}

مفارقات الفكر العربي المعاصر: الجابري والخطيبي والحوار المستحيل (2/2)

فريد الزاهي 5 أكتوبر 2023
كان مرمى محمد عابد الجابري ذا بعدين: الأول الدعوة إلى نهضة عربية جديدة تعيد النظر في النهضة العربية المعروفة، وتحاول استرداد بعض مطامحها المعرفية والثقافية. لهذا ليس من قبيل المصادفة أن يقول الرجل بشيء من الحسرة إن مشروعه متأخر عن وقته بقرن من الزمان. وكأننا به، وهو يستعيد هذا الزمن، يقوم بمراجعة لمشروع النهضة نفسها، وفقًا لمعطيات جديدة، عارفًا أن شروط النهضة لم تكن توفرها بكاملها، خاصة منها المعرفية (العقلانية بجميع تطوراتها الحديثة) والمنهجية (الإبستمولوجيا المعاصرة والفكر التاريخي المواكب لها). وثانيًا، من خلال هذه الدعوة إلى قراءة تاريخ الفكر العربي الإسلامي وفقًا لمنظور جديد، يسعى الجابري إلى تقديم نظرة شمولية (وقطاعية) للعقل العربي. لهذا نراه يخصص كتابًا للعقل الأخلاقي وآخر للعقل السياسي العربي، وكأن هذين العقلين منفصلان عن العقل المعرفي. والحقيقة أن هذا التصنيف يمكنه، حسب التطورات المعرفية الحالية، أن يتحوّل إلى "العقل اليومي الأنثربولوجي" ولم لا إلى مناح أخرى (1)...

يعني الجابري بالعقل السياسي العربي "عقل الواقع العربي"، أي "محددات الممارسة السياسية وتجلياتها في الحضارة العربية الإسلامية وامتداداتها إلى اليوم" (2). وليس من الغريب أننا نجد الجابري هنا، ما إن ابتعد عن مجاله الفلسفي التاريخي، لمعالجة قضايا تنتمي للتاريخ السياسي ولعلم الاجتماع السياسي وغيرهما، حتى غدا يعتمد مفاهيم جديدة لا علاقة لها بالعقلانية التي تبناها سابقًا. فمفاهيم من قبيل "اللاشعور السياسي" (ريجيس دوبريه) و"المتخيل الاجتماعي" (علم الاجتماع)، سوف تمنح مقاربته طابعًا أكثر حداثية ستشحذ فكره "النقدي"، وفي الآن نفسه تبعده شيئًا ما عن الأحكام.

أما الجزء الرابع من المشروع، فإنه يستعيد تاريخ الأخلاق عند العرب ويسعى إلى إخراجها تحديديًا من التعريف الاستشراقي والتعريف الفلسفي، قصد دراستها في مستويات الثقافة العربية برمتها، القديمة والحديثة. من ثم تنبع الحاجة لديه إلى تطوير ما دشنه زكي مبارك في كتابه عن الأخلاق لدى الغزالي، والاستجابة إلى ضرورة "تصنيف جديد للكتابة الأخلاقية في الثقافة العربية الإسلامية، يستوجب جميع الاتجاهات والتيارات" (3)، لتفادي طغيان الأنموذج الأوروبي من جهة، والنقص الخطير في معرفتنا بمعطيات تراثنا في هذا المجال من جهة أخرى (4).

