}

أدورنو والفن السلبيّ: بيان حول الأزمة

سعيد نجدي 7 يونيو 2023
آراء أدورنو والفن السلبيّ: بيان حول الأزمة
ثيودور أدورنو، 1958، (Getty)

انطلقت جماليّة تيودور أدورنو من مفهوم العقل السلبيّ، أي بمعنى أنّ هذا العقل (المبدأ الأعلى)/ مَلَكَة المعرفة، هو مفهوم غامض يحرّر الإنسان من العبوديّة، ويعتقه من الظلاميّة، لكنّه يولّد، ولا سيّما في الرأسماليّة المتقدّمة، وعيًا مصنّعًا في خدمة السوق. ازداد هذا الأمر مع وسائل الاتصال الحديثة التي جعلت من هذا العقل يميل إلى تدمير ذاته. من هذا المنطلق عاين أدورنو الظاهرة الثقافية التي تدخل في طيّاتها الأعمال الفنيّة، ولذا نحت مفهوم الفن السلبيّ الذي يجب أن يقوم بمهمة النّقد، لذلك رأى أنّ الفن أداة تحرّر وانعتاق ورفض، من هنا فإنّ جماليّة أدورنو وجدت في الفن أنّه لا يقوى على تحصيل معنى إلّا في سلبيّة العالم الحاضر الذي حوّل الإنسان إلى آلة.

كان أدورنو يعتبر أنّ الأعمال الفنيّة لا تنتقد الواقع من خلال تصويره في صورة واقعيّة، أو من خلال التشبيه، كما يرفض الأعمال التي تدّعي التعبير عن مضمون سياسي محدّد فتغرق في الدعاية الترويجيّة، من هنا يطلّ على الفن السلبيّ من خلال لوحة (غيرنيكا) لبيكاسو، لأنّها برأيه قدّمت شكلًا غير متعاهد عليه، مهزوز البنية، متخلّعًا، وهي على خلاف مع أيّة صورة تُصوّر مشهدًا لمجزرة، فتنديدها بالنظام الفاشي ليس أقل عنفًا. ووجد البعض بأنّ التخلّعات الموجودة فيها تُشوّه اللّوحة وتُضعِف من تأثيرها النقديّ، إلّا أنّ أدورنو وجد أنّ التمييز الشهير بين الشكل والمضمون ليست له أية صلاحيّة، فالشّكل هو المضمون أيضًا من خلال إظهار هذه السلبيّة (التخلّعات)، لذلك فإنّ الفن بالنسبة لأدورنو لا يقوى إلّا على التعبير سلبيًا، من هنا فإنّ جماليّته هي جماليّة سلبيّة (أي كرسم بيكاسو الذي رسم المجتمع بشكل متخلّع وليس بتصويره كما هو بطريقة واقعيّة). وعلى هذا المنوال نفهم كيف كان نقده في ميدان الفنون التشكيليّة: الأعمال بطريقة تلقائيّة فوق الحامل المادي غاية للتصوير، والفن المفهومي (وهو هنا قريب من كانط بعدم مفهمة الفن لأنّه مرتبط بمَلَكَة الذّوق)، أي الذي ينطلق من مفهوم مسبق، أو الأعمال التي ينجز فيها الفنان العمل الفنيّ أمام الجمهور ما يجعله قريبًا من العرض المشهدي، أو في تعويل الفنان على المادة التي يستخدمها. إنّ وضعيّة الفن المعاصر هي أقل سحرًا بسبب التسليع الثقافي، وقد شهد على ذلك هيغل التي بلغت جماليّته ختام المرحلة الرومانسيّة وعتبة الفن الحديث، من خلال تجربة يوهان بول (الحنين إلى اليونان والسخرية)، على سبيل المثال، وهذه الأزمة تطاول باقي الفروع، كما عبّر هوسرل عن ذلك بأزمة العلوم الأوروبيّة والتي من ضمنها الفن، فهي وبسبب تقنيات العصر أصبح الفن فاقدًا للهالة الجماليّة حسب تعبير والتر بنيامين، والذي توقّع نهاية النقد في اليوم الذي يتوصّل فيه الإنسان إلى تحقيق حلمه في العيش في عالم ديزني. إذًا فإن أعمال الفن أَصبَحَت تقلّد مثل الببّغاء وبأسعار رخيصة، من هنا حاول التنبيه إلى الحداثة في الفن إلى أن لا تشيخ وتنتهي في دوّامة الصّناعة الأداتيّة والترويج التجاري الذي حوّل الوعي الفني إلى وعي تكنولوجي. من هنا أيضًا نراه يستعير مقولة رامبو بأنّ علينا أن نكون حديثين قطعًا، لا من خلال التّقليد أو الدخول بالوعي الذي عمل على المطابقة والتّقليد الذي يحدّده السّوق، لأن الفن في جزء كبير هو تحرّر من الخدر ووعد بالسعادة ومن تجاوز الواقع المنزوع من الأحلام. فهيغل، على سبيل المثال، رأى في العمل الإبداعي استقلاليّة عن الأجناس والأعراف والقواعد وعليه أن يتجاوز نفسه. طبعت من خلال المجال الفني تشاؤميّة على أدورنو توحي بموت الفن كظاهرة، وعلى ذلك نرى هربرت ماركيوز الذي عمل على استعادة رسائل فريديريك شيلر في ما يخص التربية الجماليّة كفرضيّة مرتبطة بباقي الأبنية المجتمعيّة من سياسة واقتصاد تؤدي إلى التّحرّر من النفعيّة والتّسلّط ومن عبادة الأصنام الجديدة فهي نزوع إلى اللّعب بين المَلَكَات (العقل / الحساسيّة). يوتوبيا شيلر هي في أنّ التربية الجماليّة تؤدي إلى بلوغ الدولة الجماليّة. هذه الفرضيّة تكشف لنا اليوم أيضًا الأزمة والذي ذكّرنا بها أدورنو.

