}

من الترجمة للترجمان: الذات التي تثوي وراء التحولات الثقافية

فريد الزاهي 15 أبريل 2023
آراء من الترجمة للترجمان: الذات التي تثوي وراء التحولات الثقافية
(Getty)
نحن نقرأ ترجمات أمبرتو إيكو من الإيطالية إلى اللغة الفرنسية من غير أن نعير اهتمامًا لمن جعلنا نقرأها بسلاسة في هذه اللغة كما لو كانت كتبت بها أصلًا. ونقرأ فرويد في اللغة ذاتها من الألمانية، كأنما حررها مبدع التحليل النفسي بأنامله. وكذلك الأمر مع دوستويفسكي. هذه الوضعية تجعل من المترجم ناقلًا وعبّارًا يتوارى خلف اسم المؤلف، وكأنه صورته الخفية. والحضارة الفرنسية، بالرغم من أنها تمنح اعتبارًا كبيرًا لمهنة المترجم، لا تزال دور نشرها لحدّ اليوم تثبت اسم هذا الأخير في الصفحات الداخلية، لسبب بسيط هو أن الترجمة في تلك الأمصار تعد مهنة، لها قواعدها وقوانينها وأجورها المضبوطة.
لقد عاش العالم العربي، في ما سمي بعصر النهضة، الوضعية نفسها التي عرفها تاريخ تطور الثقافة الأوروبية. فقد كانت هذه الأخيرة في حاجة إلى الإرث اليوناني والروماني، ثم العربي الإسلامي، لبناء ذاتها الثقافية. ولا أدلّ على ذلك من أن كتاب مونتيني "المقالات" يمكن عدَّه، في أغلبه، ترجمة للغة الفرنسية الوليدة لفكر بلوتارخوس وسينيكا، ومعهما سقراط والفلاسفة اليونانيون، وهي ترجمة كان يقوم بها مونتيني في هذه اللغة الناشئة، وكأنه بها، ومن خلالها، يتملك هذا الإرث وسؤاله، ويمنحه راهنية جديدة متنورة. أما أغلب كتاب العرب، من الأفغاني إلى طه حسين، مرورًا بقاسم أمين، فإنهم قد تمثلوا، بشكل أو بآخر، بعض مبادئ العقلانية والتنوير والديمقراطية، إما بحثًا عن قطيعة ممكنة، أو ملاءمة لهذا الفكر المتنور مع مبادئ دينية كانت تسيطر على الميادين كافة، حتى السياسية منها.

الخوف من الترجمان
لنقل بدءًا إن الترجمة مفهوم يجاوز بكثير مفهوم الكتابة، أو هو بالأحرى يخترق كل شيء. فلقد بنى فرويد (كما يوضح جاك دريدا ذلك في "الكتابة والاختلاف") صرحه النفساني على مفهوم الانتقال بين فرشات اللاوعي والوعي الباطن والوعي، الذي رأى فيه دريدا مفهومًا موسعًا للترجمة. وهو تصور نجده قبله بقرون لدى ابن عربي في كتابه الشعري "ترجمان الأشواق". الترجمة أيضًا كما يمسرحها الخطيبي في رواية "عشق اللسانين"، تخترق الكتابة والحواس في وضعية ذلك الازدواج اللساني. فالكاتب المغربي باللغة الفرنسية يعيش وضعية ترجمة متواصلة بين اللغة الفرنسية واللغة الأم، وأسلوبه ينهل كثيرًا من تلك اللغة ومتخيلها وإيقاعها.
إن هذا المفهوم الموسع للترجمة يمنحها سلطة كبرى في عملية الإدراك والتصور والتخيل والإبداع والتواصل. فالترجمة تظل بهذا المعنى وسيطًا ينقل التصورات والأحاسيس من مستوى، أو مضمار، إلى آخر، لكن كل نقل يكون هنا عملية تحويل. فالترجمة عبور لا يشبه فيه المبتدأ الموئل والمنتهى، والعبّار في هذه العملية ليس وسيطًا محايدًا، فهو مؤول ومحوّل للمعطيات، يشكلها ويعيد تشكيلها في صيغة، أو صيغ، جديدة ملائمة لما هي تؤول إليه. وفي برج بابل (العالم قبل ولادة الترجمان) لولا وجود هذا الأخير لتحولت البشرية إلى قبائل كل رهط يرطن بما لا يفقهه الرهط الآخر.