من ناحية أخرى، يمكننا اعتبار دراسته عن: المشروع النهضوي العربي، وكتاب: الدين والدولة أحدث كتبه، في هذا المشروع (5) الذي سينتهي بتفسير القرآن، الجانب "الفكري" المكمل لمشروعه النقدي للثقافة العربية في شموليتها. بل إنهما، بصورة ما، تعميم للمشروع الذي يتبناه على مجال هام سواء في تاريخ الإسلام أم بالنظر إلى صحوة التيارات الإسلامية التي جاوزت السلفية التقليدية، وأضحت تبني نماذج هنا وهناك لعلاقة السلطة السياسية بالدين في الفكر كما في الواقع. وهكذا فإن هذا المشروع الضخم "يروم تحقيق "النهضة" في كافة المجالات، الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والثقافية، ويقترح سبلا ووسائل لتحقيق أهدافه ومطامحه تكون على هذه الدرجة أو تلك من التنوع والنجاعة" (6). وإذا كانت هذه المراجعة تستمد ضرورتها من أن مساعي النهضة منذ قرن لا زالت معلقة ومطروحة، فإن الجابري يعيد طرحها بطريقة مشوبة برومانسية سياسية لا تفقد حسها النقدي. لذا، فإن حديثه، بضع سنوات بعد ذلك، عن علاقة الدين بالدولة يبدو وكأنه محاولة منه لاستشراف العقبات ولمواجهة التحديات الإسلاموية التي كانت تباشيرها الجامحة تبدو في الأفق. فتعليق مشروع النهضة لمدة أكثر من قرن الزمان، كان يوازيه تجذر ونمو الحركات الإسلامية التي تركز على تاريخ ثقافي وفكري وعقيدي لا يزال يحتاج إلى الدراسة وتأسيس الحداثة الفكرية الناظرة فيه.


لقد سعى الجابري إذًا إلى تغطية أغلب المعضلات التي يطرحها عليه التراث من موقعه الحاضر وبشكل نسقي. وهو كان في محاورته مع حسن حنفي قد أبدى عن كلية هذا المشروع كما عن حيثياته ومراميه، من حيث إن التراث موضوع للبحث والتقصي بالرغم من استمراره حيا في حياتنا الحاضرة، ومن حيث إن النظرة الحاضرة بهمومها وتطلعاتها، ومشروعها المجتمعي والمستقبلي، هي التي تتحكم معرفيًا وفكريًا في تناول هذا التراث.

إننا، مع مرور الزمن، ومع التحولات الفكرية المتسارعة التي نعيشها، حين ننظر اليوم إلى هذا المشروع وإلى مؤدياته implications الفكرية والسياسية والثقافية، نجده لا ينفصل عن موضوعه إلا بالمقصد لا بالنتائج. وهكذا فإن الضرورة العقلانية، إن ظلت تتحكم في نظرة الجابري، فإنها أمام "ثقل" هذا التراث ووطأته تضْحي في بعض الأحيان أداة فقط للتحليل والتصنيف، وتقف عاجزة عن خلخلة الأصل. ولعل أهم مثال عن ذلك هو المرحلة المرجعية أو مرحلة الصحابة التي يفصلها الجابري فصلًا عن التطورات اللاحقة عليها. هكذا يجد الجابري نفسه يبني مشروعًا على قطيعة إبستمولوجية مرجأة، لأن ثمة روابط تظل متينة لا تنقطع بموقف إرادوي مهما كان يعتمد مفهوم القطيعة.



