}

هوامش على سيرة مستشرق خدم الإمبريالية طوال حياته

عمر كوش عمر كوش 17 مارس 2024
تغطيات هوامش على سيرة مستشرق خدم الإمبريالية طوال حياته
برنارد لويس (Getty)
برز المؤرخ الأميركي، البريطاني الأصل، برنارد لويس، بوصفه أحد المستشرقين المؤثرين في حقل الدراسات الشرقية، الذين أسهموا في تشكيل صور نمطية للشرق في العقل السياسي السائد في الولايات المتحدة، وسواها من دول الهيمنة والسيطرة في أوروبا، من خلال تخصصه بدراسة التاريخ العربي والإسلامي، وتوظيف معرفته من أجل خدمة الإمبريالية، وإشادة نظرة عدائية للعرب والمسلمين، وافترق عن معظم المستشرقين الآخرين في نسجه علاقات مع صناع القرار، وبالتحديد مع شخصيات من المحافظين الجدد وأوساط اليمين الأميركي، أمثال مايك بومبيو، وديك تشيني، واليمين العنصري المتطرف في إسرائيل، من أضراب بنيامين نتنياهو، وغيره.
لم يتردد لويس (31 مايو/ أيار 1916 ـ 19 مايو/ أيار 2018) خلال فترة نشاطاته الأكاديمية، الممتدة بين جامعتي "لندن" في بريطانيا، و"برنستون" في الولايات المتحدة، في الاصطفاف إلى جانب السلطات الاستعمارية، وفي تجيير معرفته التاريخية، كي ينفخ في أفكار الصراع والصدام بين الثقافات والحضارات، حيث يمكن للقارئ العثور على منابع توجهاته وأفكاره، إضافة إلى طموحاته، وشغفه، وتملّقه للسلطة، في كتابه "هوامش على قرن مضى" (دار الرافدين، ترجمة عبد الله الأسمري، 2023)، الذي كتبه بالاشتراك مع بنزي إليس تشيرشل، ويروي فيه محطات من سيرته الذاتية، مع تضمينه أهم أفكاره في التاريخ والسياسة، وأطروحاته عن العرب، والإسلام، والشرق، والغرب، وسوى ذلك.
ينحدر لويس من أسرة يهودية متوسطة الحال كانت تعيش في لندن. ويسرد في كتابه حوادث ومواقف عن طفولته وتعليمه، وعن اقتناء والده لوحات فنية، وحرصه على تربية الكلاب، وعلى حضور مباريات كرة القدم، التي كان يصحبه لمشاهدتها أسبوعيًا، فيما كانت تشعره بالملل، لأنه كان يحب القراءة وتعلمّ اللغات، حيث تعلم اللغة الفرنسية مبكرًا، ثم تعلّم الإيطالية والعبرية. وحين تعرف على فتاة يهودية تُدعى "مينا"، استفاد من علاقته معها لتقوية لغته العبرية، ثم تعرّف على فتاة أخرى، تُدعى "إدا"، التي هربت عائلتها من الاتحاد السوفياتي السابق، وتنتمي لطائفة يهودية تتحدث اللغة الييديشية، ويعتبرها بعض اليهود اللغة الأصلية لهم، الأمر الذي أفاده في تعلمها. أما خلال الحرب العالمية الثانية، فقد تزوج لويس فتاة تدعى "جين" من عائلة "أنجل" اليهودية، وساعدها في الانخراط معه في عمله المخابراتي، ولكن زواجه لم يدم طويلًا.