وبالعودة إلى سلبيّة الفن، أشار أدورنو بسخرية إلى النّقد الذي لا يلوي على نفسه والذي يعلن دومًا بأنّه مستاء من ثقافة هي الّتي أعطته بسبب أزمتها حقّه في الوجود، إشارة إلى فنّاني اليوم من مصوّرين وشعراء وغيرهم. إلّا أنّ هذه الأزمة وبسبب الجماليّة ربّما تطاول أيضًا سياسيّي اليوم وإعلاميّي اليوم في عالمٍ تسوده التبجيلية المبتذلة التي تعكس ملكة الذوق، ربما وهذا احتمال موضوعي، أنّ التّربية الجماليّة تنتج جماليّة على باقي الأبنية، على سبيل المثال كلما أطلّ شاعرٌ أنتجته وسائل التواصل الاجتماعي صار مبدعًا، أي ساميًا على حدّ تعبير كانط. إلّا أنّنا نرى عند الحديث عن المبدعين، حتّى عند نيتشه الذي يذهب إلى اليونان كنوستالجيا، إشارةً إلى ندرة العمل الإبداعيّ. يجيب لوكاش عن سبب تخطّي أعمال هوميروس أو سوفوكليس للزّمان مثلًا أي الفن المستديم من دون اعتبار للتّاريخ، أنّه ترجمة الدراما للفرد الذي وعى بأنّ حياته فوضى خافتة ولا شيء فيها يكتمل ولا شيء يمضي إلى نهايته.

ومفهوم الإبداع قَرَنَه كانط بالعبقريّة أي العمل السامي الفائق والذي يرتفع عن الجمال ليبلغ حدًا أعلى وهو ما يصعق لا ما يرضي، هذا هو الإبداع الشعريّ، شيء يُحدِث الرّوع، ويعمل على تنافر المَلَكَات، لأنّه قولٌ جديد غير مألوف بسبب غرابته، يُعلِي قوى الرّوح، لأنّه قولٌ آخر للعلاقة مع العالم، وتفسير مغاير، وهو استعمال تكون اللّغة فيه بحبكة أو لعبة جديدة إذا أردنا التحدث على منوال فتجنشتاين، أو انسكابٌ فيه للمطلق (النّظرة الميتافيزيقيّة لشيلنغ) والتي تم تجاوزها، أو هو العودة إلى الأصل كما ذهب هايدغر مع هولدرلين أنه انعدام للعدم. وهذه الإشارة حول اللغة ألمح لها النفري "البينة وجود ما لا يعدمه العدم"، لأنّه كشف عن الوجود ليؤمّن السّكن من خلال إشارة الشاعر المبدع لا الإنشائيّ الببّغائيّ الذي أصبح يشكّل تخمة (مع أنّ الفوارق الزمنيّة للمبدعين طويلة لكنّنا كل يوم ننتج مبدعين أليست هذه أزمة) بالتأكيد مع حق كل إنسان بالتعبير ولكن الإشكالية بالأوصاف. إذًا الإبداع يتوفّر على تفكير في شيء لا نعرفه لكنّه يدعو إلى التّفكير لأنّه يوفّر الإشارة، فيه معانٍ تصوّر من خلال الّلغة تفتح على فضاءات مغايرة للتّفكير وكانت تلهم كبار المفكّرين. ولهذا السبب قام أفلاطون بطرد الشعراء وأرسطو وضع قواعد التطهّر لهم بسبب السلطة وسيادة نموذج من التفكير وكان الشعراء يتجاوزونه. وعلى ذلك كانت السلطة تخاف الشعراء وتستميلهم كأبي الطيّب المتنبّي (لا كما فهم أنّ أبا الطيّب طالب بسلطة إنما كان بحاجة إلى سقف وحماية خوفًا من تكفيره على ما كان ينطق به).