بيد أن هذه السلطة لم تمنح للمترجم، بالرغم من ذلك، الوضعية الاعتبارية القوية التي يستحقها. فاللاهوت والميتافيزيقا، في إيمانهما بالأصل، حوّلا المترجم إلى كائن عبْد للنص، أو وال من مواليه، مطبقًا عليهما جدلية العبد والسيد، في ترابطهما القدري وتراتبيتهما القيمية والمعيارية. من ثم نجم ذلك الخوف التليد من سلطة المترجم باعتباره قادرًا على تحوير معاني النص الأصل، وعدم تبليغ "الرسالة"، لأنه "وحده" يعلم بفحواها، ووحده القادر على نقلها من لغة ومجتمع إلى لغة ومجتمع آخر، بالطريقة التي يبتغيها هو. إنه حافظ أسرار التعدد اللغوي، وحافظ معاني اللغات. هذا الخوف هو الذي كان وراء تلك اللازمة اللاهوتية اللاتينية الزاعمة بأن الترجمة فعل خيانة.
لكنَّ من منح للترجمة في الغرب أهمية فكرية هم الكتاب أنفسهم والمفكرون: والتر بنيامين، لأنه كتب عنها ونظَّر لها؛ وكذا الكتاب والمفكرون الذين قاموا بترجمة نصوص فلسفية وفكرية تنتظرها ثقافتهم، وتشكل في مسيرهم فرصة لمساءلة تلك النصوص واستنباتها في فكرهم: هنري كوربان حين قام بأول بترجمة لهايدغر في أوسط ثلاثينيات القرن الماضي، وجاك دريدا حين بدأ مشواره الفلسفي بترجمة "الصوت والظاهرة" لهوسرل إلى الفرنسية في 1963. كما أن جان هيبوليت ترجم "فينومينولوجيا الروح" إلى الفرنسية وهو يشتغل كفيلسوف عليها. هذا الضرب من الترجمة هو موطن تفكير وضرورة فكرية. إنه شرط ولادة فكر جديد يجعل من الترجمة موطنًا للاختلاف والخلاف والمغايرة.


من الترجمة إلى الترجمان
خضعت عملية الترجمة للحظات ندية مماثلة في المغرب والعالم العربي. ففي غياب توجهات ترجمية عميقة واستراتيجية، ظلت الترجمة رهانًا فرديًا، أو أيديولوجيًا. هكذا تحول عدد من الكتاب إلى مترجمين لأعمال لا تخضع للطلبية والحاجة المادية المهنية، وإنما إلى الاختيار الثقافي. إننا ندين بولادة الترجمان العربي ومكانته المتسامية، عقدًا بعد عقد، لهؤلاء الكتاب الذين كانوا يوازون بين الكتابة والترجمة، معلنين للملأ أن فعل الترجمة لا يحط من قيمتهم، ولا يجعل منهم ظلًا شاحبًا للكاتب، ولا لأنفسهم، وإنما يعضد اختياراتهم الكتابية والثقافية. فإذا كان عبد الرحمن بدوي، وجبرا إبراهيم جبرا، وجورج طرابيشي، وأدونيس، ومحمد بنيس، ومحمد برادة، وعبد السلام بنعبد العالي، وغيرهم كثير، قد مارسوا الترجمة باعتبارها من صلب كيانهم الثقافي، فإنهم بذلك قد أدخلوا المترجم إلى مملكة المثقف، ومنحوه موطنًا جعل منه ندًّا للمؤلف، وممارسته كتابة وتأليفًا لا تقل أهمية عن الأصل المترجَم.
لا يمارس الترجمان فقط ما يسمى بحوار الثقافات، لأن هذا الحوار رهين أصلًا بكتاب النصوص، لا بكتاب الترجمات. فالكتابة، إن هي لم تمارس هذا الحوار في نصوصها ومتخيلها، قد تكون ترجمتها تعميقًا للصراع الثقافي. الترجمان عين الثقافة المحلية على تطورات متخيل الآخر، وفي الآن نفسه حامي القلعة وحارس أبوابها. ولأن اختياراته تكون ذات طابع ثقافي، فهو أدرى بحاجياتها ومواطن ضعفها وإمكانات تطويرها وتلقيحها بأفكار الآخر. وهو في ذلك قد يلجأ أحيانًا إلى لغة وسيطة تعبيرًا منه عن الاستعجال الثقافي، ولردم الثغرة. ذلك ما حدث مع جورج طرابيشي حين عمد إلى ترجمة فرويد إلى العربية انطلاقًا من اللغة الفرنسية، وهو الأدرى بهشاشة مثل هذه الترجمات. لذا نراه يبرر صنيعه ذاك بقوله: "في حالة فرويد خاصة، والتحليل النفسي إجمالًا، كان الخيار ذا حدّين لا ثالث لهما: إما أن تبقى الثقافة العربية في حال من القطيعة مع ذلك الفتح العلمي الكبير الذي مثَّلته الفرويدية، وإما أن تنهل بدورها من مَعين هذا الفتح، ولو عن طريق لغة وسيطة، مع كل ما يترتب على الترجمة من مخاطر الابتعاد عن حرف النص الأصلي، إن لم يكن عن روحه. ومع ذلك، كان الخيار يفرض نفسه فرضًا: فليس لأي ثقافة معاصرة أن تفتح لنفسها قفل الحداثة وهي تفتقد مفتاحًا أساسيًا من مفاتيحه كما يتمثل بالتحليل النفسي، الفرويدي منه، وغير الفرويدي، على حدّ سواء. ومن هنا كانت مغامرة القرار الذي اتخذتُه قبل نحو من أربعة عقود بتقديم مؤلفات فرويد العربية، ولو بالترجمة عن الترجمة الفرنسية لمؤلفاته". إنه موقف له مبرراته، فطرابيشي ليس مصطفى صفوان!