الخطيبي والتراث وهوامش الإسلام

لم يساجل الخطيبي محمد عابد الجابري رغم أنه كان أحق بالسجال من عبد الله العروي. لقد انتقل فكر الخطيبي من النقد والسجال في السبعينيات إلى الكتابة والبحث. وهو يقول بخصوص هذا الطابع الذي وسم كتاباته في تلك المرحلة مجيبًا عن سؤال ذكي لأحد محاوريه إن كان مسيره سيجاوز النقد المزدوج، لكي يؤسس كتابة لن تكون أبدًا نقدًا: "أعتقد من وجهة نظري أن ثمة نصوصًا ذات طابع نقدي أو سجالي، بالمعنى العام للكلمة، وسنجد بعضها في كتابي المغرب المتعدد؛ بيد أني أعتبر أن الأمر كان في الحمى البيضاء من قبيل السجال والنقد أكثر منه من قبيل الاقتراح الفكري والتحليل... وإذًا، فإنني أتحمل مسؤولية هذه الحدود. لكني بالموازاة مع ذلك، أعتقد أن نصّ مختلف كتبي يشكل مسيرًا يشتغل على مكان آخر" (7). ثم يقول سنوات قليلة بعد ذلك معبّرًا عن هذا التطور الحاسم في كتاباته: "مع الوقت، أعتقد أن ثمة نصوصًا كنت سأكتبها اليوم بصورة مغايرة. لست رجل "المفهوم"؛ والحال أن المفهوم هو أحد الابتكارات الكبرى للعقل الفلسفي والعلمي. والمفاهيم التي أستخدمها، أستعملها تبعًا لأسلوبي، وقط تبعًا لمنطقها الداخلي. والأمر ينسحب أيضًا على الصورة البلاغية. ما يشغل بالي هو الأسلوب الذي يتلاءم مع هذه الفكرة أو تلك، مع هذا الإحساس أو ذاك. الإيقاع هو ما يربط الأشياء باللغة التي تعبر عنها، ما همّني الموضوع (إذ يحدث لي أن أغيره بسرعة). لكن استنبات الحياة في الكتابة، ذلك هو هواي ومهمّتي" (8). إن هذا يعني أن مهمة تأسيس الفكر النقدي التي ارتضاها الخطيبي لنفسه بشكل سجالي ونقدي (حتى في سيرته الذاتية الذاكرة الموشومة)، ستأخذ طابعًا حواريًا وتحليليًا انطلاقًا من بناء الذات الكاتبة وإرثها الكتابي. ولا أدل على ذلك (كما رأينا سابقًا) من أن السجال مع اليسار الصهيوني في بداية السبعينيات، تحول إلى حوار مع يهودي كاتب وذي أصول عربية هو جاك حسون، وأن السجال مع جاك بيرك تحول إلى كتابات تحليلية عن الإسلام والجسد والعلامة والأدب الفرنسي، وأن السجال مع العروي تحول لديه إلى تنظير مغاير للمغرب الكبير. وبين هذا وذاك، اهتم الخطيبي أكثر بتطوير مفهومه للكتابة وللمحبة aimance، وتفرغ لكتابة الرواية والنصوص الشخصية. ففي الوقت الذي كانت فيه الاختيارات الفكرية طاغية، صار الهم الأكبر للخطيبي هو الكتابة "الأدبية".

لم يساجل الخطيبي الجابري لأن مشروع هذا الأخير عن العقل العربي لم يتبلور إلا بدءًا من الثمانينيات، من جهة ولأنه لم يترجم للفرنسية ولحدّ اليوم إلا بشكل جزئي. في تلك الفترة كان الخطيبي قد جاوز ممارسة النقد السجالي ومفهوم النقد المزدوج، وبدأ يصدر كتابات عن الإسلام من منظور خاص، يرتبط باهتماماته بالجسد وبالشخصية المحمدية. من ناحية أخرى، لم يهتم الخطيبي من الإسلام إلا ببعض العناصر والقضايا والمحطات، كشخصية النبي والجنس وإبليس، والخط... بل إن ما كان يثيره فكريًا هو الامتدادات الحضارية للإسلام في التصوّف كما في الثقافة الشعبية. إنها الهوامش التي سوف تقوده إلى تصوّر صوفي خاص يربط المحسوس باللامرئي.


لا يولي الخطيبي بالًا للإسلام التاريخي في معناه العام، وإنما يركز نظره على أمرين: ولادة الإسلام وتكونه، من خلال تأويل علاقة النبي بالوحي وبالملاك جبريل، ثم علاقته بالكتاب. يعتبر الخطيبي نبي الإسلام "يتيم الكتاب"، الذي وجد نفسه بين المرأة (خديجة) وبين الملك، يمنح للمرأة دورًا بارزًا في استتباب الوحي وتملك اللامرئي: "المرأة في الإسلام هي، بشكل ما، كائن يوجد بين الإنسان والملَك، سواء كان هذا الملك مباركًا أو ملعونًا، وسواء كان جبريل أو الشيطان. لقد تعرفت خديجة على الرسالة، تلك الرسالة التي لن تخصها، وإنما ستنساب هاربة من بين أصابعها. إنها رسالة سوف تعيد تأسيسها، هي المرأة التي لم تكن مسلمة خلال تلك المرحلة النبوية. [...] فالمرأة (ولنسمها هكذا، على رغم كل النساء، أليس كذلك!) تفصل بين الملَك والشيطان، وبين الخير والشر، والعقل والجنون" (9). ظهور النبوة يجعل المرأة شاهدة على الوحي، ويجعل النبي الأمي أمام مفارقة توقيع الكتاب. فالنبي ينفصل عن كل توقيع. "إنه توقيع أبيض لأن الله لا يضع خاتمه عل النص، أما محمد فإنه يوقّع موته إذا ما غدا موقِّعًا. كان عليه إذًا قبول هذا الموت الذاتي وهذه التضحية لكي يكون نبيًا، أي نصًّا للاستمرار في الحياة" (10).

