}

عن جريمة انشقاقي وروايتي

سميرة المسالمة سميرة المسالمة 14 مارس 2023
آراء عن جريمة انشقاقي وروايتي
من أعمال الفنان السوري تمّام عزّام

 

يقتحم عالم الكتابة مخيلاتنا، يداعب فكرة البقاء التي تسكن الإنسان منذ الأزل، ويدخلها في تنافس مع موروثاتنا عن كيفية استمرارية وجودنا، البقاء في عالم المستقبل، عبر صناعة الأثر غير البشري، خلافًا للتزاوج، واستمرار النسب، تحضر الإجابة في معارض الكتب التي يصطف التاريخ فوق رفوفها، وتعلن الكلمة الحية تفوقها، لقد حضرت عوالم أشخاص وتجاربهم واكتشافاتهم وكتبهم، حضرت نساء القصيدة ورجالها، وبطلات الروايات وأشرارها، عاش كتاب الفلسفة والتاريخ والفن والعلوم والطب، عاشت أدوار المسرحيات ولم يمت قتلاها، عاش شكسبير في شخصية الملك "هاملت" رغم موته المبكر، وكذلك بقي قاتله كلوديوس حيا في عالمنا، تتوارثه الديكتاتوريات المتصارعة على السلطة حتى يومنا هذا، نعم هي الكتب صانعة حرفة الخلود الإنساني، لمواجهة خلود صنّاع الموت الحقيقيين.

وسط أكداس من الورق، وآلاف من الكتب المنتصبة في معرض كتاب، تبحث عن اسمك، ربما تاه عنك أنك لست هنا، يخبرك غيابه عن مأزق السراب الذي كنت جزءًا منه، تدرك أنك في المنفى، ليس المنفى المكاني وحسب، أنت منفي من جسدك وأقلامك وتاريخك، وأنت جزء من خسائر انهيار سورية، في الصراع على الوجود، والهوية، والسلطة، في بلد طالب بالتغيير أو الإصلاح، ثم صنع ثورته على مقاس ساحاته، زينها بحلقات الدبكة وطوق من الأمنيات، سرعان ما صارت كالشائعة تدور بين المدن وتحكيها النسوة والرجال ويسهر عليها الشباب، ثم تحولت إلى ثورات متلاحقة ومتداخلة، طالت كل شيء، وعلى كل شيء، حتى على ثورتها، وناسها، وشعاراتها.

أسقطت الثورة في سورية مبكرًا مشروعية الحاكم، ولاحقًا أسقطت المحكوم نفسه "الشعب"، تحولت سورية بوجهيها النظام والمعارضة، إلى قاعة محكمة، وأجلست الجميع داخل قفص الاتهام، بعد أن أقصت القضاة والمحامين وأطلقت الأحكام، اليوم أنت مدان: بسوريتك أي باعتقاداتك السابقة واللاحقة، بكل ما تنتمي إليه، وينتمي لك، شهادة ميلادك، لباسك الطلائعي، "بدلتك الخاكية"، جلاؤك المدرسي، وثيقة تخرجك، سنوات عملك المضني، أسباب تمردك، وعبارة سيدي الرئيس.

حدثت الفوضى وامتزجت مطالب التغيير ببوادر الثورة بعد أن غابت المرجعية المؤسساتية للتغيير، بسبب "انشقاق بين دعاة التغيير ودعاة المحافظة على الوضع الراهن" كما يذكر الدكتور عزمي بشارة في كتاب "الثورة والقابلية للثورة"

انشقاق الثورة على الثورة

حدثت الفوضى وامتزجت مطالب التغيير ببوادر الثورة بعد أن غابت المرجعية المؤسساتية للتغيير، بسبب "انشقاق بين دعاة التغيير ودعاة المحافظة على الوضع الراهن"، كما يذكر الدكتور عزمي بشارة في كتاب "الثورة والقابلية للثورة"، أي بين المعارضة والموالاة لنظام الحكم القائم، وأيضًا، وفي ذات الوقت، لتعدد الثورات وأهدافها ومشاريعها ومموليها، ولسقوط فكرة الديمقراطية من مخرجات الخطاب الثوري "لكل انشقاقات الثورة" المحمولة أساسًا على الحرية المنشودة بما تحمله من الحقوق المواطنية في شقيها الشخصي والسياسي.

