو إيكو في كتاب صغير له، بعنوان "حاشية على اسم الوردة"، إثر صدور روايته الشهيرة بالعنوان نفسه "اسم الوردة"، وفيه يضيء إيكو، من منطلق تصور وخلفية نظريين، جوانب ملغزة في روايته، على مستوى تلقيها وتأويلها من قبل القراء، بدءًا بإضاءة عنوانها المثير، وكيفية توليده في علاقته بالنص.
ولو قام الكوني بجمع أوراقه الفكرية والنقدية الموازية التي قدمها حول تجربته الروائية، في كتب، لجاءت مؤلفات مضيئة وممتعة، تنضاف إلى سلسلة كتاباته ودراساته الأخرى، عن مفهوم الرواية لديه، وخصوصًا رواية الصحراء، ولجاءت أيضًا شبيهة بكتابات بعض الروائيين، ممن وضعوا كتبًا موازية لتجاربهم الروائية والنظرية وغيرها، من قبيل الروائي ميلان كونديرا، في كتاب له يضم ثلاثة كتب، صدرت مجموعة بعنوان: "ثلاثية حول الرواية: 1 ـ فن الرواية 2 ـ الوصايا المغدورة 3 ـ الستار"، فيما قد تأتي حواشي إبراهيم الكوني حول "رواية الصحراء"، ذات خصوصية أيضًا، اعتبارًا لاستثنائية موضوع رواية الصحراء، ولطبيعة الاهتمام الخاص والكبير الذي أولاه لكتابتها، وكذا للإغراء اللافت الذي فرضته عليه الصحراء، على مستوى استيحاء مجتمعاتها وأساطيرها ورموزها ولغاتها، في عدد من كتاباته الروائية وحواراته، بمثل تلك القدرة الفاتنة التي تميز كتابته عن الصحراء، عمومًا، في تجلياتها الإنسانية والتاريخية والرمزية والشعرية المختلفة...

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.