}

في أن المواطن ليس فردًا والوطن أصبح بلا حدود

بلال خبيز 11 أبريل 2023
آراء في أن المواطن ليس فردًا والوطن أصبح بلا حدود
"الشارع" (1929) للفنانة البرازيلية تارسيلا دو أمارال (1886-1973)


في كلمة لها أمام مسؤولي المصارف الأميركية قالت جانيت يلين، وزيرة الخزانة الأميركية، إن سلامة المصارف تؤشر إلى سلامة الاقتصاد، بمعنى أن أي مرض يصيبها قد يؤدي إلى إمراض الدولة كلها وربما العالم بأجمعه، وأضافت أن المصارف هي الأداة الوحيدة التي تمكّن المواطنين من تحقيق الثروات، عبر إقراضهم ما يحتاجون إليه من أموال لتحقيق أحلامهم، ما يساهم في نمو الاقتصاد والثروات.

إن التأمل في هذه الخلاصة بعقل ما زال يعمل وفق أجندات الشعوب والأمم يجعلها مثار سخرية. لكن التمعن فيها جيدا يكشف لنا ما خفي عنا على مدى قرون، وما غاب عن أذهاننا طوال هذا الوقت.

هذه الخلاصة تعني أن المصرف يجمع أمواله من ودائع أفراد ويقرض أمواله لأفراد. الفرد في هذه الحالة هو الفرد بالتعريف. وليس الفرد الذي عرفته دولة المواطن الحديثة. في دولة المواطن ثمة إمكان لإنشاء روابط وأحزاب تجعل الفرد مسحوقًا تحت عجلات مصالحها المشتركة. في دولة المواطن لا يستطيع الفرد أن يكون فردًا إلا حين يختفي من كل نطاق، فهو مهندس بين مهندسين، أو شاعر بين شعراء، أو فلاح بين فلاحين، وهو بهذا المعنى وعلى هذا النحو لا يكون موجودًا إلا منتميًا لرابطة أكبر. وحتى حين تعز عليه الروابط الصغيرة والمتوسطة، فإنه ينتمي إلى وطن وأمة ولغة وثقافة. المصارف من جهتها تعامل هؤلاء المواطنين كأفراد، وتصنفهم على هذا النحو القاطع، أفراد أنجزوا ما يمكّنهم من سداد القروض، وما يرفع مرتبتهم إلى مرتبة مستحقي القروض في الوقت نفسه. ما ينظر إليه المصرف يتعلق بإنجازك، ملاءتك المالية، أفكارك المستنيرة، معرفتك بالسوق، كفاءتك في الحرفة أو الصناعة، أفكارك الجديدة واللامعة. في النهاية يقرر المصرف مساعدتك بناء على كل هذه المعطيات أو بعضها، وعليك أن تنجح في سد القرض وتحقيق الربح في آن. وعلى ما تقدم نبني ما يلي: يكون الفرد متمتعًا بكل صفاته كفرد حين يعطيه المصرف شهادة بإنجازاته. المواطن من جهته ليس فردا، ويمكنه أن يكون متسولًا، أو محتاجًا، أو عاطلًا عن العمل. وفي هذه الحال، يبقى مواطنا لكنه قطعًا لا يستطيع أن يكون فردًا.

قد يكون هذا الحكم سابقًا للشرح الذي يليه. لكنه على الأرجح يضرب على وتر حساس لدى من يدرك جوانبه المتعددة. لكن الإمعان في الشرح قد يوصلنا إلى نقاط أكثر اتساعًا وعمقًا.

نحن مواطنون في دول سيدة. أو هكذا يفترض بكل إنسان أن يكون - نستثني من هؤلاء الفلسطينيين الذين يمنع عليهم أن يكونوا مواطنين في دولة سيدة في انتهاك صارخ لحقوق الإنسان، على ما لاحظت حنة أرندت، وهي تشرّح شرعة حقوق الإنسان التي لا يمكن التمتع بها إلا حين يكون المرء مواطنًا في دولة. ولأننا مواطنون في دول سيدة، فقد تدعونا هذه الدولة إلى الدفاع عنها بأرواحنا. وعلى مذبح هذه الدولة ومن أجلها يخوض المواطنون الممتازون حروبًا أهلية، باردة وساخنة، في مواجهة المهاجرين واللاجئين -والمهاجرون واللاجئون هم الذين ينطبق عليهم تعريف جيورجيو أغامبن، أي أولئك الذين يحق لهم أن يبقوا على قيد الحياة، باعتبار أنهم لجأوا إلى مكان أكثر أمنا من المكان الذي هجروه-. إنما، وفي ما عدا هذا الحق، فهم لا يملكون أي حقوق من أي نوع. بهذا المعنى تتسع هويات اللاجئين، إلى العمال المياومين في بلاد لا يحملون جنسياتها، والهاربين من تمييز عنصري أو حروب إبادة، والمميز بحقهم بسبب دينهم أو مذهبهم أو عرقهم. كل هؤلاء يصبحون لاجئين وفق هذا التعريف.

