}

الكتابات المثيرة للجدل وصحوات الفكر النقدي

فريد الزاهي 15 مارس 2023
آراء الكتابات المثيرة للجدل وصحوات الفكر النقدي
جامع قرطبة (4/3/2014/ Getty)
من وقت قليل، صدرت طبعة جديدة لكتاب "العرب لم يستعمروا إسبانيا" (المترجم بهذا العنوان إلى العربية عام 2019) لإغناسيو أولاغوي. الكتاب أثار جدلًا ونقاشًا ورفضًا، فلم يجد له ناشرًا في إسبانيا، حتى صدوره في فرنسا عام 1969، ما جعل منه أنموذجًا للدراسات الطليعية عن التاريخ المشترك العربي الإسباني.
وتكمن الفكرة الأساسية لهذا الكتاب في أن الحضور الإسلامي في الأندلس لم يكن أبدًا غزوًا، أو فتحًا عسكريًا، أو جهادًا مسلحًا، يرمي إلى بسط راية الإسلام في المنطقة، وإنما كان حركة أفكار متصارعة كانت وراءها قوة الفكرة الدينية التي تواءمت فيها قضية التوحيد الإسلامي مع التوحيد الأريوسي الذي جاءت الكاثوليكية "التثليثية" لمحوه في تلك الفترة. إن ذلك التلاؤم بين التصورين الدينيين (الإسلامي والمسيحي الأريوسي)، جعل الأندلس في ذلك الوقت مؤهلة تاريخيًا وثقافيًا ودينيًا لتبني الإسلام من غير حاجة للعنف. وهذا التلاؤم "البنيوي" هو ما سهل نفوذ "الفتح" الإسلامي لاستجابته للمنتظرات العقيدية للشعوب الإسبانية. من ثم فإن الحراك الداخلي الديني والثقافي والروحي، هيأ المجال للمسلمين، وخلق الشروط الملائمة لجغرافيا إصلاحية جديدة شاملة شارك فيها أهل الأندلس والمسلمون الآتون من الجنوب من أجل هدف واحد هو الأندلس الجديدة، بثقافاتها المتنوعة، وحضارتها الإسلامية المزدهرة. وما يوضحه المؤلف هو أن العرب ليسوا هم من بادروا إلى فتح إسبانيا، وبث الديانة التوحيدية فيها، بل إن الإسبان هم أنفسهم اعتنقوا التوحيد قبل أن يدخلوا في الإسلام باعتباره ديانة توحيدية.
إنها نظرة تصالح الإسبان مع ماضيهم الإسلامي بالأندلس؛ ذلك أن فكرة الغزو الإسلامي ستبرر، قرونًا بعد ذلك، فكرة طرد المسلمين من الأندلس. وهذه النظرة، التي يعيد الكاتب النظر فيها تلغي مسألة القطائع، وتجعل التطور الثقافي والديني لإسبانيا منسجمًا. فالتقارب بين الديانة التوحيدية الإسلامية، والعقيدة المسيحية الأريوسية، يعني تقبل الإسبان للديانة الإسلامية، لأنها ديانة منسجمة مع تصورهم الاعتقادي، وهو أمر سهل بشكل كبير نفاذه إلى وجدانهم الديني التوحيدي. لذلك، وبما أن أغلب الوثائق التاريخية أصابها الإتلاف، يدعو أولاغوي إلى إعادة قراءة هذه الفترة التاريخية بعين نقدية. ويقدم مثالًا هامًا من المجال الفني المعماري، يتمثل في أن جامع قرطبة لم يشيده المسلمون، وإنما بُني قرنين قبل ذلك. ومعماره لا علاقته بالمعمار في المشرق الإسلامي، وأن المسلمين كيفوه مع صلواتهم. وبذلك كان دار عبادة مشتركة. كما يفترض المؤلف أن الجيوش العربية لم تكن من الكثرة والقوة بحيث تغزو شمال المتوسط. ولو لم يكن هنالك ما يساعد على ذلك، أي الديانة الأريوسية والتوحيد الذي تنادي به، لما كان في إمكان المسلمين الانتشار في المنطقة، وبناء حضارة جديدة. وإضافة إلى ذلك، يرى المؤلف أن الجفاف كان وراء التوسع الإسلامي، سواء في حركة بني هلال نحو المغرب، أو المرابطين نحو الشمال. وبذلك يخلص إلى أن فتح الأندلس كان مبنيًا على السلم أكثر من القوة والعنف العسكري.


