}

"الليبرالية ونقادها الساخطون": وثيقة دفاع عن "الليبرالية الكلاسيكية"

عمر كوش عمر كوش 28 يونيو 2023
آراء "الليبرالية ونقادها الساخطون": وثيقة دفاع عن "الليبرالية الكلاسيكية"
فرانسيس فوكوياما (Getty, 12/3/2019)

ينبري المفكر الأميركي فرانسيس فوكوياما في كتابه "الليبرالية ونقادها الساخطون" (منتدى العلاقات العربية والدولية، ترجمة معين الإمام ومجاب الإمام، الدوحة، 2023)، للدفاع عن "الليبرالية الكلاسيكية" حيال نقادها الساخطين والممتعضين منها، معتبرًا أنها لا تزال سليمة، وجذابة في مواجهة أنظمة منافسة قد تلوح في الأفق، وأن ما اعتراها من تراجع خلال السنوات السابقة، يعود إلى أزمة الديمقراطيات الليبرالية الناتجة من تحديّات داخلية، وتحديدًا من المعارضين لها داخل النظام الدّيمقراطي.

اللافت، والمفيد في نفس الوقت، هو سرعة ترجمة الكتاب إلى اللغة العربية، إذ لم يمضِ على صدوره سوى أقل من عام، والأرجح أن ذلك يعود بالدرجة الأولى إلى شهرة فوكوياما، التي نالها من كتابه السابق "نهاية التاريخ والإنسان الأخير"، والذي اعتبر فيه انتصار الديمقراطية الليبرالية على الأنظمة الشمولية الشيوعية، في أواخر القرن الماضي، يمثل نهاية التاريخ، أو بالأحرى نهاية الصراع في العالم وسيادة النظام الليبرالي، ولكنه واجه انتقادات كثيرة، وسخر بعضهم من أطروحاته، الأمر الذي دفعه إلى إعادة النظر فيما كتبه.

يكمن الهدف الأساسي للكتاب في مواجهة الساخطين على الليبرالية الكلاسيكية، وهما طرفان، أولهما يقف على اليمين، ويمثله اقتصاديو السوق الحرة المتطرفة، وثانيهما يقف على اليسار، وهو الأخطر، ويمثله النقاد الاجتماعيون والثقافيون، والمقصود هو قوى اليسار التي تدعى يسار ما بعد الحداثة. ووفق هذا التصور يحاول فوكوياما الدفاع عن الليبرالية في نسختها الكلاسيكية، والتصدي للإخفاق الذي لحق بها، ويطاول ذلك التفاوتات الاقتصادية التي نمت في دول الغرب، وخاصة في الولايات المتحدة الأميركية والمملكة المتحدة، وذلك طوال ما يزيد عن أربعة عقود مضت.

يعتبر فوكوياما أن الليبرالية تُعرف في السياق الكلاسيكي على أنها فلسفة سياسية، ترى أن المجتمعات مبنية على المواطنين كأفراد أحرار ومستقلين، وتمنحهم حقوقًا تجسد قدرتهم على اتخاذ خيارات لجهة التعبير والاجتماع والاعتقاد. ويتضمن فضاء الاستقلالية حق التملك والتعاملات الاقتصادية، وشمل مع الزمن حق الاشتراك في الحياة السياسية عبر حق التصويت. وعليه تبدو الليبرالية وفق تصور فوكوياما نظامًا اجتماعيًا، ينهض على أساس مبدأ المساواة في الحقوق الفردية، وحكم القانون، وحريّات الأفراد، وإدارة الاختلافات سلميًا، وتجد كل هذه المبادئ متحققها في سياسة، تقوم على التسامح المتجذر في احترام الاستقلال الذاتي الفردي الذي يكفله القانون والحكومة. وقد اقترنت الليبرالية مع الديمقراطية، وباتتا مبررتين أخلاقيًا من منظور السياسة العملية، كونهما شكلتا اثنين من أعمدة الحكم الرشيد، الذي تشكل الدولة الحديثة عموده الثالث.