أشار أدورنو بسخرية إلى النّقد الذي لا يلوي على نفسه والذي يعلن دومًا بأنّه مستاء من ثقافة هي الّتي أعطته بسبب أزمتها حقّه في الوجود، إشارة إلى فنّاني اليوم من مصوّرين وشعراء وغيرهم

الابتذال اليوم بلغ حدًا كبيرًا وتخمة وإعطاء أوصاف مبالغ فيها كأنّنا كل يوم أمام المتنبّي أو أبي العلاء، وكثرة كبيرة للمنتديات والأمسيات، ربما أكثر من ألف ملتقى في بلد كلبنان على سبيل المثال. المبالغات والنّفاق في التبجيل على خواطر أو ربّما وجدانيات تصّور أنّها أعمال سوفوكليسية كل همّها الظهور بمظهر الحداثة كطقس عبور يقلّد من دون سحر، أو مديح مفرط للذّات وأساليب شائعة جدًا في الموضوعات، أو المديح السياسيّ والحزبي الجهازي وغيرها من نماذج. بالتّأكيد هناك أنواع عدّة من القول الشعري إلّا أنّ التمييز يجب أن يكون حول الإبداع لا أن يكون الكلّ مبدعين. فاليوم نرى أن كل شخص بغضّ النّظر عن موهبته وتكرار الأساليب والتقليد يستطيع أن يكون شاعرًا وكاتبًا من خلال وسائل التّواصل الإجتماعيّ وهؤلاء كتّاب "الأزمة" (لأنّ الأزمة ليست فقط سياسيّة واقتصاديّة إنّما أيضًا ثقافيّة وفنيّة تنعكس بشكل جلي) وتوزيع لشهادات وجوائز وأوسمة بشكل عشوائي. ونراهم إن كانوا يملكون المال يطبعون الدواوين وإن كانت لهم علاقات شخصيّة بالوسط الفنيّ أو علاقات سياسيّة يقدّمون بالمنتديات والأمسيات أكبر الأوصاف والألقاب، ولكي يهربوا من مستواهم يلجؤون إلى السخريّة على غيرهم أو التنمّر، وتتصعّد هذه الظاهرة بالحفاوة وعدد الإعجابات والتملّق والتصفيق، وحتّى طريقة الإلقاء أصبحت مبتذلة للغاية مع دمج مؤثرات صوتيّة موسيقيّة لتعطي دفقًا مزيّفًا. فالإبداع مرتبط بالنّص الذي يبقى حتى بموت الكاتب كما أشار رولان بارت من خلال حرارة ولذّة النّص والإنتاج الدائم للحساسيّة والدّفق الذي توفّره اللّغة بالهسهسة التّي تشكّل موسيقى المعنى والعلامات المتعدّدة. هكذا نص يكون فيه أكثر من آخر على ما ذهب جاك دريدا، أي أن تّأويله لا ينتهي. هكذا هو الإبداع الشّعريّ أيضًا كما أشار بورخيس الذي انتقد المؤلّفين الذين يكتبون الشّعر وكأنّه واجب، وهذا ما ينطبق بشكل كبير اليوم.

الكلّ له حريّة الكتابة والتّعبير، ولكن ما نشهده من أوصاف هي لا شكّ تعبّر عن أزمة أصبح فيها الحكم المعياريّ مشوهًا بسبب أزمة الطلائع، فالفن مؤشّر على ما نحن عليه عندها، ومن هذا الميدان الثقافيّ (الفن) لا نعود نستغرب ما ينسحب على باقي الميادين وأكثرها بشاعة الإعلام، بحيث أنّ الإعلاميّ أو الصحافي أصبح يطّلع على كل المهمات من ثقافة وقضاء وسياسة وأصبح يطلق الأحكام المعياريّة والفوقيّة الاستعلائيّة والطبقيّة حتّى بشكل عشوائيّ. ومع أدورنو نعيد السؤال حول الجماليّة والفّن السلبيّ الذي يجب أن لا يصوّر الواقع بشكل واقعيّ إنما علينا تصويره بشكله المتخلّع البشع وبشكل أكثر سلبيّة لكي نظهّر الأزمة، وهي أزمة جماليّة لا تفرز إلا شبيهاتها على كافة الصّعد، وهي الثّقافة التوكيديّة كما نبّه ماركيوز الذي وجد في الفن يوتوبيا تخرج الإنسان من الحضارة القمعيّة والصّراع بين اللوغوس وبين الأيروس من أجل التّخلّص من مبدأ النّفع الذي وظّفته العقلانيّة باعتبارها المَلَكَة الوحيدة من منطلق ما يفيد. فالفن لا يفلت من قانون الاندماج ذي البعد الواحد لكي يصير توكيديًّا لهذه الثّقافة الّتي تستبطن أسطورة بروميثيوس الخاضع. من هنا استعاد، كما نيتشه، الديونيزيّة الّتي احتفى بها فاليري وباشلار وأندريه جيد، فالأسطورة مهمّة في مكان أنّها تخفي الرغبات المكبوتة للإنسان، لذلك انطلق منها فرويد وإن كان بشكل تعميمي.