شُهُب السؤال الثقافي العربي
إن أبحاثًا من قبيل هذه، وهي تسائل التاريخ، وتخلخل اليقينيات التي تربينا عليها، تمنح للبحث والسؤال الثقافي النقدي أهمية بالغة في بناء ثقافة متحررة ومنفتحة ونقدية. وذلك ما عشناه أيضًا في ثقافتنا العربية بالشكل نفسه في عشرينيات القرن الماضي. فحين أصدر طه حسين كتابه "في الشعر الجاهلي"، أثار ضجة كبرى، لأنه كان أول كتاب حداثي (بالمعنى الكامل للكلمة) في الثقافة العربية الحديثة الوليدة يعود إلى الأصول التي ثبتها الأدب العربي، فيشكك فيها من جانبين: بأن أغلب ما وصلنا من شعر جاهلي منحول، ويعبر عن البيئة الإسلامية اللاحقة عليه؛ وبأن دراسة التراث الأدبي العربي (المعري على سبيل المثال) في حاجة إلى مختلف المعارف، من فلسفة، وديانات، وغيرها. كانت صيحة طه حسين تنطلق من انحطاط الثقافة العربية، وعدم انفتاحها المعرفي، فلو كان الجاحظ، في نظره، ابن عصرنا الحديث لكان درس الفلسفة الفرنسية والألمانية.
البحوث والكتابات المثيرة للجدل في تاريخ الثقافة العربية لا تتمثل في المساس بالمقدسات التراثية، وإنما في المطالبة بمراجعتها. إنها تلك الحصاة التي ترمى في البركة الآسنة لثقافة معتدة بذاتها، مرتكنة إلى أسسها ومصادرها. وهي من القلة والندرة بحيث إنها، حين تشكل الحدث الثقافي، تفتح عيوننا على ذواتنا بالشكل نفسه الذي تضعنا أمام مرآة السؤال المستقبلي.
لماذا يشكل التراث والتاريخ دومًا الموطن الضروري لطرح السؤال والتجديد والتشكيك وإعادة النظر؟ لقد كانت "القطائع" التي جاء بها نيتشه، وهايدغر، وجاك دريدا، وغيرهم في الفكر الغربي الحديث والمعاصر، نابعة أساسًا من إعادة قراءة تاريخ الفلسفة والفكر الغربيين. بيد أن أسئلة هؤلاء المفكرين ومراجعاتهم أسست لتيارات فكرية وفلسفية سوف تمارس امتدادها بعدهم، بالرغم من إثارتها للجدل والاختلافات والشروخ التي أنتجتها. أما في تاريخ ثقافتنا العربية فإن الكتب والمؤلفات المثيرة تغدو مثل شهب تمر سريعًا، ولا تترك أثرًا كبيرًا، تحاصرها في الغالب بشكل ضارٍ مؤسسات الفكر المحافظ.
ذلكم كانت حال كتاب طه حسين، الذي سوف يعيد مراجعته وإصداره بعنوان جديد، وبتعديلات "ملائمة" تخفف من حدة مواقفه. من يذكر اليوم كتابات عبد الله القصيمي الجريئة، التي هاجم فيه مؤسسة الأزهر، ودعا إلى التحرر من عبودية المعتقد والحكام. وهو ما كاد يودي بحياته عام 1947، سنة بعد صدور كتاب "هذي هي الأغلال"، الذي أثار ضجة في الأوساط الإسلامية؟ هكذا يبدو أن رهان التجديد (ومعه الإصلاح) يتوجه إلى العقيدة والتراث الديني والثقافي، بحيث إن قراءة التاريخ والتراث غدت رهانًا حيويًا لكافة القراءات المجددة، من القصيمي إلى عابد الجابري، مرورًا بحسن حنفي، ونصر حامد أبو زيد.




كان يكفي نصر حامد أبو زيد، لكي يتعرض للمحاكمة والتجريم والتكفير، أن يتعامل في كتاب "نقد الخطاب الديني"، كما في كتاب "مفهوم النص" مع مصادر العقيدة الإسلامية باعتبارها نصًا قابلًا للتحليل والتفكيك والتأويل، مثله مثل أي نص آخر، من غير مرور بمسألة الإعجاز المعروفة. وهو في مقاربته "البنيوية" تلك لم يكن يجاوز كتابات أركون التي كانت تبني مقاربتها للفكر الإسلامي من منظور نصي. بل إنه يشكل بمعنى ما صيغة جديدة أكثر "علمية وأكاديمية" لكتاب صادق جلال العظم "نقد الفكر الديني (1969)، الذي تعرض بدوره إلى المحاكمة والتكفير.

