}

في جدلية الترفيه المحض تحت وابل الرصاص

سميرة المسالمة سميرة المسالمة 16 نوفمبر 2023
آراء في جدلية الترفيه المحض تحت وابل الرصاص
اعتذر محمد سلام عن "زواج اصطناعي" متأثرًا بألم الفلسطينيين

يعيدنا الجدل الحاصل في الأوساط الفنية والشعبية حول أهمية مواقف الفنانين من الحرب الإسرائيلية الهمجية على أهلنا في قطاع غزة، وطرائق تعبيرهم عن ذلك، إلى أهمية دور الفن في حياتنا، وتوجيه أولوياتنا وتعزيز مشاعرنا تجاهها، وإلى حقيقة دور الفنان في عملية "إنتاج الوعي العاطفي الشعوري" تجاه قضايانا، الذي "هو محور إنتاجه" حسب تصنيفات المفكر المصري نصر حامد أبو زيد لمفهوم المثقف.

انطلاقًا من هذا المفهوم يمكن توصيف حالة تجميد الأعمال الفنية غير القادرة على تحقيق ذلك الهدف، بأنها نوع من ممارسة "الفعل البناء" على الرغم من سلبيته بالمعنى الحركي، أي أن اتخاذ بعض الفنانين قراراتهم بوقف نشاطهم الفني من تمثيل، أو غناء، ورقص، أو حتى احتفاء بالنجاحات والأعمال، كحال تأجيل بعض المهرجانات السينمائية، والدرامية، هو ما يعني "اللا عمل" بمفهومه الفيزيائي أو العملي، لكنها في الواقع المأساوي الحالي هي حالة قيمية أو فعل أخلاقي بالمفهوم الشعوري الوطني المنتج.

من هنا يمكن مناقشة الخلاف الحاصل مثلًا حول موقف الفنان محمد سلام المتمثل في اعتذاره عن المشاركة في فعاليات "موسم الرياض الرابع"، في مسرحية "زواج اصطناعي"، وهي مسرحية كوميدية- استعراضية- راقصة، ومن بطولته. فحيث أبدى الفنان أسبابه المنطقية، والأخلاقية، للاعتذار في ظل التأثر بحال الحزن والألم الذي يعيشه على إخوته الفلسطينيين، الذين تقتلهم آلة الحرب الإسرائيلية، بأنه لا يستطيع الغناء والرقص والضحك في وقت يذبح فيه شعب فلسطين، وهو بالمفهوم الإنساني البسيط موقف شخصي، لكنه - في حقيقة الأمر- عابر للمشاعر الفردية، ويمكن توظيفه كأحد مؤثرات إنتاج الوعي العاطفي الجمعي تجاه قضية إنسانية، ومصيرية، وهي بالدرجة الأولى قضية وطنية، نشأت الأجيال العربية منذ 75 عامًا على تراكم شعوري متعاطف معها، بل وظفت هذه القضية من قبل الأنظمة السياسية جميعها من أجل تبرير وجودها غير الديمقراطي في حياة شعوبها. ما يعني أن الهجوم على موقف سلاّم لم يأت في كثير من الأحيان من التعارض مع مشاعره، لكنه أتى، أيضًا، وفي ذات الوقت على لسان شخصيات، من باب التبرير لعدمية الموقف الذي تفرضه المصالح، وهذا لا يعني أن كل من تابع أعماله متهم بعدم التعاطف مع القضية الفلسطينية، أو مستهين بالهول الذي يتعرض له أهلنا في غزة، فحيث الفن مهنة لا يمكن تعطيلها، فإن الفنان إنسان لا يمكن إلغاء مشاعره، وهو الأقدر على تقييم حالته واستطاعته في تقمص الشخصية، وإعطائها حقها لتكون قادرة على أداء الدور الذي وجدت من أجله، وفي حالة الكوميديا المرحة أو الحركية تكون المهمة أكثر صعوبة، إذ يمكن أن تتحول من أداء مهني إبداعي، إلى ما يمكن وصفه بـ "انعدام الموقف" والتماهي مع المصالح المادية، وليس ممارسة الفن لمهمته الإبداعية. 

من هنا يأتي التمييز بين مقولة الرافضين لموقف محمد سلاّم، وكثير من الفنانين المحترمين الذين ألغوا أو أجلوا مواعيد أعمالهم الفنية، وكذلك تأجيل مهرجانات فنية، احترامًا لأرواح الضحايا في غزة، "أن الفن مهنة كغيرها تتطلب المداومة بالحضور بكل الظروف، كالطب والهندسة ومختلف الممارسات الحياتية، التي أيضًا هي وسيلة لتحصيل الموارد المالية لمتطلبات الحياة"، وما يحاول أن يمارسه هؤلاء المؤمنون بدور الفن ورسالته الإبداعية هو المشاركة في صناعة الوعي المجتمعي، والرقي بالذوق العام، وليس من مهمة أكبر من صناعة الوعي تجاه قضايا حقوقية ومصيرية كالقضية الفلسطينية، وحق الشعب الفلسطيني في حياة آمنة. فما أهمية الفن إذا لم يكن أداة فاعلة في تعزيز التفاعل مع قضايا الشعوب المحقة، على ما يرى الفيلسوف الإيطالي جيامباتيستا فيكو، في اعتباره "أن الثقافة هي بمنزلة روح المجتمع التي تنفخ فيه الحياة، وفن المجتمع هو الأشد تعبيرًا عن هذه الروح، وعلى هذا الأساس يمكن النظر إلى الإنتـاج الفنـي بوصفه تعبيرًا عن أعراف وليس تعبيرًا ذاتيًا عن مزاج شخصي لفرد". 

كتب المفكر العربي الدكتور عزمي بشارة في مقالته الفكرية عن المثقف والثورة عام 2013: "يمكننا أن نحترم مُبدعًا أدبيًّا أو فنيًّا على تقنية إبداعه وجماليّتها، مثلما يمكن أن نحترم إبداع عالمٍ أو غيره مع أخذ فرقيْن أساسيّين في الاعتبار: الفرق الأوّل، أنّنا قد نعدّ الجماليّة في حدِّ ذاتها صورةً مثاليّةً، ويعدّ إنتاجها نقدًا للواقع؛ والفرق الثاني، يمكن أن نحترم هذا الأمر إذا لم يتحوّل إلى عدميّة، بمعنى اعتبار القيمة هي اللا قيمة، واعتبار الحلّ هو انعدام القيم والمواقف". 

هذا يعني أن ممارسة الأعمال الفنية في الظروف الاستثنائية التي تمر بها الشعوب قد تكون حاجة مجتمعية، حتى في مهماتها الجمالية أو الترفيهية، وهي ليست مالية وحسب، كما يحاول بعض المؤيدين لمهرجانات الفن والترفيه سوق دفاعاتهم عنها لأسباب معيشية، ولكن هذا لا يعني أيضًا، أن تكون هذه  الأعمال تعبيرًا جماعيًا عن اللامبالاة، والانفصال عن الواقع، أو تجاهله، أو تخلي الفنان عن دوره الوطني، أو ضميره الأخلاقي، في زمن الثورة، أو الحرب، حيث يمكن أن تكون مساحة الفنانين المبدعين في هذه الأوقات هي الأكبر والأكثر تأثيرًا وانتشارًا، وهو في جدلية الترفيه تحت وابل الرصاص قد يكون حائرًا بين الموقف العدمي الذي رفضه كثير من الفنانين، أو القدرة على تخطي الألم كما يبرره جموع المناصرين للترفيه المحض.

*كاتبة سورية.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.