}

حرفة الموت السوري

سميرة المسالمة سميرة المسالمة 28 فبراير 2023
آراء حرفة الموت السوري
عمل للفنان التشكيلي السوري عادل داوود


هل كان يمكن للكارثة التي حلت بالسوريين ان تكون أقل فتكًا بهم؟ يبدو السؤال منطقيًا عندما نتحدث عن زلزال السادس من شباط/ فبراير، واتساع رقعة خرابه في تركيا، ولكن عندما يكون السؤال عن سورية، وتحديدًا في الشمال السوري المنكوب، يصبح هذا سؤالًا فيه كثير من الرفاهية، إن لم نقل أنه ينتمي إلى العيش خارج واقع السوريين على أقل تقدير من 12 سنة إلى اليوم، فمنذ إطلاقهم صيحات الحرية عام 2011 والسوريون يعاندون يأس الواقع، بشغف الحب، وينزحون من أرض إلى أرض، ويموتون مرة تلو مرة، كأن الموت عند السوريين حرفة، يتقنون تفاصيلها، تمامًا كما هي صنعة الحياة الدنيا، لا يدركهم اليأس من تجديد أشكال موتهم، ولا تحيلهم المأساة إلى التسليم بالهزيمة.

بين الأمل الذي حكمنا لعقود، واليأس الذي يمد لنا لسانه، كان خيار السوريين في العقد الأخير من حياتهم أن يبنوا حقيقة أخرى على الأرض، أن يعيشوا رغم أنف الموت الذي يحاصرهم، صحيح أنهم خلاف للناس لا تتعدد فرصهم في الحياة ثانية وثالثة، بل تتعدد فرص موتهم وتتباعد مراقدهم، ورغم حقيقة أن الموت يحاصرهم، يقاومون ليحصلوا على فرص جديدة منه، واختبارات عديدة لأنواعه، فهم الذين لاحقهم الموت تحت ركام المباني المقصوفة بالقنابل، والبراميل المتفجرة، والصواريخ الغبية منها، والذكية، واصطادهم قناص من فوق الأسطح ورشاش الجنود، وجندرما الحدود، وهراوات البوليس، ثم ماتوا غرقًا أو تعبًا أو جوعًا، السوريون الخبر الأول عند الموت والأخير في فرص العيش.

إذا غضب عنصري في بلاد الغرب، قتل الناس ساجدين، أو استاء معارض من حاكم هناك قتلهم حرقًا أو بالسكاكين، يعرف السوري دون العالمين طعم القتل رصاصًا وخنقًا وبالسواطير، وبالغاز السام والكلور الرخيص، وأخيرًا وليس آخرًا بالطوفان والبراكين والزلازل، وبكل وسائل الموت الممكنة، والمتاحة وبالأسلحة المجربة وقيد التجريب، وبصك تمليك وتكليف بقتلنا من حكوماتنا السورية الأربع، ترفعه دول احتلالنا بوجه شعوبها، فيموت الجميع من معارضين وموالين، لربما يسجل التاريخ سابقة للسوريين أنهم أول "شعب مات ليحيا الرئيس".

بين رحلة موت عابرة، وأخرى قادمة، يكتب السوريون قصص خلودهم على جدران القبور، ممتدة من أرض الوطن إلى بلاد المهاجر، بكل مسمياتها، وألوان أعلامها، وألسنة شعوبها: "نحن الشعب الذي يموت مرة تلو أخرى، ويبحث عن سبل النجاة من الحياة، وليس لأجلها"، ويصادق طرق الموت برًا وبحرًا وجوًا، يعانق صخور الأرض المتناثرة غضبًا، ويزرع رايات النصر فوق خيام ناجية من موكب مساعدات أممي عابر.

نحن "المنكوبين" بالحرب والزلازل علينا أن نضحك عندما يتصور معنا المحسنون، ونرسم علامات البهجة على وجوهنا وهم يوزعون علينا الجبن ورغيف الخبز وزجاجات العصير.