حين يكتب الخطيبي عن الإسلام، يهتم بشخصية الرسول باعتبارها تدخل في أسطورته الشخصية، كما في طبيعة علاقته الشخصية بالمقدس. وحين يهتم بالجنس في القرآن فذلك ليحلل نصيًا، بطريقته، هذا الجانب المقلق والغامض الذي يخضع للمحرم. أما اهتمامه بالرسالة المحمدية، فهو يبرره كالتالي: "لماذا اشتغلت على الرسالة النبوية؟ وجدتني أقول لنفسي: مع أن محمدًا هو اسم أخي الأكبر، فإن هذا الاسم يذكّرني بالتضمين اللساني hypogramme. ولا زالت هذه الفرضية تستنفر أحلامي. لن أسرد سلالتي إذا أنا وضحت أن اسم أبي، أحمد، هو أيضًا أحد أسماء النبي. وأحمد ومحمد لهما الجذر اللغوي نفسه، وهو "حمد". لقد ولدت يوم عيد الأضحى (العيد الكبير)، ومن ثمّ سميت بهذا الاسم، الذي أصبح أحد الأسرار المؤسسة لكل ما أكتبه" (11). الكتابة إذًا، كما موضوعاتها ووجهاتها، لدى الخطيبي، تغدو خاضعة للمصير الشخصي، ولقدر الاسم! إنها رؤية شخصية تبرر أيضًا علاقته الوجودية بالتصوف في طابعه الروحاني. ولا يخفى أخيرًا أن هذا الاهتمام الخصوصي بالإسلام وبعلاقة التحليل النفسي بالشخصية المحمدية والرسالة التي حملتها، قد تكون وراء اهتمام صديقه المحلل النفسي التونسي فتحي بن سلامة بالإسلام، وبالشخصية المحمدية (وإن بشكل غير مباشر، كما اعترف بذلك بن سلامة)، ما يؤكد الانفتاحات الهائلة التي حملتها كتابات الخطيبي في هوامش الثقافة العربية...

(انتهى)...

هوامش:

1- هذا ما تنطع له مالك شبيل في كتابيه عن الذات في الإسلام، وعن الوعي الباطن/ لاشعور الإسلام.
2- الجابري، العقل السياسي العربي، محدداته وتجلياته، مركز دراسات الوحدة العربية، 1990، ص. 7.
3- الجابري، العقل الأخلاقي العربي. دراسة تحليلية نقدية لنظم القيم، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، 2001، ص. 11.
4- لا يحيل الجابري على كتابات طه عبد الرحمن في الأخلاق، وخاصة كتابه: سؤال الأخلاق، مساهمة في النقد الأخلاقي للحداثة الغربية (2001)، الذي يبدو أنه لم يطلع عليه عند تحريره لكتابه الذي صدر في العام نفسه!
5- لا يدخل الجابري هذا الكتاب ولا كتاب المشروع النهضوي العربي (1996) في مشروع "نقد العقل العربي" مع أنهما يدوران في فلكهما.
6- الجابري، المشروع النهضوي العربي. مراجعة نقدية، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، 1996، ص. 12.
7- Khatibi, Chemins de traverse, op. Cit., p. 430
8- المرجع نفسه، ص. 451.
9- "النبي الملهم"، ضمن: المغرب العربي وقضايا الحداثة، منشورات الجمل، ص. 30-31.
10- نفسه، ص. 32.
11- نفسه ص. 34. 

 

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.