}

هذا العالم الذي يتجاهل أرواحنا

بلال خبيز 18 ديسمبر 2023
آراء هذا العالم الذي يتجاهل أرواحنا
ابن آوى شمال غزة ـ جنوب "إسرائيل" (17/12/2023/فرانس برس)

يبالغ المحللون العرب المتضامنون مع الفلسطينيين في تقدير التغيرات التي تطرأ على الرأي العام العالمي حيال الشعب الفلسطيني. ويبالغون أكثر في قدرة هذا الرأي العام على إحداث تغييرات جذرية في السياسات الدولية حيال القضية الفلسطينية.
واقع الأمر أن انفجار الموضوع الفلسطيني في أروقة السياسة الدولية حدث من قبل أن يدرك الرأي العام المدني أن حربًا حاصلة في فلسطين، وأن شعبًا يتعرض للإبادة هناك. احتاج الرأي العام المدني إلى وقت ليفهم ما جرى، وما كان يجري، منذ عقود. والأرجح أن هذا الفهم ما زال قاصرًا عن الإحاطة بمعظم مجريات هذا الصراع وتعقيداته. الرأي العام يكون حارًا حين تكون القضية مثار إبداء الرأي طازجة الحوادث ومبسطة المعالم. ذلك أن التعقيد يصيبه بالخمود والتكاسل، وهو وسيلة للضغط السياسي لا يمكن أن تؤدي وظيفتها في غياب الغضب والحزن والمشاعر الطافحة. لكن صنّاع السياسة في العالم أجمع بدأوا الحديث عما بعد حرب غزة، قبل أن تبدأ حتى. وهذا في حد ذاته لا يسجل في صالح الرأي العام العالمي.
أرجح الظن، ومثلما عودتنا الحوادث السابقة والحروب الدامية التي حدثت خلال العقود الأخيرة، أن توقف نزيف الدم سيخفض حرارة الرأي العام، ويدفعه دفعًا إلى ما كان عليه من قبل. في حقيقة الأمر، يتحصل تضامن الرأي العام مع الضحايا، أو القتلة، بسبب قدرة الدم المراق بغزارة على تجميد شؤون الحياة وعادياتها، فلا ينظر الرأي العام إلى أي مقتلة، أو مذبحة، أو حرب دامية، إلا باعتبارها مؤقتة، سحابة ممطرة في سماء ستصفو بعد قليل. وما إن تصفو حتى يعود الناس إلى ما كانوا عليه، وما درجوا على إتيانه. وتعود المشكلات الخاصة والمصاعب اليومية لتتصدر قائمة همومهم واهتماماتهم، طاردة القضايا الأخلاقية والسياسية والفكرية من الزمن العامل والنشيط إلى الزمن الخامل والمترف. فتنتقل فلسطين من احتلال يومياتنا وليالينا إلى موقع زمني محصور بأزمان إبداء الرأي في يومياتنا، أي بعد أن ينجز المرء كل المهمات التي يجدر به أن ينجزها في يومه، ويجلس في مقهى يتجاذب أطراف القضايا مع آخرين.




هذا في العام والشائع. والعام والشائع يفترضان أن الرأي العام العالمي المتضامن مع الفلسطينيين يكون فاعلًا فقط حين يرى فيهم شعبًا مستحقًا للتلصص على حياته ومراقبتها، وليس شعبًا منسيًا لا يحضر إلى الأذهان والحواس إلا في زمن المجزرة.

من مظاهرة مناهضة للحرب على غزة في مدينة نيويورك (16/ 12/ 2023/ الأناضول) 


والحق أن الشعب الفلسطيني المهمل منذ عقود من قبل الرأي العام العالمي، حضر حارًا وطازجًا في هذه الحرب، لكون الدم المراق كثيفًا وكثيرًا، ولا يمكن أن يمر من دون رد فعل اعتراضي. لم يكن الفلسطينيون قبل هذه الحرب شعبًا يعتني العالم، ما عدا بعض المؤسسات الدولية، بمصائر أفراده ومعاناتهم. كان شعبًا منسيًا كما لو أنه يعيش في غابة عذراء. يمكن لأفراده أن يتزاوجوا وينجبوا ويمرضوا ويأكلوا ما تيسر، وأن يموتوا ببطء أو بسرعة، من دون إحداث أي ضجيج. شأنهم في ذلك شأن كل الذين لا تراقبهم عين العولمة الهائلة وعدستها.
الفلسطينيون في هذا المقام من الاهتمام العالمي لا يرتفعون مقامًا عن السوريين في المقتلة التي تعرضوا لها وخفتت فصولها الدامية منذ سنوات قليلة. فالسوريون كانوا يملكون أفضلية على الفلسطينيين تتيح لهم تضامنًا غير مشروط من الرأي العام المدني والدولي لا يحوزه الفلسطينيون. السوريون الذين ذبحوا وقتلوا وسمموا وخنقوا في الحرب الأهلية السورية كانوا في عين الرأي العام العالمي المدني طلاب انتساب إلى هذا العالم المعولم والمتسع، وفي رغبة انتسابهم هذا كانوا يظهرون قدرًا من الطواعية والتخلي، ليتسنى للعالم أن يقبلهم عراة من كل فكرة مسبقة، ومجردين من كل أحكام مسبقة. كانوا يريدون نظامًا متسامحًا ديمقراطيًا يحفظ لهم سلامتهم ويدرجهم في عداد المنتسبين إلى هذا العصر، حيث يمكنهم المحاولة والتجريب في أن يكونوا مواطنين عالميين إن توافرت الظروف وتزايدت الحظوظ. وكان الرأي العام العالمي ينظر إليهم بوصفهم ضحايا الاستبداد والتخلف والتمسك بأفكار غابرة وقيم لا محل لها في عالم اليوم. كانوا بهذا المعنى، جميعًا، مرشحين لأن يتحولوا إلى مواطنين عالميين، قابلين للمراقبة، ومستعدين للخضوع إلى مستلزماتها، ومتقبلين لتداعياتها.
والحق أن هيمنة القوى الإسلامية الجهادية على مشهد الاعتراض السوري جعل العالم يتخلى رويدًا رويدًا عن المتظاهرين السلميين ودعاة الديمقراطية والمعاصرة. ذلك أن تسيد المنطق الإسلامي الجهادي على المشهد المعارض جعل الشعب السوري برمته في موقع مشابه لمضطهديه. وهو الموقع الذي يفترض أن القاطنين فيه والمتمسكين به يقبعون في زمن قديم وغابر هو غير الزمن الذي ترعاه العولمة وتؤسس رأيها العام على أساس الانتساب إليه.