كان لويس مهتمًا بالتاريخ منذ سنوات دراسته في المدرسة، وتطور ذلك حين درس في جامعة لندن، التي التحق بها عام 1933، حيث وقع اختياره على المسألة الشرقية، ودراسة تاريخ الشرق الأوسط. ومع تحول اهتمامه إلى هوس ومهنة، أخذ يتعلم لغات شعوب المنطقة، التركية والعربية والفارسية، وذلك من أجل فهم مجتمعاتها من الداخل، وبما يمكنه من قراءة الكتابات التي كتبت فيها، إضافة إلى قيامه برحلات إلى بلدان هذه المجتمعات، وسماع ما يقوله "أهلها وتبادل الأحاديث معهم". وقاده كل ذلك إلى توسعه في دراسة تاريخ الشرق الأدنى في مدرسة الدراسات الشرقية والأفريقية في جامعة لندن، التي تخرج منها عام 1936، وكان أستاذه المستشرق البريطاني، هاملتون جِب، الذي وجهه نحو المستشرق الفرنسي، لويس ماسينيون، كي يشرف على رسالته في الدكتوراة، التي قام بإعدادها عن الطائفة الإسماعيلية. لكن لويس لم يكن وفيًا لأستاذه ماسينيون، على الرغم من اعترافه بأنه كان صاحب شخصية بارزة، إلا أنه يصفه بالرجل المتقلب المزاج، وتعامل معه في كل يوم بطريقة مختلفة، ومرجعًا ذلك إلى تحيزّه ضده، بسبب "يهوديته"! ومسألة صَلب المسيح، وحرق القديسة "جان دارك" في تاريخ إنكلترا!




في عام 1937، حصل لويس على منحة لزيارة مصر. وبعد أن أمضى فيها ثلاثة أشهر، سافر إلى فلسطين التي كانت تحت الاحتلال البريطاني، ثم انطلق بعد أن مكث فيها أسبوعين إلى سورية ولبنان، حيث زار خلالها القرى والبلدات ذات الغالبية الإسماعيلية، لأنه كان مهتمًا بدراسة فرق الحشاشين في أطروحته عن الإسماعيليين، التي نشرها تحت عنوان "جذور الإسماعيلية" في عام 1940، واعتبر فيها أن الحشاشين اتخذوا لأنفسهم مظهرًا متطرفًا عنيفًا، وقاموا بقتل مسلمين وصليبيين، وهم يمثلون انحرافًا عن الإسلام السائد، إذ أن الإسلام، كما المسيحية أو اليهودية، دينٌ يحمل رسالة أخلاقية، والجريمة والابتزاز ليس لهما موضع في معتقداته، أو ممارساته. وقد تخلى لويس فيما بعد عن مثل هذه الأطروحات المبكرة، بل تبنى عكسها تمامًا، حين تعمّد الربط بين الإرهاب والمسلمين، قاصدًا العرب بالدرجة الأولى، وذلك بعد أن انتهى به الأمر إلى تجيير معرفته التاريخية في خدمة السلطات الإمبريالية.
عند اندلاع الحرب العالمية الثانية، تجنّد لويس في الجيش البريطاني، وجرى تعيينه في قسم يتبع وزارة الخارجية البريطانية، حيث عمل كخبير في الشأن التركي، وكان يقوم بإعداد تقارير حول الشرق الأوسط. وأُرسل وقتها إلى تركيا، لكنه لم يمكث في وظيفته هذه طويلًا، لأنه تقدم بطلب للعمل في المخابرات البريطانية (M16)، وعُين فيها نهاية عام 1940، وفق إجراءات سرية. وكان عمله في جهاز المخابرات يتركز على التنصت على المكالمات الهاتفية للدبلوماسيين العرب وسواهم، ومراقبة تحركاتهم، إضافة إلى ترجمة البرقيات والنصوص المكتوبة باللغة العربيّة، بصورة أساسية، وتلخيصها، وكان بعضها مشفرًا. وخلال عمله الاستخباراتي أُرسل مرات عدة إلى بلدان الشرق الأوسط. يقرّ لويس بأنه قضى سنوات الحرب يقوم بأعمال أخرى لا يستطيع الكشف عنها استنادًا إلى "قانون السريّة". لكنه لم يخفِ حماسته لخدمة الإمبراطورية البريطانية وجهاز الاستخبارات فيها، بل إنه يصف باعتزاز مشاعر الفخر والإعجاب التي انتابته حين قابل ستيوارت ميتزيس، رئيس المخابرات البريطانية في ذلك الوقت، وأبدى ندمه على عدم تمكنه من مقابلة رئيس وزراء بريطانيا، ونستون تشرشل، الأمر الذي يشي بأن حبّ رجال السلطة متأصل لديه، حيث يقول "عشت طفلًا في لندن في عشرينيّات القرن الماضي، وكنت أدرك بفخر أنني جزء مما كان على الأرجح أعظم إمبراطورية عرفها التاريخ، وأكبرها على الاطلاق، والتي بسطت سيطرتها على ثلث العالم.