الرّفض إذًا من خلال الفن السلبيّ يشكّل أداة تجاوز من خلال فئات منبوذة، وفي هذا إشارة إلى ما وجّهه والتر بنيامين إليهم، "إليهم وحدهم، من لا أمل لهم، أعطي الأمل". على سبيل المثال الموسيقى اليوم في عالمنا العربي، نرى أنّ ما أنتجه كبار الموسيقيّين سابقًا هو تربيتهم على الجماليّة الصوفيّة ونغمات المقامات القرآنيّة باعتبارها طرقًا أقرب للفنّ وهروبًا من القوالب الدينيّة الجامدة، وإن تراجع هذه الطرق لصالح طلائع الإسلام السياسيّ وأيضًا الدخول في البعد التجاريّ للفنّ أمّن تراجعًا على المستوى الجماليّ، وتحديدًا في الفن الشعبيّ وللفولكلور الذي كان في نفس الوقت ذا مضامين تحاكي المجتمع بكافة أبعاده. الفن الساخر أيضًا، والذي يُعدّ درجة ثانية، لم يكن على هذا المستوى كطريقة أغاني الصهبجيّة التي اتّبعها سيّد درويش والذي كان يحاكي كافة الفئات في المجتمع. وهي وجهة اتبعها فيلمون وهبي في لبنان.

صحيح أنّ الفن الحديث فَقَد الحكم وفق معيار أحاديّ ولكن الإشكاليّة تكمن في وصف بعض الأشكال بالإبداعية، أي كأنّها خلقت شيئًا من لا شيء، كما كان يصف اللاهوتي ألبير الكبير، وهي صفة لله، وهي إشكالية كانت بدأت مع عصر النهضة العربية حول الإبداع، الانعتاق من هيمنة المؤسسات للإعلاء من شأن الفنان مع دافنشي، وهي مرحلة كانت تحاكي منهج ديكارت بشكل تزامني. إلا أننا اليوم، وكأن هذا الانعتاق من المؤسسة، تحولت فيه السيطرة إلى نموذج غير مرئي أصبح يستبطن الجميع بشكل غير تقليديّ، والمعاينة تكشف أبعادًا كثيرة في ما يخّصّ هذا الميدان الثقافيّ بحاجة إلى دراسة أكثر، لأنّ الفنان أصبح كأنّه عامل وأجير، يحاكي بشكل مقيت سيّده بشكل لا واعٍ. هذا النموذج وإن كان لا يختزل المفهوم الفني لكنه يوفر رؤية كاشفة ذات مضمون نقدي لما يمثله المجال المرتبط بالبنى للنسق السوسيولوجي.

صحيحٌ أنّ الجميل حالة نسبيّة وهو مرتبط بقيم ثقافيّة ومعايير خاصّة، كما البشع، وبنوع معيّن من المجتمعات وتقاليدها ورؤيتها إلى العالم في لحظة تاريخيّة معيّنة باعتباره تمثيلًا حسيًا، إلّا أنّ السّائد هو تعميم المثال الأداتي الأحادي والذي يتسابق الكل على تقليده، والأفظع هو إطلاق الأحكام الإبداعيّة على هذه الأعمال.
وأخيرًا نعود مع أدورنو ونسأل عن النقد وعن أيّ نقد نحن بحاجة إليه، ألا يكفينا ما نحن عليه اليوم من تراجع على كافّة المستويات، ألا يكشف النقد السلبي للفن عمّا هي الحالة كانعكاسات أيضًا على صعيد المعرفة والسياسة أيضًا، وألا يكشف لنا عن تساؤل حول المجال الفني الذي يتحكم فيه الذين أصبحوا يمتلكون الرأسمال الرمزي ويوزعون الشرعية على غيرهم أو يحجبونها بسبب عدم التطبع، نظرًا لامتلاكهم كافة الوسائل؟

*كاتب من لبنان.

 

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.