}

عودة إلى "التغريبة الفلسطينية" وحرب الصورة

سميرة المسالمة سميرة المسالمة 16 أكتوبر 2023
آراء عودة إلى "التغريبة الفلسطينية" وحرب الصورة
خالد تاجا تحت نظر جولييت عواد وتيم حسن(التغريبة الفلسطينية)


يعود "أبو صالح" لينهض من جديد في المكان ذاته، وفي كل الأزمان الفلسطينية، وبندقيته التي استعادها رشدي، بالرغم من تقادمها، لا تزال هي الرمز الذي يتحلق حوله المثابرون على الدفاع عن موطئ قدم في أوطانهم. وعلى الرغم من التغريبة الكبرى منذ عام 1948، وما تلاها حتى اليوم، فإن التفاصيل اليومية لها لا اختلاف فيها، كأن الأمس هو اليوم، فيتحول المسلسل من ذاكرة التاريخ إلى مذكرات المستقبل، هذه فلسطين بكامل جغرافيتها، تكتب كل يوم ذاكرتها الأليمة، ويرتحل سكانها من تغريبة إلى تغريبة، لحظات الفزع التي تعيشها أم تائهة، وحبيبة مقتولة، والتي صورها بحرفيته العالية المخرج حاتم علي ترجمة لكلمات كاتب المسلسل وليد سيف هي ليست الماضي، الذي تحفظه الدراما للأجيال القادمة، هي الحاضر الذي يعيشه شعب فلسطين، وتتساوى فيه تفاصيل يومياته مع معاني الألم والخوف والفقد والحرمان، ليحكي سيرة أول شعب مغروس في وطن منزوع منه، ومحكوم عليه بنزع هويته واسمه وعنوانه.
تستطيع الدراما أن تعالج قضايا الحياة اليومية من خلال قصص تستنهض عواطف المشاهدين، وتحث أصحاب القرار على تجاوز صمتهم تجاهها، والعمل على تبييض قوانين تجاوزها الزمن، إلا أن الأمر يختلف كليًا عند الحديث عن الدراما التي تستلهم قصصها من واقع المأساة الفلسطينية، بواقعها الموغل في القدم، والمستمر مع استمرار معاناتهم من الاحتلال وتبعاته، سواء على صعيد الحياة تحت عباءة قوانينه، أم من خلال رصد معاناته في ترحاله المتجدد من ديار لجوء إلى أخرى، ومن وثائق تنفي عنه جنسيته وتضعه تحت خانة "عديم الجنسية" أو بلا وطن، إلى توطين متعمد منه نزعه من فلسطينيته، وردم ذاكرته عن وطنه الأم.
فرصد السيرة الحياتية لمعاناة الفلسطينيين على طريقة "التغريبة الفلسطينية" لحاتم علي ووحيد سيف مهمته بالدرجة الأولى إعادة الاعتبار لأولوية القضايا العربية، وانتشالها من حيز الشعارات التعبوية "التنفيسية" وربما يصح وصفها بـ"الوهمية" التي تمارسها الأنظمة العربية الحاكمة، بهدف التعتيم على ممارساتها السلطوية على الشعوب العربية، وتغييب حقوق المواطنين فيها، بذريعة تأمين مستلزمات التوازن الاستراتيجي في الصراع العربي ـ الإسرائيلي، الذي لم يثمر منذ 75 عامًا، وحتى اليوم، عن أي بوادر حقيقية في بناء أي منظومة عربية قادرة على مواجهة اعتداءات، أو تجاوزات إسرائيل، سواء داخل الأراضي الفلسطينية، أو خارجها.