الفلسطينيون، من ناحية أخرى، لم يقعوا في هذا الموقع. ثمة أسباب كثيرة حالت دون انتسابهم إلى هذا العالم، وأبرزها على الإطلاق يتمثل بحصار إسرائيلي ودولي خانق حشر الفلسطينيين في خانة من يعيش في الكفاف، وبما تيسر. وهذا أمر لا يتساهل نظام العولمة حياله، أكان المقيم في الكفاف فلسطينيًا، أم أرمنيًا، أم أميركيًا. في الولايات المتحدة، ثمة أعداد هائلة تطرد كل يوم من كنف العولمة الراهنة، بسبب عجز هؤلاء عن حيازة شروط الانتساب إليها، وهي شروط تتصل دائمًا بالقدرة على الإنفاق، والمعرفة اللازمة لاستخدام التقنيات الحديثة، والتي لا تني تجعل من استخدامها أكثر تعقيدًا يومًا بعد يوم. الكائن المعاصر هو كائن مطالب دائمًا بأن ينفق ليحق له أن يقيم لحياته وزنًا، وأن يواصل التعلم بلا هوادة لئلا تطرده التقنيات الجديدة المجهولة المعالم إلى خانة من هم أقل من الإنسان قيمة ووزنًا وتطلبًا للرعاية.
والفلسطينيون، من جهة أخرى، كانوا يتعرضون للاضطهاد من طرف يتصل بهذا العالم المعولم القاسي، ويدعي أنه يقيم وزنًا حاسمًا للقيم التي رسختها العولمة، وتلك التي تسعى إلى ترسيخها. الإسرائيليون يبكون على الشاشات لأن جدة أحدهم باتت ليلتها في الملجأ. وهذا مما يسمح لهم بالانتساب إلى هذه العولمة، والتمتع ببعض حمايتها وتضامنها. على عكس الفلسطينيين الذين يتابعون أعمالهم وحياتهم ما إن يدفنوا ضحاياهم، وفي أحيان كثيرة قبل أن يدفنوهم. ذلك أنهم لا يملكون ترف التوقف للبكاء والحزن وتدبيج خطاب الشكوى. وبهذا المعنى، يبدو التضامن العالمي مع الفلسطينيين معقد الموارد. والأرجح أن العالم يرى أن احتمال نجاة بعض الفلسطينيين من الحياة البرية التي يعيشونها قائمة، لذلك يتضامن مع الجميع رغبة منه في نجاة بعض الذين يحوزون شروط العولمة، ويبدون استعدادهم للخضوع لمتطلباتها. والحال، فإن التضامن مع الفلسطينيين يعاملهم كأفراد يستحق بعضهم أن ينجو، فيما الشعب نفسه ككتلة متراصة، لا يملك أي حظ من النجاة. لتنجو، بحسب منطق الرأي العام العالمي، عليك أن تتخلى عن فلسطينيتك وتعرض مواهبك وطاقاتك ومهاراتك، وقد ينجح العالم المعولم في تقبلك كفرد. لكنك أبدًا لن تكون فلسطينيًا فيه.
العالم اليوم يستطيع التضامن مع من يملكون، وثمة من يهددهم بخسارة ما يملكونه. لكنه غير قادر على التضامن مع الذين لا يملكون كثيرًا، ولا يبكون على الشاشات لمجرد أنهم يشعرون بالوحدة، أو لأن الطائرات منعتهم من ممارسة رياضتهم الصباحية. هذا العالم يبدو في قرارته حريصًا على أملاكنا وثرواتنا، لكنه لا يحرص على حيواتنا، وليس ثمة طريقة حتى الآن لإقناعه بأن الحياة أثمن من جهاز الآيفون.

مقالات اخرى للكاتب

آراء
18 أبريل 2024
اجتماع
8 أبريل 2024
تشكيل
18 مارس 2024

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.