الرسائل الهاربة من بين الركام، توثق تفاصيل حياة عنيدة، صاخبة ملونة كما هي جدران مقابرهم هناك 


لا يرتكب السوري الجديد- أي السوري ما بعد 2011- جنحة اليأس، ولا الصمت، ولا يتعلق بحبال الأمل الواهمة، كما أنه لا يقبل العيش بينهما، بل يصنع لنفسه حياة من واقع الحرب والدمار والتشرد والفقر والزلازل، ومن فوق  الركام ينسج قصص حب، وتولد حياة جديدة، تسكن باطن الأرض، أو بين حطامها، تبني وطنا من جدران محطمة، وتستظل بأسقفها المهدمة، لا سجون فيه، ولا قيود تصادر الكلام وتكم الأفواه، من هناك من تحت الرماد تخرج حكايات عن الود والحب والذكريات، والإيثار في أحلى صوره، صحيح أن قصص الناجين من موت كوارث الزلازل تخيم على أحاديث الناس، تفزعهم أحداثها، وتفرحهم النهايات السعيدة، رغم أنف الموت، لكن ثمة حكايات أخرى تحت الأرض، أيضًا، يكتبها "الناجون من الحياة"...

الناس في ميزان الكارثة إما أموات، أو جرحى، أو أحياء، لكن للسوريين أيضًا تعداد آخر، أو بند مضاف لا تعرفه الشعوب الأخرى عند إحصاء خسائرها أو غنائمها، "المغيبون" الذين ليسوا في عداد الراحلين، ولا هم على قيد الناجين، لا يعرفون إذا كانوا تحت الأرض أم فوقها، وليس لهم من يسأل عن أسمائهم، كأنهم من زمن غابر، قبل أن تولد المدنية والقبيلة وحتى البشرية، ذهبوا دون أن يوقعوا على دفتر الحضور البشري، كانوا محض ألم عابر، لا يذكره معافى ولا يعلم به طبيب، هم أنفسهم الذين كانوا في الحرب الضحايا، وفي التهجير القسري كانوا ركاب "الباص الأخضر"، كانوا فقط فرق أرقام، وفي الزلازل سقطوا من كل القوائم، ولن تحصيهم عدادات الخسائر.

منذ إطلاقهم صيحات الحرية عام 2011 والسوريون يعاندون يأس الواقع، بشغف الحب، وينزحون من أرض إلى أرض، ويموتون مرة تلو مرة، كأن الموت عند السوريين حرفة!

الرسائل الهاربة من بين الركام، توثق تفاصيل حياة عنيدة، صاخبة ملونة كما هي جدران مقابرهم هناك، وقصاصات أوراقهم المبعثرة بين الركام، وأشعار نزار، وروايات غادة، ومذكرات كلينتون، و"سيديات" العندليب وسهرات أم كلثوم، وفيروزيات الصباح، وصفحات جرائد، ومقالات مرصوصة تنام تحت وسادة عاشق، وأقلام الحمرة، ومشابك الشعر، و"فساتين" الساتان اللامعة، وامرأة على مشارف الموت تغازل زوجًا أو حبيبًا وتخلط الألم بالسياسة "لا تكتب لي بالأحمر، ذكرت لك أكثر من مرة، هنا في بلادنا المنسية، الأحمر لا يعني الحب، هو لون الموت المضرجة به أسقفنا المدمرة، هو ليس انعكاس لدفء الجوري، هنا، هو الدم، المحرقة، النار، سيارة الصليب الأحمر، والهلال الأحمر، التائهة عن عناويننا".

عوالم الحب لسكان الأبنية الهشة التي زعزعتها الزلازل رصينة صنعتها الإرادة، ومدتهم بالقوة، كسرت حواجز خلافاتهم، ووحدت معالم وطنهم الذي اختلفنا على حدوده وعلمه وأحزابه، تمسكوا - رغم العجز عن مواجهة الطبيعة الغاضبة- بفرصة ثانية للحياة، ربما ليس رغبة بالحياة نفسها، وإنما لتكون جسر عبورهم إلى تجربة موت جديدة، كأن قدر السوريين أن يتمسكوا بفرص النجاة، لاختبار قدرتهم على الموت مجددًا، ليس يأسًا، وليس تمسكًا بأمل واهم، بل هو التحدي لهذا الموت المتكرر أن يستطيع ابتلاع حيواتهم العديدة وحلم حريتهم، فهل يزهر هذا النصر على الموت وطنًا أكبر من مقبرة، وأوسع من سجن، وأصغر من ساحة حرب؟

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.