مارس مسلسل "التغريبة الفلسطينية" ما هو أهم من توثيق يوميات معاناة الأسرة الفلسطينية في حلها وترحالها، واغتصاب حقوقها، فأولى أهمية كبرى لتفعيل الشعور الضميري الشعبي ومسؤولياته تجاه إنصاف القضية الفلسطينية، ومساندة مطالبها في إقامة دولتها وأولوية عيش الشعب الفلسطيني على أراضيه، والتأكيد على حق العودة في كل وقت، ومن كل مكان، لذلك يمكن عد عام 2004، وهو تاريخ بث هذا المسلسل، هو عام انتصار العاطفة الشعبية في ظل تقاعس الأنظمة العربية، وتهاونها في التعاطي مع مظالم تتكرر يوميًا ومأساة تتجدد، وصولًا إلى ما نحن اليوم نعيشه مع موجة جديدة من تهجير نحو نصف مليون فلسطيني مدني وتدمير مساكنهم فوق رؤوسهم.
وعلى الرغم من عدم مباشرة المسلسل لأسباب أمنية وإنتاجية وتسويقية في انتقاد مباشر للسياسات العربية، وتوضيح أدوارها في "تخميد" القضية الفلسطينية، واعتماد استمراريتها في الحكم على وجود قضايا فوق محلية، كالقضية الفلسطينية، إلا أن المتتبع لتنامي المأساة الفلسطينية يدرك حقيقة هذا التلازم بين استمرارية الأنظمة القمعية وتسلطها على الشعوب، وتغييبها عملية التنمية المأمولة للدول بذريعة تأمين مستلزمات المقاومة، وبين استمرارية معاناة الفلسطينيين، وغياب قضيتهم عن المحافل الدولية والمنظمات الأممية.
يمكن للعرب اليوم أن يستعيدوا مسلسل "التغريبة الفلسطينية" بكامل تفاصيله وحلقاته الـ31 بكل غيبياته وتلميحاته، وبتعدد شخصياته، من المثقف والفلاح والمرأة الثكلى وقتيلة الحب، إلى العائد من غربته إلى خيمة لا وطن لها، ترتحل من مكان إلى آخر، سرعان ما يطردها نظامه الحاكم هناك كما حدث لفلسطينيي سورية، ومخيماتهم المهدمة، وكما يمكن أن يحدث في أي مكان يحكمه مستبد.
لن تنقص المسلسل الصور المحدثة، التي يفيض فيها اليوم الإعلام الحديث بنسخها الحقيقية، التي هي أكثر إيلامًا من كل ما تخيله الكاتب والمخرج والفنانون الذين أبدعوا في تجسيد شخصياتهم حتى صار خالد تاجا هو "الشيخ يونس"، وجمال سليمان هو "أبو صالح"، وتيم حسن "علي"، وحاتم علي هو "رشدي"، بل ربما "رشدي" هو كل فلسطيني وفلسطينية يبحث عن حق ضاع في وطن ضاق.




نحتاج فعليًا إلى تعميم الصورة الحقيقية للنكبة الفلسطينية الجديدة، بعيدًا عن كل تزوير، وبنقد سلبياتها بواقعية، والتعريف بأخطائها، ونقد المسؤولين عنها، ولاحقًا مساءلتهم، حيث الحقيقة تكشف حجم التزوير، فالصورة هي الرهان القادم، وهي السلاح الذي يطلقه إعلام الغرب في وجه القضية الفلسطينية، ولهذا كثر التزوير والتدليس، ما يتطلب صحوة إعلامية تواجه الصورة المفبركة بالصورة الحقيقية والشهادات الصادقة.
يمكن القول بكل ألم إنه يمكننا اليوم إنتاج نسخة محدثة من "التغريبة الفلسطينية" بكل آلامها وتعاظمها، باستبدال تلك المشاهد التمثيلية بمشاهد مأساتنا الحالية، والتأكيد أنه في ظل واقع أنظمتنا الحاكمة، فإن المسلسل هو جزء من حقيقة، وليس مُجرّد نصّ إبداعي عن حكاية متخيلة، وهذه المرة لن يكون مسلسلا ترفيهيًا يوقظ ذاكرتهم اللحظية في أمسيات أحد أشهر رمضان، بل هو نهاية وهم اسمه "سيادة الدول العربية".


*كاتبة سورية.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.