مع تعدد الثورات وجدت معايير عديدة للوطنية السورية، وضمنها لتصنيف السوريين، وكتاباتهم مع إسقاط لسياقها العام، ما يعني أن على الكاتب غير المعارض تاريخيًا التخلي عن كل ما سبق، أن يولد من جديد في إطار تحدده له مسارات الفوضى وانتماءاته الجديدة، وعليه فإن آلاف أعمدة الصحف التي تسكن تاريخك، وتسكنها، بأوجاعها وأنات مطالبها، لن تضعك على أي من هذه الرفوف العابرة إلى المستقبل، لأن جمعها صار خيانة للثورة أيًا كانت ملامحها.

شخصيًا لم أعتقد يومًا أن الثورة السورية عام 2011 ­- أي في لحظة انعتاقها من الصمت- ستذهب بكل ما سبق، ستحولني إلى جزء من ماض، وربما إلى شريك في جريمة اغتصاب السلطة والكلمة والرأي، كانت الثورة تعني لي القادم الأجمل، الحلم المكتوب الذي عايشناه في روايات الأدب وتمرد القصائد، وفلسفة الثورات، عالم بلا ديكتاتوريات، بلا أنصاف من القديسين والمنزلين المكتوبين كالقدر على شعوبهم، تقونن أن الشعب هو قوة القرار، ولكن سرعان ما سقط "الشعب" نفسه، وارتفعت رايات قتلته، صار في عداد ضحايا الصراع على الثورة من جهة، وعلى السلطة من جهة ثانية، وعلى الهوية المتنازع على عروبتها وكرديتها من جهة ثالثة.

بين القراءة والكتابة بدأت بتشكيل عالمي الخاص، كان لا بد أن أصنع له ماضيه، تشكلت ملامح ذلك الماضي في رواية "نفق الذل" التي بنيت من جدران الخوف


"نفق الذل": جدران من الخوف وحراس من نار

هنا كانت الوقفة الحقيقية لثورتي الخاصة، هل حررتني الثورة من الخوف؟ كان هذا السؤال يراودني خلال مسيرة عمرها 12 عاما من الكتابة بعد الثورة، وهل دفعتني عنوة إلى تلك الرفوف التي صارت حلمًا أكبر من الثورات المتناقضة التي تعيشها سورية؟

صار الكتاب هو الثورة، بين دفتيه يسكن الحلم المنشود، بين القراءة والكتابة بدأت بتشكيل عالمي الخاص، كان لا بد أن أصنع له ماضيه، تشكلت ملامح ذلك الماضي في رواية "نفق الذل" التي بنيت من جدران الخوف، لم أكن أعرف شخصياتها، فتحت تجربة الكتابة الروائية أبواب ألم مغلقة، استحضرت خلالها ذاكرة القهر المتخيلة، في كثير من الأوقات كنت أشعر بسياط الجلاد التي تهوي على أجساد ضحايا المعتقلات، كانت أظافري تنغرز في قبضة يدي، ويرسم الدم مسارًا مختلفًا لذلك الذي كنت أعي تفاصيله على دفتر ملاحظاتي.

ذات يوم سرقتني إحدى الشخصيات النسائية وضعتني في حقيبة يدها، مررت معها بين دهاليز السياسة وغرف نوم القرارات المصيرية في يوم سوري عادي، تمعنت في تفاصيل الوجوه الواجمة في مكاتبها، وتلصصت عليها في صخبها ومرحها، فاجأتني وداعتها في أسرة البغاء، عريها من كامل أقنعتها، تحولاتها بين الشر الفائض في مناصبها، والضعف البشري أمام غرائزها، عندما أدركت أن الشخصيات تقبض علي وتدخلني في صيرورة حياتها وتتعامل مع قلمي كإحدى أدواتها، فهمت أنني ما زلت أدور في فلك مملكة الرعب، وأنني أكتب مذكراتهم وليس روايتي، حاولت الخروج من نفق الذل، لكنه كان مظلمًا، بنهايات مرعبة وحراس من نار.

لم تكن الرواية تتحدث عن عالم أعرفه، كان مجرد خيال توهمت أنه فوق الواقع، لكن شخصياتها تقمصوا واقع سوريتنا، تقاسموها جلادًا وضحية، لم أكن أعرف أنني كنت أعيش الحالتين معًا، أيقظت تلك الشخصيات شري وخيري، وساقتني إلى الرذيلة والعفة، أسكنتني في القصور، اغتصبت تاريخي، ثم أنزلتني إلى زنازين القهر، كنت فيها ضيفة على شطآن الموت، ولم أستطع تحطيم جدران الخوف، بقي في فم الشخصيات كثير من الكلام انتزعته خلال قراءة الرواية الأخيرة، وأنا مستغرقة في دوري الرقابي، قبل أن تصبح شاهد إثبات بين يدي القارئ على انشقاقي وجريمتي.


*كاتبة سورية.
 

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.