}

دراما الأسد "فوق" الواقعية

سميرة المسالمة سميرة المسالمة 27 مايو 2023
آراء دراما الأسد "فوق" الواقعية
مظاهرة في ريف حلب في ذكرى الثورة السورية (Getty)
عملت قنوات البث الفضائية العربية منذ نشأتها الأولى في التسعينيات على ترويج صناعة الدراما، وشهدت مواسم العرض الرمضاني تناميًا في عدد المشاهدات، ما فتح آفاق تنوع الصناعة، بعد أن كانت في معظمها تعتمد على المسلسلات التاريخية والدينية. وتميزت الدراما الاجتماعية في السنوات الأخيرة بقدرتها على الانتقال من حال وصف الواقع إلى صناعة ثقافة مجتمعية جديدة، في قطبيها السالب والموجب، ما جعلها تأخذ مكانتها أيضًا في سياق النقاشات على كل المستويات الشعبية والقانونية والإعلامية، وصولًا إلى الإسهام في التغييرات التشريعية، وزاحمت في بعض مواضيعها مساحة الخبر السياسي الأول في الصحف والتلفزيونات، إلى أن دخلت السياسية فوق الواقعية، أو الصادمة، مجال التنافس على صناعة الدهشة، لتصبح الأخبار الرسمية العربية هي الأكثر تشويقًا وغرابة من مسلسلات، أو أفلام "الأكشن" الأميركية.
تقدم السياسات العربية في خطوة التطبيع مع النظام السوري مشاهد درامية مؤثرة، ويمكن إدراجها ضمن ما يسمى بأدب المفارقات بتعريفه العلمي، حيث تكون فيه المقدمات تخالف النهايات، ويحار المشاهد لشخوص ولأداء الممثلين، كما يحدث في عالم مسلسلات الفانتازيا التاريخية، ففي سياق الأحداث التي جرت على مدار 12 عامًا من التنكيل بالشعب السوري، لم يكن متوقعًا أن تأخذ بعض الأنظمة موقفًا معاديًا لإجراءات النظام القمعية ضد ثورة شعبه المنادية بالحرية، ورفع الظلم، وحقوق المواطنة، إلا أن مشاهد إعلان المقاطعة التي تتالت في عام 2011، لتصل حد القطيعة العربية شبه الكاملة، كانت تصلح لتكون مشهدًا ختاميًا، وليس افتتاحيًا، لما يمكن تسميته تداعي الأحداث الدامية، وأثرها في القرار السياسي الذي توج بالقطيعة السياسية والاقتصادية والشعبية.
تستحوذ الصور المتصدرة نشرات الأخبار على دهشة المتلقين، لما تحمله من أبعاد تؤكد دراما المشاهد السياسية، ما يفوق واقع التخيلات في دراما التلفزيون، في أكثر مواسمها تسويقًا، التي تبدأ من مبررات لبدايات صادمة، لتعود إلى سياق أحداث غير مترابطة مع خاتمتها "السعيدة". لقد تفوق واقع الأحداث التي تدور في أروقة السياسة حول مصير نظام الأسد على خيالات وابتكارات المؤلفين لمسلسلات الدراما بكل أنواعها، وبخاصة تلك التي اعتدنا عليها في مواسمها الرمضانية، حيث العبرة بالخواتيم. ففي سياق التطورات السياسية الحالية لا تغدو المستحيلات صعبة المنال، ولا الأخيار ينتصرون على الأشرار، ولا تعلو كلمة الحق على الباطل، الأحداث تتفوق بخيالها وسخريتها وفانتازيا إخراجها، بكل ما تعنيه مفردة "الفانتازيا" في تعريفها المعتمد من أنها: "خارجة عن المألوف للواقع المعاش"، وهي هنا لا تحتاج إلى التورية، بل الإشارة العلنية إلى البطل المنتصر، ولا يخجل القائمون عليها من اعترافاتهم ضمنيًا بهزيمتهم، أو على الأقل بسوء خياراتهم السابقة، فإعلان ندمهم هي اللقطة الأولى من مشهد تطبيع الدول مع الأسد، الذي يعلن فيه ساسة الدول العربية انتهاء موسم الحصار على النظام السوري، بل الندم لاقترافها هذا الذنب 12 عامًا متتاليًا.