وضعية الترجمة هي، إضافة إلى طابعها الحواري، وضعية صراع، وبهذا الصدد يقول أوغست فون شليجل، مترجم ثربانتس إلى الألمانية: "الترجمة عبارة عن صراع ثنائي حتى الموت لا يمكن إلا أن يلقى فيها حتفه من يترجِم، أو من يترجَم، أو هي علاقة قاصرة تجعل الترجمة فعلًا نافلًا، والنص المترجم مستلبًا عن ذات القائم به. أو هي في أحسن الأحوال اعتراف بالترجمة لا بالمترجم، باعتباره المحفل الذي يشكل ذات الترجمة ومقصدياتها".
التفكير في الترجمة اليوم، إذًا، رهين بالتفكير في الترجمان، لا باعتباره أصلًا للترجمة فقط، وإنما باعتباره نتاج وضعية الترجمة التي تكون مؤشرًا للتحولات الثقافية. فقد جرت العادة أن ندرس المؤلف، وتكوين النص، ونجعل من المؤلف محفلًا تداوليًّا، في الحين الذي يظل المترجم فيه غارقًا في المجهولية العمياء، عماء القارئ والنص تجاه المترجم. وليس من قبيل الادعاء القول بأن وضعية الترجمة، بما هي جماع الرغبة الترجمية، والعلاقة بين المترجم ونصوصه، هي التي تحقق التعدد والاختلاف الذي تحمله الترجمة في صلبها. فالمترجمون حَوارِيو التحولات الثقافية، وهم خالقو الآفاق المتجددة التي تنجم عن كل ترجمة جديدة، وعن كل استنبات فكر وتفكير جديدين ومختلفين في صلب اللغة التداولية الثقافية المحلية.
يحدد أنطوان بيرمان هذه الوضعية الترجمية كالتالي: "يقيم كل مترجم علاقة خصوصية مع نشاطه الخاص، تتمثل في "تصور" معين، أو إدراك، لفعل الترجمة ومعناها وصيغها. وهذا "التصور" أو "الإدراك" ليسا شخصيين بشكل خالص، بما أن المترجم يكون فعليًّا موسومًا بخطاب تاريخي واجتماعي وأدبي وأيديولوجي عن الترجمة (والكتابة الأدبية). والوضعية الترجمية، باعتبارها تراضيًا هي نتيجة بلورة؛ إنها وضع المترجم لنفسه إزاء الترجمة، وهي فعل وضع حين يتم اختياره، لأن الأمر يتعلق باختيار يربط المترجم إلى ما يشبه القسَم". من ثم لا وجود لمترجم من غير وضعية ترجمة تكون خلفية لاختياراته واجتهاداته. ولا يخفى أن محددات هذه الوضعية بكل مكوناتها الثقافية واللغوية، وما يرتبط بها من وضعية لغوية خصوصية ووضعية كتابية، هي ما يمكّننا من تصور نظري ممكن لذات الترجمة باعتبارها مدخلًا أساسًا للتفاعل الثقافي.
ومن ثم أيضًا، يمكننا عدّ أي بحث في المترجم وعنه، هو بشكل ما بحث في فعل الترجمة بوصفه مختبرًا للتحول الثقافي الفعلي، ولذات الترجمة المنتجة لفعالية تتجاوز، من حيث هي كذلك، ميتافيزيقا الأصل والهوية والوحدة والأحادية والانغلاق والتمركز العرقي والثقافي. بل والإقصاء للذاتية الخصبة التي تكون وراء متعتنا، وتفتح عيوننا على ما يجود به الآخر من إبداع وفكر وأسئلة.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.