}

في خريطة المفاهيم التي حكمت فهم الدولة الحديثة بمصر

عمر كوش عمر كوش 27 سبتمبر 2023
آراء في خريطة المفاهيم التي حكمت فهم الدولة الحديثة بمصر
(القاهرة)
لم يبذل معظم المفكرين العرب جهدًا كافيًا للنظر في مسألة الدولة في البلدان العربية، وخاصة الدولة الحديثة، ولم يعطوها ما تستحقه من بحث واهتمام علمي، حيث لم يتناولوها كمسألة مستقلة من خلال تطورها التاريخي، الأمر الذي جعلها مضمرة في الوعي العربي المعاصر، وأفضى إلى نتائج عكسية في نمط ولاء الناس، حتى بات عصيًا استقرارها في الوعي الجماعي، بسبب ضعف أقلماتها النظرية، وفقر الخوض في تفاصيل تجاربها التاريخية، فلم تتأرضن الدولة كوعاء مشترك، وحاضن للجميع، في المخيال الجمعي لمختلف الجماعات العربية، الأمر الذي جعل مفهوم الدولة من أكثر المفاهيم إشكالية في الفكر السياسي العربي الحديث، فلم يتأقلم بدوره في المجال التداولي العربي، إلا وفق تعيّنات تخلطه بمفاهيم أخرى، كالسلطة والحكومة والإدارة وما شابهها، وبقي ملتبسًا وملحقًا في الخطاب السياسي العربي المعاصر، الذي أنتج مفاهيم هجينة وممسوخة، باتت متداولة وشائعة في اللغة السياسية، كالدولة الوطنية، والدولة القومية، والدولة الإسلامية، والدولة الاشتراكية، ودولة العمال والفلاحين، بل وتمادت بعض الأحزاب الحاكمة في البلدان العربية في إلحاق الدولة باسم حزبها، أو أمينها العام، أو باسم الديكتاتور، أو الطاغية الحاكم. وهي توصيفات وتسميات غامضة ومبطنة لدول مستولى عليها من طرف أنظمة، مستبدة أو شمولية، غايتها فرض سيطرتها على الدولة والمجتمع، واحتكار الفضاء السياسي، ومصادرة المجال العمومي. 

غير أنه تواتر في الآونة الأخيرة صدور مؤلفات تخوض في مسائل الدولة وقضاياها، ويدخل في هذا الإطار كتاب "الدولة والمجتمع في مصر الحديثة: رد اعتبار وإعادة نظر" (دار المرايا، القاهرة، 2023)، للباحثين عمر عادلي وناثان براون، الذي يحاولان فيه إعادة النظر في خريطة المفاهيم والأطر النظرية التي حكمت فهم الدولة الحديثة في مصر، عبر إثارة النقاش حول قضاياها المركزية، والرجوع إلى جذورها التاريخية عبر مسارات ثلاثة، يتناول أولها تطور الدولة في مصر، من حيث تشكلها ورصد تغيراتها مع تغير النظم السياسية في العصر الحديث، ويبني على المعرفة العامة بالوقائع والمراحل المؤسسة لمسارات تطور الدولة، بدءًا من بناء بيروقراطية الدولة المركزية في النصف الأول من القرن التاسع عشر، التي أسندت لنفسها مساحات من التنظيم الاجتماعي والاقتصادي، وامتدت جهودها إلى الدولة الخديوية في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، ومارست قدرًا من السيطرة والإدارة وفق مشروع تحديث غربي، وأدى ذلك إلى الاحتلال البريطاني وتأسيس الدولة الكولونيالية، التي تركت آثارًا عميقة في دولة ما بعد الاستقلال، الذي تحقق عام 1956 بجلاء القوات البريطانية من قناة السويس، وبعدها شهدت دولة ما بعد الاستقلال ثلاثة أنظمة، سميت بأسماء رؤسائها: نظام عبد الناصر، ونظام السادات، ونظام مبارك. أما المسار الثاني فينصبّ على تطور العلاقات بين الدولة والمجتمع ومظاهر تحديثه، فيما يجري في المسار الثالث الانتقال من السياسة إلى الاقتصاد السياسي لمصر في العصر الحديث، والنظر في أسباب وحيثيات المسار التنموي المتعثر فيها.