القراءة مرة أخرى
من النص كما بلور مفهومه ناصر حامد أبو زيد في الثمانينيات والتسعينيات، إلى قراءة النص كما يبلورها المفكر التونسي يوسف الصديق، ليس ثمة بون شاسع. إنه تحويل للمنظور فقط. ففي 2010، أصدر هذا الأخير بالفرنسية كتابًا بعنون "نحن لم نقرأ القرآن قط"، ترجم إلى اللغة العربية في عام 2013، بصيغة ألطف (هل قرأنا القرآن؟). يتجرأ المؤلف على طرح السؤال مرة أخرى على تصورنا الراهن للنص الديني، لا باعتباره فقط نصًا مؤسسًا، ولكن باعتباره نصًا يتطلب القراءة: "ونقصد بالقراءة بالمعنى هذا عملية التفكيك والتركيب المتجدّد للوحدات المعنوية، ثم وصلها مع غيرها من المعاني في النص ذاته، مع تحديد المواقع والشخصيات والأحداث والإشارات التي احتواها النص". أما النصوص المؤسسة فإن قراءتها تستوجب قدرات أقوى وتحمل العبء الأعسر في استحضار المعنى وبسطه. "هكذا، يضيف المؤلف، كان علينا وعلينا اليوم أن نقرأ كتابًا عظيمًا مثل هذا الذي فجّر لنا في أول ما فجّر الأمر بالقراءة. فهل نحن قرأناه اليوم بهذا المعنى؟". هكذا تبدو كتابات يوسف الصديق مجددة ومثيرة، ومحررة لقدرات النقد والتحليل، وتعتمد على نظرة عارفة باللغة والتاريخ والثقافة العالمية.
يستوحي يوسف الصديق في هذا المسعى "المستفز" قراءة عبد الله بن المقفع (في "الرسالة في الصحابة")، التي كانت في نظره منعرجًا في تاريخ الفكر في الإسلام. ومنطلقه يتمثل في إعمال النظر المزدوج في القرآن باعتباره وحيًا وفكرًا في الآن نفسه. فالقرآن لم يُنظر إليه أبدًا باعتباره فكرًا. والفشل الذي مُني به ابن المقفع (الذي اتهم بالزندقة وقتل وهو ابن الثالثة والثلاثين) يدل على أن ما فهم من القرآن لا يطابق حقيقته. "ليس الفكر الذي يتضمنه القول المبلّغ من محمد في أصله بفكر ديني، وإنما هو فكر محض". أي أن القطع مع الفكر الموسوي، والقول الإنجيلي، ومراجعتهما، هما عمليتان تمّتا في النص القرآني بهدف الالتحاق باللوغوس، أي بخطاب العقلانية في أبعادها الإنسانية. ولا أدل على ذلك من التلاقي الدلالي بين بعض نصوص أفلاطون، وما جاء به القرآن. إنها عملية تمثل وانفتاح في الآن نفسه.
قريبًا من مفهوم الاجتهاد، يمكننا القول بأن الجرأة المعرفية في السؤال والتفكيك والنقد، إن كانت تطال التاريخ والنصوص المؤسسة، فلأنها المجال الأكثر رسوخًا في الذاكرة الجمعية. وهذه العودة والاستعادة هي ما تؤكده هذه الكتابات المثيرة للجدل. فترميم حداثتنا المعطوبة لا يمكنه أن يقوم إلا بمحاورة المناطق الصماء في ثقافتنا، التي تسري دلالاتها الجاهزة في وعينا ولاوعينا، كما في سيادة الخطابات التبسيطية التي تخترق الخطاب الديني كما الخطاب الفكري لدينا. إننا في حاجة لهذا الضرب من الكتابات، لا لأنها تحرك بركة اليقينيات الثقافية السائدة فقط، ولكن أيضًا لأنها توقظ فينا جذوة البحث والسؤال والمراجعة. ومع أنها تمر أشبه بشهب ماردة، فإنها مع ذلك تظل نقاطًا مضيئة علينا مساءلتها في دورنا.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.