يحدد فوكوياما ثلاثة مبررات، أو مسوغات، للمجتمعات الليبرالية، أولها منطقي براغماتي، وثانيها أخلاقي، وثالثها اقتصادي، حيث يقدّم المسوغ البراغماتي في اعتبار أن الليبرالية ظهرت في منتصف القرن السابع عشر، مع نهاية حروب أوروبا الدينية، التي استمرت 150 سنة من العنف، ويقدر أن نحو ثلث سكان أوروبا ماتوا في "حرب الثلاثين عامًا"، نتيجة العنف المباشر والمجاعة والأوبئة التي تبعت النزاع العسكري. وبدت الليبرالية بوصفها حلًا مؤسسيًا لمشكلة حكم التنوع الديني والاثني في المجتمعات التعددية، كونها ولدت نتيجة الصراع الديني في أوروبا، حيث أسهم المبدأ الليبرالي، القاضي بأن الدول ينبغي ألا تسعى إلى فرض آرائها الطائفية على الآخرين، في استقرار أوروبا في الفترة التي تلت معاهدة وستفاليا عام 1948. وقامت الليبرالية بمنح الفرد حقوق الملكية المادية والفكرية، وحرية الاختيار في العبادة كما في التصرفات الشخصية الاجتماعية، بما فيها الجنسية، واختيار مكان الاقامة ونوع العمل.

يجد فوكوياما المبرر الثاني لقيام مجتمع ليبرالي في مسوغ أخلاقي، مجادلًا بأن المجتمع الليبرالي يحمي الكرامة الإنسانية بمنحه المواطنين حقًا متساويًا في الاستقلالية الذاتية، حيث صارت الاستقلالية مع مرور الزمن تشمل أيضًا حق المشاركة في السلطة السياسية، والإسهام في حكم الذات عبر حق الانتخاب، وباتت الليبرالية مرتبطة بالديمقراطية التي يمكن النظر إليها بوصفها تعبيرًا عن الاستقلالية الجماعية. أما ثالث مبررات الليبرالية، فيكمن في ارتباطها بالنمو الاقتصادي والتحديث، حيث إن أهم صيغ الاستقلالية تجسدها القدرة على الشراء والبيع والاستثمار بحرية في اقتصاد السوق، والمكانة المركزية لحقوق الملكية الخاصة، التي ضمنتها الأنظمة الليبرالية، قبل حق التصويت والاجتماع، مع اجتراح آلية إنقاذ العقود عبر مؤسسات خفضت مخاطر التجارة والاستثمار مع الغرباء.

يكمن الهدف الأساسي للكتاب في مواجهة الساخطين على الليبرالية الكلاسيكية


يقرّ فوكوياما أن متاعب الليبرالية ليست جديدة، حيث انحسرت الأيديولوجيا الليبرالية على مرّ القرون، لكنها كانت دائمًا تعود إلى الواجهة بسبب قواها التحتية، وتقديمها حلًا وسطًا بين قوة الحاكم اللازمة لاستتباب الأمن، وحقوق المحكوم. وقد أفضت المنظومة الليبرالية إلى الغاء الحدود والعولمة، فهربت بعض رؤوس الأموال إلى الدول ذات اليد العاملة الأرخص، فخسرت مجموعات عمالية كثيرة أعمالها ومصادر رزقها، وظهر ضعف الدولة وعدم قدرتها على إغلاق حدودها، وازدادت الفوارق الكبيرة بين الأثرياء والفقراء، خاصة بعد صعود الليبرالية الجديدة، التي اختلفت كثيرًا عن الليبرالية الكلاسيكية في قضايا دور الدولة وسياسات الاقتصاد، وفي تحديد الحقوق والواجبات بين الحاكم والمحكوم، حيث قامت الليبرالية الجديدة خلال فترة كل من بيل كلينتون ومارغريت تاتشر ورونالد ريغان باتباع سياسات تحط من شأن الدولة ودورها في الاقتصاد، على حساب الانتصار للأسواق الحرة ودورها في تحفيز الاقتصاد وتوزيع الموارد. وطرأت على النظام الليبرالي أزمات مالية مريعة، بدأت بأزمة الجنيه الإسترليني، وأزمة النظام المصري السويدي في بداية تسعينيات القرن العشرين المنصرم، ثم أزمة البيسوس المكسيكي عام 1994، وأزمة الأسهم المالية الآسيوية عام 1997، وبلغت الأزمات أوجها في عام 2008 بأزمة الرهون العقارية في الولايات المتحدة الأميركية، حيث اندفع الرأسمال العالمي إلى سوق الرهن العقاري سيئة التنظيم فدمرها، ثم دمر الاقتصاد الحقيقي عندما خرج منه.

