سألني صديق من الثوار المعارضين: أليس دريد لحام مؤيدًا لنظام الأسد، ومنافقًا كبيرًا؟
قلت: بلى، مؤيد، ولكنه غير منافق؛ لأنه مقتنع بهذا التأييد، ومنسجم مع نفسه.
قال: ولكنه مدلس، يعمل على إظهار محاسن النظام، وإخفاء مساوئه وجرائمه، ويدافع عنه بشراسة.
قلت: هذا صحيح.
قال: ولعلمك، أنا أراه ممثلًا فاشلًا، تافهًا، كان يستظل بنهاد قلعي، ثم بمحمد الماغوط، وبعد رحيلهما لم يبق له اسم يُذكر، وصار يشارك في أعمال تافهة!
قلت: لا. هذا الكلام غير صحيح على الإطلاق.
أظن أنني، وبكل تواضع، قادر على مناقشة هذا الموضوع بشكل جيد، فأنا متابع لمسيرة الدراما السورية، وكذلك الكوميديا، منذ البدايات، وأعرف أن الإذاعة السورية تأسست في الثالث من فبراير/ شباط 1947، ثم، وفي أيام الوحدة بين مصر وسورية، تأسس التلفزيونان المصري والسوري، يوم 23 يوليو/ تموز 1960، الذي يصادف الذكرى الثامنة لثورة الضباط الأحرار في مصر.
كان المبنى الصغير المخصص للتلفزيون السوري، في تلك البدايات، قابعًا على سفح جبل قاسيون، يرأسه صباح قباني، شقيق الشاعر نزار قباني، والمذيع سامي جانو كان أول من قال "هنا دمشق". وأما مدير الاستوديو فهو المخرج الراحل رياض ديار بكرلي... وكان يتواجد في التلفزيون أشخاص من العاملين في الإذاعة، منهم خلدون المالح، وحكمت محسن، أو من العاملين في المسرح، كعبد اللطيف فتحي، ومحمود جبر، والتحقَ بهم كل من نهاد قلعي، ورفيق السبيعي، ودريد لحام... وإذا كنت تريد الحق، فإن قلعي ولحام والمالح، وإلى حد ما رفيق السبيعي، هم المؤسسون الحقيقيون للكوميديا التلفزيونية السورية... وهنا لا بد من الإشارة إلى أن المؤسس الأول للكوميديا الإذاعية هو حكمت محسن، الذي كان يمتلك دكانًا لتنجيد الفرش واللحف في حارة شامية شعبية، ويسمع الحكايات الواقعية من الناس، ويكتبها بقلم رصاص ثخين، ويقدمها للإذاعة، وقد سئل، ذات مرة، عن سر غزارته في كتابة التمثيليات، فأشار إلى العابرين أمام الدكان، وقال:
- طالما أن هؤلاء الناس يعبرون في هذا الشارع، فلن تنضب الحكايات، لأن لكل واحد منهم قصة وحكاية.

التقط حكمت محسن، بفطرته، السر الأساس في إبداع الكوميديا، وهو أن يكون موضوعها نابعًا من حياة الناس الطيبين البسطاء، وتعتمد، فنيًا، على صناعة الكاراكترات (الشخصيات) الكوميدية، وجَعْل كل شخصية تتصرف بحسب طبيعتها، ومن هذا المنطلق قدم هو شخصية أبو رشدي العصابي، وجسد أنور البابا شخصيةَ أم كامل البليدة، الحشرية، "اللمضة"، وأبدع فهد كعيكاتي في تقمص شخصية "أبو فهمي" البخيل، كثير الغلبة...
وكان دريد لحام هو الأكثر موهبة، واجتهادًا، واشتغالًا على الكوميديا، وقد سعى، منذ البداية، لصناعة كاراكتر يميزه، فقدم شخصية كارلوس عازف الغيتار المكسيكي، ولكن هذه الشخصية لم تلق نجاحًا شعبيًا، ربما لأنها غريبة عن واقعنا، فصنع شخصية غوار بن مشعل الطوشة، ومن وقتها أصبح النجاح حليفه.
وفي تلك الآونة، التقط نهاد قلعي، الموهوب في التأليف، بالإضافة إلى التمثيل، من السينما العالمية، شخصيتي لوريل النحيف، وهاردي البدين، اللذين قدما أكثر من مئة فيلم، وأجرى على الشخصيتين بعض التحويرات، فكان ذلك الثنائي الشامي المدهش: حسني البورظان، وغوار الطوشة.