المهاجرون واللاجئون هم الذين ينطبق عليهم تعريف جيورجيو أغامبن، أي أولئك الذين يحق لهم أن يبقوا على قيد الحياة، باعتبار أنهم لجأوا إلى مكان أكثر أمنا من المكان الذي هجروه


إنما ما الذي يدفع الدولة السيدة لشن حرب على دولة أخرى حقا؟ في الحروب الحديثة ثمة عامل لا يني يتكرر في كل حرب ويتعلق بالمستقبل الاقتصادي للدولة الذي يبدو مهددًا من الدولة الخصم. وعليه فإن العالم شن ويشن حروبًا كثيرة بدوافع اقتصادية. والمعنى أن حضور هذه الدوافع يعني أن المواطن يدافع عن نمو دولته الاقتصادي ورخائها في مواجهة منافسة من دولة خارجية. وهو مستعد لأن يبذل حياته من أجل أن لا تتمتع الدولة المجاورة باقتصاد نام وثروات معتبرة على حساب اقتصاد دولته وثرواتها. واقع الأمر أننا في الحقيقة ننتمي وندافع عن النقد الوطني، عن العملة التي نستثمر فيها ونتداول بها. نحن ندافع حقًا عما تملكه المصارف. وتاليًا، فإن الألماني يخشى أشد الخشية أن تسبق فرنسا ألمانيا في الصناعة، ما يجعل صناعة بلده بائرة وكاسدة، أو يهددها بالبوار والكساد. وبكلام آخر، إننا ندافع عن عملتنا الوطنية، أو عن العملة التي نستثمر بها.

في الأسواق المفتوحة اليوم، لا يندر أن نجد كنديًا يستثمر أمواله في العملة السويسرية، وهو بهذا المعنى حريص أشد الحرص على سلامة النظام والانتظام في سويسرا التي تفصلها عن موطنه ومسكنه بحار ومحيطات. هكذا نشأ ما يمكن اعتباره فردًا معولمًا. أي الفرد الذي يملك استثمارات في عملات بلدان كثيرة، وباتت مصلحته تقضي ألا تقع حروب مدمرة بين هذه الدول التي تتعاون مصارفها على أحسن وجه. حسنًا، ما زال الخبر طازجًا: مصرف كرديت سويس الذي تعثر منذ فترة قصيرة، هو من المصارف التي تثار حول نشاطاتها علامات استفهام كثيرة، إنما ولأن ودائعه تزيد عن الناتج المحلي لدول كبيرة، فإن انهياره سيصيب المصارف الأخرى حول العالم بأمراض قد تؤدي إلى كوارث. هكذا تتداعى المصارف لإنقاذ المصرف المشبوه هذا من الإفلاس أو التعثر. وهكذا تمنع هذه المصارف اندلاع أزمة ستصاب هي بشظاياها حتمًا.

أرجح الظن أن سطوة المصارف والنقد على يومياتنا ومستقبلنا جعلتنا بهذا المعنى مربوطين بحبال غليظة إليها. لكننا لا نريد أن نعقل هذه الرابطة أو نسعى لتأجيل البحث فيها ما أمكننا