ونتيجة لتوسع هذه الإمبراطورية في مناطق عدة حلّت الحضارة بدلًا من البربرية، ونبتت الحرية والعدالة بدلًا من الحكم السلطوي الاستبدادي". ثم يتمادى لويس في مدح الإمبريالية البريطانية، التي تتميز بالنسبة إليه عن أي إمبريالية أخرى في دورها التنويري الحضاري، لأن سلطاتها الاستعمارية أبدت "اهتمامًا كبيرًا بالتعليم، والتعليم العالي على وجه الخصوص. كان الهدف أن يجري تأسيس جامعة واحدة على الأقل في كل مستعمرة بريطانية، بحيث يُبذل المال والجهد في سبيل تدريس مادة تعنى بالتاريخ بشكل عام وتاريخ تلك الشعوب بشكل خاص". ثم يوغل في تحيزه الإمبريالي بالقول إن غاندي "نجح في كفاحه، لأنه كان يقاتل عدوًا ديمقراطيًا متحضرًا"، فالإمبريالية بالنسبة إلى لويس هي "إمبريالية ديمقراطية"، وهو يريد من إلباسها ثوبًا ديمقراطيًا التغطية على جرائمها، التي ارتكبتها بحق الشعوب التي استعمرتها، ولا شك في أن لويس يتعامى عن جرائم استعمار بلاده في المستعمرات، ففي كينيا، مثلًا، كشفت دراسات وتقارير موثقة ارتكابها جرائم، لا تقل بشاعة عن جرائم النازية، حيث كشفت المؤرخة الأميركية كارولين إلكينز، في كتابها "الحساب الإمبراطوري: القصة غير المروية لمعسكرات العمل البريطانية في كينيا"، أن معسكرات الاعتقال التي كانت تسميها السلطات الاستعمارية البريطانية "معسكرات التأهيل"، كانت تستخدمها لإجراء أقسى التجارب على البشر، تلك التي شملت الأفارقة، بوصفهم جنسًا أدنى (برابرة حسب لويس) يجب اكتشاف عقله، وطبيعته المغايرة، واختلافه عن "العرق الأبيض"، وكانت تتم فيها عمليات اغتصاب جماعية، والأدهى من ذلك أن اغتصاب الرجال كان يجري باستخدام السكاكين، والزجاجات المكسورة، فضلًا عن فوهات البنادق، وحتى الثعابين، والعقارب. وقد تفنن الجنود الإنكليز في التعذيب عبر تعليق الرجال رأسًا على عقب، ووضع رأس معتقل منهم في دلو من الماء، فيما يضعون الرمال في مؤخراتهم بواسطة عصي. إلى جانب قيامهم بسحق وتمزيق خصيتي المعتقل السياسي، وخاصة الذين كانوا ينتمون إلى حركة "الماو ماو" الكينية. وهذا فصل واحد من فصول الجرائم التي ارتكبت بحق الشعوب من طرف الإمبريالية البريطانية، التي لم تفترق عن سواها في ارتكاب الجرائم التي يتنكر لها لويس وأمثاله، بل نعثر في سيرته على تبجح وقح، يسوقه وفق منطق شوفيني متغطرس، حين يدعي أن "القدرة على التعاطف، أي الإحساس بمشاعر الآخرين بطريقة مباشرة، هي سمة غربية خالصة"، فيما يكشف واقع الحال أنه وأمثاله بعيدون كل البعد عن التعاطف الإنساني، والمجال لا يتسع لذكر أمثلة كثيرة على فقدانهم أحيانًا للضمير والحس البشري حيال العديد من القضايا الإنسانية.