الصديق الذي زعم أن دريد لحام ممثل فاشل وتافه لا يعرف، ربما، أنه، عندما كان التلفزيون السوري يبث إحدى حلقات مسلسل من بطولته، في السبعينيات، كانت شوارع المدن السورية وأزقتها تفرغ من البشر، لأن معظم الناس عشقوا هذه الكوميديا الشعبية التي لا تذهب بعيدًا في عمق القضايا السياسية الاجتماعية، وإنما تنتقد بعض العادات والتقاليد والأنظمة، بلطف، ودونما إسفاف... وبالنظر لندرة أجهزة التلفزيون، في تلك الأيام، فقد كان الناس يتجمعون في أماكن تواجد جهاز، ولا سيما المقاهي، التي كانت تعد اقتناء جهاز تلفزيون في هذه المواسم "باب رزق"، لأن المقهى يكتظ بالزبائن قبل ساعة على الأقل من بدء الحلقة...
الجملة الشهيرة التي درجت بين الناس في تلك الأيام هي: رايحين نتفرج على غوار! لم يكن أحد يقول (رايحين نتفرج على حسني البورظان، مثلًا، أو على أبو صياح، أو على فطوم حيص بيص). وبعد انتهاء كل حلقة، كان يستمر التداول فيها بين الذين شاهدوها، وكل واحد يعيد جملة أعجبته، أو يشير إلى موقف رآه ذكيًا، بارعًا، ويضحكون، دواليك حتى يحين موعد عرض الحلقة التالية...
كان نهاد قلعي هو مؤلف العمل، أو بالأصح، معده، لأن بعضها، مثل حمام الهنا، اقتُبس عن رواية لكاتبين روسيين هما إيلف، وبتروف، عنوانها اثنا عشر كرسيًا، ومع ذلك لم يستطع نهاد ـ قط ـ أن يتفوق في الأداء على دريد لحام، الذي كان يستثمر في أدائه حركات وجهه، ويديه، وساقيه، ويتلاعب بطبقات صوته، ولم يهمل حركة قدميه، إذ ابتكر فكرة المشي على إيقاع طرطقة القبقاب، وكان حضوره هو الأقوى في المسلسلات، ثم في الأفلام السينمائية.
دريد ونهاد حققا، على نحو مبكر، النجومية التي يطمح إليها كل ممثل، ولكن دريد لحام حقق، عدا عن النجومية، المركزية، فأنت تشاهد فيلمًا، أو مسرحية، أو مسلسلًا، يتألق فيه نهاد قلعي، وعمر حجو، ورفيق السبيعي، وناجي جبر، وفطوم حيص بيص، وزياد مولوي، وهم ملتفون حول دريد لحام، ولكن أيًا منهم لم يستطيع أن يحتل تلك المركزية في أي عمل فني، وقد جربها بعضهم، فأنتجت لناجي جبر بعض الأعمال، وزياد مولوي أنتج أفلامًا سينمائية من بطولته، ونهاد قلعي تولى بطولة مسلسل بعد إصابته بالشلل، ولم يحقق أي منهم ما تحقق للمجموعة بوجود دريد لحام.

بعد انتهاء حقبتي الستينيات والسبعينيات، ساد في الوسط الفني السوري اعتقاد بأن دريد لحام قد سجن نفسه في شخصية غوار، وما عاد يستطيع الخروج منها. والحقيقة أن هذا الكلام ينطبق على آخرين بقوا سجناء شخصياتهم التي صنعوها في الأيام القديمة، مثل: نهاد قلعي (حسني البورظان)، ورفيق السبيعي (أبو صياح)، وياسين بقوش (ياسين)، وناجي جبر (أبو عنتر)، وزياد مولوي (عبدو)، وعبد اللطيف فتحي (بدري بيك أبو كلبشة)، وأما دريد لحام فقد أنجز، في ما بعد، مجموعة من الكاركترات الناجحة، كشخصية "الدغري" في المسلسل الذي أعده رفيق الصبان عن رواية "زوبك" لعزيز نسين، وأخرجه هيثم حقي، وشخصية "أبو الهنا" في المسلسل الذي كتبه حكم البابا، وسلمى كركوتي، وأخرجه هشام شربتجي، وشخصية رئيس الفرع في مسلسل "أيام الولدنة" لحكم البابا، ومأمون البني، وصولًا إلى شخصية بو نمر في مسلسل "الخربة" لممدوح حمادي والليث حجو.
إن الفكرة القائلة إن الأديب الكبير محمد الماغوط ساهم في صناعة مجد دريد لحام صحيحة، ولكنها ليست أساسية، لسببين رئيسيين، أولهما أن دريد لحام أخضع نصوص الماغوط لخطه السياسي، بمعنى أنه تمكن من معالجة النَفَس المعارِض الموجود عند الماغوط، وجعله يصب في مصلحة التوجه العام لنظام الأسد، ولهذا أطلق بعض النقاد على هذه التجربة اسم "المسرح التنفيسي"، وثانيهما أن تجربة دريد لحام الفنية مستمرة منذ 1960، واستمرت بعد توقف الماغوط عن الكتابة له...
وأخيرًا: مسرح الشوك، الذي ابتدع فكرتَه الفنان عمر حجو، كان تجربة ناجحة، مع أنه ابتدأ من دون دريد لحام، ولكن التجربة، في رأيي، أصبحت أفضل بعد انضمام دريد لحام إليها.