الفارق بين سعي الدولة لاستعداء الدول الأخرى ومنافستها في كل مجال، وسعي المصارف إلى المنافسة الممهورة بالتعاون والحرص على بعضها بعضًا، يوضح لنا الفارق بين حروب الأمم والممالك الغابرة والدول الحالية. الدول الكبرى اليوم لا تشن حروبًا إلا حين تقع الدولة المستهدفة خارج نطاق التداول المالي كليًا أو جزئيًا. والدول التي ما زالت تحسب أن التاريخ يسير وفق أجندات المؤرخين وسلطان الأباطرة، تُحاصر ماليًا ما أن تحاول شن حرب على دولة أخرى. مثال روسيا في هذا المجال ما زال ساطعًا. والحال، بأوضح ما تكون صوره يشير إلى التالي: تعاون المصارف يمنع الحروب المستحقة أو يؤجلها. لا مصلحة لليابان بشن حرب على منافستها ألمانيا، لأن هذه الحرب ستلحق ضررًا لا يمكن إصلاحه في البلدين، ولا مصلحة لأميركا بشن حرب على الصين لأن مثل هذه الحرب قد تترك العالم صحراء جافة. إنما ثمة منافسة حادة بين البلدين، ترقى إلى تسميات من قبيل حرب تجارية أو حرب باردة جديدة. الهدف الأميركي المعلن من هذه الحرب هو انضواء الصين كليًا تحت راية النظام العالمي، المالي والاستثماري والاقتصادي. عند ذاك، لا يعود الحديث عمن هو رأس هذا النظام العالمي ومن هو قلبه ومن هي أطرافه مهما. التسمية ليست مهمة في هذا المجال، المهم هو أن الجميع يعملون ويقترضون ويربحون في ظل نظام عالمي من المنافسة الممهورة بالتعاون.

إذا أردنا التعيين يمكن القول إن العالم اليوم تحكمه المصارف بوصفها الماكينة التي تخزن الأموال وتقرضها وتستثمرها. وإن الرابطة الأشد حرارة بين الأفراد اليوم هي رابطة العملة التي يتعاملون بها، وإن الحدود الجغرافية لم تعد تعني الأفراد وإن كانت ما زالت تعني الدول والشركات على نحو قاطع. وطبعًا ما زالت تعني المواطن. فاللاجئ من سورية أو أفغانستان إلى ألمانيا مثلًا، يهتم كثيرًا بما تقدمه الحكومة لمواطنيها من خدمات، ذلك أن هذه الخدمات حيوية جدًا له. وهو لأجل ذلك يبذل كل جهده ليصبح مواطنًا متمتعًا بهذه الامتيازات. لكن الفرد هو من يسعه أن يستثمر في ألمانيا ويعيش في إسبانيا ويتقاعد في هاواي. أمواله وأملاكه هي التي تقرر له هوية الدولة التي يلجأ إليها.

والحال على ما هي عليه، ربما يجدر بنا أن نفكر مليًا في المسلمات الفكرية والتاريخية التي ما زلنا نتمسك بها. وأرجح الظن أن سطوة المصارف والنقد على يومياتنا ومستقبلنا جعلتنا بهذا المعنى مربوطين بحبال غليظة إليها. لكننا لا نريد أن نعقل هذه الرابطة أو نسعى لتأجيل البحث فيها ما أمكننا. في حين أنها تبدو ملحة وحيوية جدًا لمستقبلنا. الفلسطيني وحيدًا وعاملًا وزوجًا وأبًا ليس من يصفه محمود درويش في شعره، والعراقي ليس من وصفه محمد مهدي الجواهري أو بدر شاكر السياب. يكون العراقي أو الفلسطيني على ما وصفه درويش أو السياب حين يتصل بآخرين، أي في ساعات التواصل والنقاش والحديث والمساررة. لكنه حين يعود إلى بيته ويتأمل بأحواله، يفكر في حسابه المصرفي، وفي بيته المهدد بالهدم، وهو استثماره المكلف والباهظ، وفي ما يجدر به أن يشتريه وما يجب أن يؤجله، ويخاف من أزمة المصارف أكثر من خوفه من ذئاب الغابة أو لصوص الليل. وحيث أننا متروكون لمصائرنا كأفراد في الغالب الأعم من الأحوال، فالأرجح أننا بتنا ننتمي إلى روابط لم تعقل بعد، ولم تتم دراستها على نحو يجعلنا نتكيف معها فنستفيد منها ونفيد. أما روابطنا القديمة فتبدو، في الغالب الأعم من الأحوال، دافعة لكوارث لا قبل لنا على تحملها، أكان الحديث يدور حول ثورات تكررت فصولها في أكثر من دولة عربية، ولم تنتج غير مغتربين ولاجئين وأمواتًا، أم كنا نتحدث عن وصفات اقتصادية ساذجة يتحفنا بها سياسيونا الذين باتوا منتهي الصلاحية بغالبهم الأعم.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.