ينهض منطلق البحث على اعتبار أن الدول تنشأ عبر عمليات تاريخية طويلة المدى، وهي نتاج عمل بشري متضافر، لكنها لا تقف حكرًا على الإرادات الفردية، فحتى وإن وجه دفتها الحكام، إلا أن ذلك لا يحدث بسهولة أو بشكل فعال. وعليه، فإن الدولة في مصر تشكلت نتيجة مجموعات من التفاعلات بين عوامل عديدة سياسية واقتصادية وثقافية، ساهم فيها طيف واسع من الفاعلين الاجتماعيين، سواء كانوا أفرادًا أم مؤسسات، الأمر الذي يقتضي البحث في مسار يخص تطور الدولة في سياقاته التاريخية، وليس في عمليات إنشائها أو هندستها، بوصفها عمليات غائية لها بداية ونهاية، ثم الانتقال إلى الاستثمار المفهومي، عبر فصل مفهوم الدولة عن مفهوم النظام السياسي، بغية تبيان أشكال الاستمرار والاستدامة في السلطة السياسية ممثلة في أجهزة الدولة، التي يمكن تتبع جذورها إلى بدايات تشكل الدولة الحديثة مع مطلع القرن التاسع عشر، حيث تقبع خلف هذه السيرورة جملة من التفاعلات والتغيرات في جهاز دولة مترامي الأطراف، وصراعات دارت حوله وداخله، فضلًا عن تعرضه لفترات تمدد وتقهقر، نتيجة الظروف السياسية والاجتماعية والاقتصادية المتغيرة.

يتبنى الباحثان تعريفًا واسعًا للسياسة، باعتبارها جملة من علاقات القوة التي تمس، حضور السلطة العامة في مختلف ميادين التفاعل الاجتماعي، حيث لا تقتصر الدولة على البيروقراطية المدنية والعسكرية، ولا في النظام السياسي، الذي يشمل ممارسات القوة داخل أجهرة الدولة، وبينها وبين المجتمع، وبالتالي تتشكل الدولة من مجموع المؤسسات، التي تشكَّلت وتطورت بفعل ظروف تاريخية معينة متفاوتة زمنيًّا، بينما يشير النظام إلى مجموعة القواعد التي تحدد من يحوز على سلطة الدولة، لكنه يمسّ أيضًا علاقات القوة بين مجموعة من المؤسسات والكيانات والأفراد، تسعى إلى إدارة جهاز الدولة والتحكم فيها، من أجل إعادة توزيع الثروة والسلطة، بما يخدم مصالحها ومصالح مناصريها. وقد تغيرت على مرّ السنين درجة وجود نظام حاكم في مصر مختلف عن الدولة، مع الإقرار بوجود تمييز ما بين مجموعة الأشخاص والهياكل التي تشرف على جهاز الدولة بأكمله، من دون أن تمتلك القدرة على إدارة تفصيلية لكل ما فيه.

بشكل عام، يجري تمييز الدولة عن النظام السياسي، إذ لكل منهما مساراته التاريخية الخاصة المستقلة عن الآخر، حتى وإن تقاطعت في أحيان كثيرة، لكن لا يُنظر إلى مراحل تأسيس الدولة أو هندسة مؤسساتها، بوصفها عمليات غائية وقصدية، تقف وراءها الأنظمة السياسية أو أشخاصها، بالنظر إلى كونها عملية تراكمية، تأخذ اتجاهات مختلفة، وتتحكم فيها مجموعة من الفاعلين، وقد تكون لها نتائج لا تتطابق بالضرورة مع مع إراداتهم، وبالتالي لا يجري التركيز على أنظمة تشكّل الدولة، بل على مؤسسات الدولة التي تتوسع وتتمدّد باستمرار، وبعضها يتمتّع باستقلالية نسبية، فيما تسعى الأنظمة المتعاقبة للسيطرة عليها، فتنجح في بعض الحالات وتفشل في حالات أخرى. وفي الحالة المصرية، يرى الباحثان أن قبضة الأنظمة السياسية على الدولة ومؤسساتها لم تكن مطلقة، لأنهما يعتقدان أنها قامت على مؤسسات قوية، وسعت الأنظمة للسيطرة عليها، لكنها لم تنجح بشكل محكم، والخلاف ليس على  مسألة قوتها، بل على مدى كفاءة مؤسساتها.