يسرد لويس أن سورية ولبنان كانتا مفتوحتين للنازية، لأن كل الأراضي الواقعة تحت الانتداب الفرنسي، كانت تتبع حكومة "فيشي"، فيما تمكن النازيون من إقامة نظام مؤيد لهم في العراق، وأن مفتي القدس كان في ضيافة هتلر، لكنه يصمت بتواطؤ عن السبب الذي اضطر فيه بعض الساسة العرب إلى النظر لألمانيا بوصفها عدوًا لكل من بريطانيا وفرنسا، اللتين خدعتا بلادهم وقسمتاها، ثم قامتا باحتلالها، وبالتالي، فإن علاقاتهم السياسية مع الألمان كانت من أجل حصولهم على دعم للخلاص من الاستعمار، بينما لا يذكر لويس شيئًا عن تحالف الحركة الصهيونية مع النازيّة إبان سعيها للاستيلاء على فلسطين بمساعدة المحتل البريطاني، حيث كانت العلاقات بينهما قائمة بوضوح، خصوصًا على المستوى التجاري من خلال عدد من الاتفاقيات. وأظهرت دراسات موثقة أن المراسلات الصهيونية مع النازية كانت قائمة من خلال "السفارة الألمانية" في بيروت في ذلك الوقت. إضافة إلى أن شخصيات صهيونية، من أمثال بن غوريون، كانت شديدة التأثر بالأيديولوجيا النازية والفاشيّة، فضلًا عن "اتفاقية القدس" التي عقدت بين "أبراهام شتيرن"، زعيم عصابة "ليحي"، والفاشيّين في إيطاليا، وقد سعت هذه العصابة من خلالها إلى أن يكون الفاشيّون الطليان الأداة التنفيذية لتهجير يهود أوروبا إلى فلسطين بالقوّة.
عاد لويس إلى جامعة لندن بعد انتهاء الحرب. وفي عام 1946 قابل فتاة يهودية دانماركية اسمها "روث أوبنهايم" في حفلة، ثم تزوجها بعد عام، وأنجبا ولدين، لكنهما تطلقا في عام 1974، بالتزامن مع انتقاله إلى الولايات المتحدة، للعمل في جامعة برنستون في ولاية نيوجرسي، التي استقر فيها، وعاش مع سيدة تركية سبق له أن تعرف عليها في لندن قبل الطلاق، والتي تعزو زوجته السابقة أسبابه إلى علاقته معها، فيما أفادت مصادر أخرى أن خيانة زوجية كانت وراء طلاقهما.  
لا تخلو مذكرات لويس من تناقضات عديدة، فهو يتحدث عن خيانة المؤرخ، الذي يعمد إلى تشكيل النتائج التي يتوصل إليها في بحوثه ودراساته، خدمة لغاياته السياسية، أو ذلك الذي يُستخدم من قبل الدعاة وناشري الأكاذيب، مبتعدًا عن "مسؤولية المؤرخ وواجبه"، اللتين تُحتمّان عليه قول الحقيقة كما وقف عليها، أي الحقيقة كاملة ولا شيء سواها، فيما يمارس هذه الخيانة لويس بنفسه، عبر تحوله إلى داعية للإمبريالية وناشر للأكاذيب حولها. ولعل مسؤوليته عن التزييف الذي قام به تكبر، لأنه ليس ذلك الجاهل البريء، بل هو متحيز ظالم، قام بخدمة الإمبريالية حتى وفاته، عبر توظيف معرفته في خدمة سياسات وتوجهات سلطتها المهيمنة، طلبًا للاقتراب منها، والاستفادة منها، كي يشبع رغباته ومنافعه الشخصية. وقد كشف المفكر الأميركي الفلسطيني، إدوارد سعيد، زيف ادعاءات لويس وأضرابه من المستشرقين، لذلك لم يُفوّت لويس الفرصة كي يشن هجومه العنيف على سعيد، عبر التشكيك في معرفته وعلمه، والانتقاص من مصداقيته ونزاهته. لكن الواضح من مذكرات لويس أن سعيد تمكن من تعرية ادعاءات وأدوار لويس تمامًا، لذلك يصف ما قام به سعيد بأنه حدث أثّر في حياته الأكاديمية والعلمية، من خلال إماطة اللثام عن دوره الخبيث الذي قام به في خدمة الإمبريالية.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.