لم تتوقف أزمات الليبرالية الجديدة عند أزمة الرهون، بل أسهم انتقال الاقتصادات المتطورة من الصناعة إلى المعرفة في تعميق الأزمة أكثر، عبر زيادة تركيز الثروة بأيدي قلة قليلة في العالم، وانتشار واسع للفقر، الأمر ساعد في صعود سياسات شعوبية من اليمين القومي المتطرف، طالبت بإغلاق الحدود الوطنية، ووقف تدفق اللاجئين، والتخلي عن التجارة العالمية، وكما أفضى إلى نهوض قوى اليسار العالمي المتطرف كذلك، التي اعتبرت المعركة هي بين فقراء العالم ضد أغنيائه. وفي ظل تصاعد غضب اليمين واليسار تراجعت الليبرالية، وتجسد ذلك في خروج بريطانيا من منظومة الاتحاد الأوروبي، ووصول دونالد ترامب إلى رئاسة الولايات المتحدة. وعليه، تحول الغضب العالمي ضد الليبرالية الجديدة وعولمتها إلى سهام وجهت إلى المبادئ الليبرالية المؤسسة للديموقراطيات الغربية، وبات كل من اليمين واليسار يريد النيل من الجمهورية ونظامها ومؤسسات الدولة، ويطالب بالتخلي عن منظومتها بالكامل. وهو ما أثار حفيظة فوكوياما، الذي راح يعبر عن قلقه حيال مستقبل الليبرالية الغربية، ومصير المؤسسات التي بنتها، ويحذر من خطر اتساع مساحة معادية لليبرالية من اليمين واليسار المتطرفين، لكنه يستبعد في نفس الوقت نجاح أي منهما في تقويض الجمهورية الأميركية، مرجعًا ذلك إلى تمتعها بالقوة الكافية، ووجود مؤسسات قادرة على حماية الدستور والدولة، مثل الجيش والقضاء والقوى الأمنية.

يصمت فوكوياما عن فظائع الليبرالية الجديدة رغم نقده لها، فيما يصب جام غضبه على قوى اليسار، الذين يعتبرهم شقوا سياسات التسامح الليبرالية لصالح نزعات جندرية وجنسية وعرقية ودينية تسببت في انقسام المجتمعات!

غير أن فوكوياما يصمت حيال أزمات وإشكاليات الليبرالية الاجتماعية والبنيوية، وما تمثله الليبرالية الجديدة من مصالح اقتصادية للفئات المتوحشة والفاحشة في الثراء والهيمنة. ويبدو أنه ما يزال يعيش لحظة الانتصار الليبرالي، التي تحدث عنها في كتاباته السابقة، لذلك يدعو الجميع إلى عدم التخلي عن عالم الليبرالية السعيد، كونها ما تزال تمثل، بالنسبة إليه، أفضل النظم لترتيب أوضاع المجتمعات، مع الاهتمام بتلافي بعض الجوانب السلبية لسياساتها الاقتصادية، والعودة إلى أشكال الحياة التقليدية. ويعمد إلى الخلط ما بين الاستجابة الشعبية التي أعطت صوتها لسخط الطبقة العاملة والفئات الفقيرة من الأنظمة الليبرالية وسياساتها في الحكم والعولمة، وبين الشعبوية اليمينية التي أفضت إلى صعود ووصول شخصيات شعبوية وعنصرية إلى سدة الحكم في عدد من دول الغرب. والغريب أنه يرجع كل أزمات الليبرالية إلى الليبرالية الجديدة فقط، ونظرتها إلى الاقتصاد، التي يعتبرها تشويهًا لليبرالية الكلاسيكيّة وافتراء ومسخًا لها، فيما تمثل النسخة الكلاسيكية لليبرالية، بالنسبة إليه، ليس فقط تعظيم الكفاءة الاقتصادية لرأس المال الحر، بل منظومة لها وظائف اجتماعيّة وأخلاقية كثيرة، وكأنه بات منظرًا اجتماعيًا وأخلاقيًا.

يصمت فوكوياما عن فظائع الليبرالية الجديدة رغم نقده لها، فيما يصب جام غضبه على قوى اليسار، الذين يعتبرهم شقوا سياسات التسامح الليبرالية لصالح نزعات جندرية وجنسية وعرقية ودينية تسببت في انقسام المجتمعات، ثم يلقي باللائمة على النقاد الساخطين على الليبرالية، وهو القادم من أوساط المحافظين الجدد المتشددين، وسبق له أن عمل مستشارًا لرونالد ريغان، ويريد في نهاية هذا الكتاب تقديم دعمه لليبرالية، عبر مجموعة نصائح، تتمثل في تفويض ديمقراطي للسلطات الحاكمة، وتشكيل حكومة فعالة وغير شخصية، ومكافحة الاحتكار، ولا ينسى توجيه دعوته لمئات ملايين الساخطين عليها إلى تحمل أخطائها الفادحة، ودفع أثمان أزماتها، مع تقديم النصح لليمين الشعبوي بالتخلي عن عقيدته المتمثلة بعنصرية الرجل الأبيض، واستبدالها بالمواطنية.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.