عمر عادلي  وناثان براون 


يتتبع الباحثان مسارًا موجزًا لتطور العلاقات بين النظام والدولة في مصر، يبدأ من حكم محمد علي باشا، وصولًا إلى حسني مبارك. وشهد هذا المسار تبدّلات وانقطاعات وارتكاسات واستمرارية، بدءًا من زوال مؤسسات المجتمع التقليدية، مثل نظام الطوائف الحرفية والأشراف ونقاباتهم، ثمّ نشوء مؤسسات حديثة في الفترة الكولونيالية، جسدتها أحزاب سياسية ونقابات وأندية وحركات اجتماعية وغيرها، وجاءت مرحلة حكم عبد الناصر، كي يحدث تماهٍ في بعض الأحيان بين النظام والدولة، إضافة إلى محو الحدود الفاصلة بين الدولة والمجتمع، حيث حاولت الدولة فرض سيطرتها على المجتمع، وتشكلت دولة "كوربوراتية"، التي تعني مجموعة الترتيبات التي تنشئ فيها الدولة كيانات وهيئات محدّدة أو ترخص لها، كي تنظّم وتضبط جميع قطاعات المجتمع والقوى الفاعلة فيه وفقًا للوظيفة التي تؤديها. وعليه، فرضت الدولة سيطرتها على الجمعيات والاتحادات والمنظمات المدنية التجارية والصناعية لتقويض سلطة الفاعلين في المجال العمومي، ثم سعى النظام في خمسينيات وستينيات القرن الماضي إلى خلق قواعد شعبية له في أوساط العمال والفلاحين، مع رغبة الأخيرين في دمج أنفسهم في بيروقراطية الدولة، سعيًا لتحقيق مكاسب اجتماعية واقتصادية. أما في فترة أنور السادات، خلال السبعينيات، فقد جرى حلّ المنظمات والاتحادات التي أُنشئت خلال حقبة عبد الناصر، لأنه اعتبرها امتدادًا لسلطة الدولة السابقة، وتشكل تهديدًا لسلطته، ولمقدرته في السيطرة على المجال العمومي، لذا سعى إلى تغيير مختلف الأطر السياسية والاقتصادية، وإدخال فاعلين جُدد موالين له، مع تقويض سلطة الفاعلين السابقين، وتغيير المعادلة السياسية، عبر تمكين رجال أعمال جدد، قاموا بإنشاء جمعياتهم واتحاداتهم الخاصة. وقد تنامى دورهم السياسي في الثمانينيات والتسعينيات، ووصل أوجه في العقد الأخير من حكم حسني مبارك.

يرى الباحثان أن الهياكل التنظيمية التي ظهرت في المجتمع المصري، منذ ظهور الدولة الحديثة في مصر، لم تتمكن من تشكيل إطار يستوعب مصالح وتطلعات الفئات الشعبية، ويحظى بتمثيلها على المستوى الرسمي بغية تمكينها. كما عجزت هذه الهياكل والتنظيمات بسبب قصورها الداخلي، أو بسبب قمع النظام الحاكم، وافتقارها إلى أدوات تسمح لها بالتفاوض والضغط على جهاز السلطة، لانتزاع مكاسب سياسية واقتصادية، أو طرح بدائل لطرق إدارة السلطة والثروة في مصر. ثم ينتقلان إلى تناول مشكلة التنمية، عبر النظر في الاقتصاد السياسي للتنمية في مصر، وتفكيك فرضيات تعثر التنمية فيها، التي يرجعها بعضهم إلى العوامل الخارجية، كالاستعمار والاضطرابات الإقليمية، والاقتصاد الريعي، والعامل الديموغرافي الناتج عن زيادة أعداد السكان، وعوامل الفساد والمحسوبية المستشرية في السلطة والنظام السياسي. ويحيلان فشل تجربة السوق الحرة في تحقيق التنمية في مصر إلى غياب التنسيق اللازم لنمو سوق رأسمالية متطورة، سواء على مستوى البنية التحتية للسوق، التي تستلزم وجود قواعد وممارسات سياسية واجتماعية، تنشأ بين الفاعلين المنخرطين في عمليات التبادل بالسوق، وتعمل على التنسيق بين المنتجين والمستهلكين، إضافة إلى التنسيق على مستوى البنية الفوقية للسوق، التي تخص السياسات والآليات الناظمة للعلاقة بين الدولة والقطاع الخاص، لكن نسقًا اقتصاديًا نشأ في مصر، يمكن فهمه من خلال فهم التفاعلات بين البنية التحتية، المتمثلة في العلاقات الاجتماعية بين القاعدة العريضة من الفاعلين، مثل علاقات المصاهرة والصداقة والولاء والمحسوبية، وبين البنية الفوقية للنسق، الممثلة بالقوانين والسياسات التي تضعها سلطات الدولة بنفسها، أو بالتنسيق مع جهات دولية أخرى مثل صندوق النقد والبنك الدولي.

 

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.