السؤال الذي علينا أن نواجه إجابته هو أي القرارين أكثر انسجامًا مع واقع السياسات العربية، القطيعة، أم إلغاء مفاعيلها؟ وهذا السؤال لا يعني بالضرورة أن نكون مع الأول، أي "القطيعة"، وضد الثاني، أي "العودة إلى النظام"، بل البحث عن جدوى كل منهما، بعد أن اختبرنا الأول، وسيختبر النظام الثاني؟
سأعود إلى تذكر مشاعري وأنا داخل سورية، بداية الثورة، كان خبر القطيعة يعني لي أنهم قرروا فعليًا أن يتركونا لمصيرنا، أن يغادروا ليغلقوا الباب علينا، "السوريون والنظام الحاكم"، شأن داخلي لا علاقة لهم به، تمامًا كما يقول نص بيان القمة العربية الأخيرة التي انعقدت في مدينة جدة في السعودية في 19 مايو/ أيار 2023 "نشدد على وقف التدخلات الخارجية في الشؤون الداخلية للدول العربية"، أي ترك الشعوب تواجه "وحيدة" عقوبات نظامها الحاكم، أو ترك النظام يواجه مصيره الذي تختاره له الشعوب، من دون رقابة من ممثلياتهم الدبلوماسية، فلا شاهد منهم، ولا شاهد عليهم! "لقد تركونا"، كان هذا ما فهمته من معنى القطيعة، صار النظام طليقًا أكثر، وصار العنف مركزًا أكثر، ماذا لو بقيت البعثات تراقب عن قرب، هل كانت البندقية ستخجل من قتلنا؟
يعود العرب، اليوم، إلى سورية، يشاهدون دمارها، ويتحدثون عن صانعه بصيغة المبني للمجهول، ثمة عابث فعل ذلك في غياب الشهود، وتغييب الشهادات، ثمة عسكرة حدثت بعيدًا عن أعينهم، لم يكونوا أحد صانعيها، ولم يبرمجوا مشاريعها، فقد جاء البيان واضحًا في إدانته ورفضه التام "لدعم تشكيل الجماعات والمليشيات الخارجة عن نطاق مؤسسات الدولة"، هذا النص تحديدًا كان السوريون في أمس الحاجة له في عام 2011، لتبقى ثورتهم داخلية، وبعيدة عن التدخلات، وقادرة على الانتصار لطموحاتها وطروحاتها عن مفاهيم الحرية والمواطنة والمساواة، وضد إجراءات السلطة القمعية، وعنفها في مواجهة المظاهرات السلمية، لقد تأخر البيان 12 عامًا، ونحو مليون شهيد، ومئات آلاف من المعتقلين والمغيبين، وملايين المهجرين! فما الذي يراهن عليه بيان متأخر كل هذه السنين؟
مشاهد الحفاوة بالرئيس السوري بشار الأسد كانت في سياقها الدرامي مفتعلة، غير مبررة، تراهن على سطحية أو غياب ذاكرة المشاهدين عن تصريحات المطبعين النارية ضده، والإجراءات العقابية في حقه على مدار 12 عامًا من اعتباره " فاقد الشرعية"، فحيث لم ترتسم على الوجوه المطبعة نظرات الندم التي يستوجبها الحدث المهول، ولم يبد في المقابل على وجه المطعون "الأسد" تقاسيم الوجع، وكأن ما جرى ليس في سنين، تدمرت فيها البلاد والعباد، فإن ثمة مخرجًا لم يمتلك أدواته بعد، يدير كاميرا التطبيع من دون هدف واضح، أو عبرة، تعيد الحق إلى أصحابه، ولو في المشهد الأخير، الأخير فعليًا.


*كاتبة سورية.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.