}

من مثقف لمقاول ثقافي: هل هو أفول الإبداع المعرفي؟

فريد الزاهي 5 سبتمبر 2023
آراء من مثقف لمقاول ثقافي: هل هو أفول الإبداع المعرفي؟
(GettyImages)

ثمة في الثقافة العربية الكلاسيكية العديد من الظواهر التي كانت تعبّر عن تواضع الشاعر والكاتب المبتدئ، الذي كان يعيش في وسط ترسَّخت مرجعياته الفنية والثقافية وتجذرت قواعد الكتابة والتلقي فيه. فكان الشاعر يستعيد أبيات أضحت شهيرة، لا من باب السرقة الأدبية ولكن رغبة في الدخول إلى الثقافة من بابها الواسع، وترسيخ نفْسه ونفَسه فيها. وكان آخرون ينسبون مؤلفاتهم البكر إلى كاتب سبقهم معرفة وشهرة، وكأنهم بذلك يُوارون اسمهم وراء اسم يمنحهم القدرة على قياس مدى قدرتهم على التأليف والمعرفة. إنهم مثل تلك النساء في الجاهلية اللاتي كن يبنين خيمة لكي يحظين ببذرة من رجل شريف ينسبْن إليه ذريتهن.

كانت الثقافة تسري بسيولة فلا يضطر أكثر العلماء علمًا كابن رشد إلى الدقة وهو "يترجم" أرسطو، بل كان الناس بسبب صعوبة تداول الكتب وعسر الترجمة، وسيادة الترجمات الوسيطة، يخلطون بين أفلاطون وأفلوطين. ورغم كل هذا، بل بفضل هذا تحديدًا، أرسى الكندي والفارابي وابن رشد أُسس وصروح فلسفة عربية إسلامية تتجاوز الترجمة إلى التأويل، والنقل إلى التملك والإبداع المعرفي.

بناء الفعل الثقافي وأفول الكتابة

حين ألف ميشيل دو مونتيني "المقالات" لم يكن يبتغي من وراء ذلك أن يغدو مؤلفًا شهيرًا. كتبها على عواهنها فجاءت أشبه بالشذرات التي يسرح فيها في الثقافة والذات ومشاكل العصر والحوار مع القدماء كما مع المعاصرين. وهو على عكس الجاحظ مثلًا، بالرغم من التقارب بينهما، لم يكن يبتغي مكانة أدبية خاصة إذ إنه حرر "المقالات" بلغة محلية وليدة لا يتقنها الناس، ولم تكن تحظى بالقيمة التي كانت للاتينية، لغة الكنيسة آنئذ. كانت نبوءة مونتيني المضمرة ذات أفق شاسع. فهو ربط بين ثقافة اليونان والرومان والثقافة الفرنسية الوليدة بحس وحدس باهرين. والقارئ "للمقالات" يجد أن معارفها الخارجية وشواهدها الممتوحة من الثقافة الرومانية واليونانية والمعاصرة له تجاوز بكثير جدًا ما ينبع بشكل مباشر من تجربته وحياته. بيد أن "عبقرية" الرجل تتمثل بالأساس في كونه سعى إلى تملّك هذا الإرث وتحويله إلى مجال شخصي للفكر والتفكير والتأويل، والاستنبات في الحياة والألم والصبر والعواطف...

هذه العلاقة بثقافة الآخر عاشها العالم العربي في ما سمي بالنهضة، ولمدة امتدت إلى أربعينيات وخمسينيات القرن الماضي، من رحلة الطهطاوي وجرجي زيدان والصفار، مرورًا بتوليفات المنفلوطي وشكّية طه حسين العقلانية، وصولًا إلى كتابات عبد الرحمن بدوي التأسيسية. كان الهاجس مزدوجًا: بناء ثقافة عربية محلية منفتحة على الترجمة والآخر (إذ في آخر المطاف كل علاقة بالآخر، مهما كانت حريتها في التصرّف، هي ترجمة وتأويل)، واستعادة العلاقة بتراث متعدد كان لا يزال حاضرًا بثقله في المجال الثقافي. لذلك لا يمكن أن تجد مشروعا فكريًا وثقافيًا عربيًا، من طه حسين إلى عبد الله العروي، مرورًا بالجابري وحسن حنفي والخطيبي، لا ينبني على هذه الثنائية المعضلة ولا يسائلها من خلفية عقلانية أو فينومينولوجية. وهكذا نجد في الخلفية أسماء فكرية تقف في سراديب هذه المشاريع: ماركس وهيجل ونيتشه وهوسرل وهايدغر ودريدا، بهذه الحدة أو تلك...

ظلت الدراسات الأدبية لمدة طويلة الحلقة الغنية والإشكالية في الثقافة العربية، مع أسماء تركت أثرها الثقافي والأدبي (جرجي زيدان، طه حسين، أحمد أمين، العقاد، محمد مندور، غالي شكري...). وهي إشكالية لأنها تربط بين الأدب والثقافة والفكر والمجتمع والتاريخ. ومع "القطيعة البنيوية" ومتاهاتها دخل فيروس "التخصص" و"المحايثة" وأدبية الأدب، والسرديات والسيميائيات... وما نجم عن ذلك لمدة طويلة من عزل وتصنيف وتصفيف للكتابات تبعا لتقنيات تحليل أقل ما يقال عنها إنها أشبه بميكانيكا النصوص. لم يدم وهج البنيوية لأكثر من عقدين في الثقافة الفرنسية، إذ عاد تزفيتان تودوروف إلى تاريخ الأفكار والأنثربولوجيا، وانسل جيرار جونيت إلى مجال الجماليات فيما توقف بارت نهائيا عن الحديث عن بنيوية الحكاية وبشكل مبكر... هكذا ولَّد الانبهار بالسرديات ثم بتحليل الخطاب والانسياق معهما تحررًا مما سمي بالنقد الأيديولوجي، مع أن التحليل المحايث والتقنوي للنص يشكل بصورة ما أيديولوجيا مضادة.

لقد تحول التطور المطرد للدراسات الأدبية من التقنوية الضيقة إلى فكْروية مبنْينة، تمارس في الحقل الثقافي العربي السلوك الثقافي نفسه، بتحويل الفكر إلى منهجية وتحويل المنهجية إلى ممارسة فكرية وثقافية. وكأن التحرر من التقنوية البنيوية جاء ليعوضها بتقنوية ثقافية حولت البعد الاجتماعي للجندر والبعد الثقافي لما يسمى بالدراسات الثقافية إلى تقنيات معطاة سلفًا يلزم فقط تطبيقها كأنها وصفة جاهزة. ولا مراء في أن الجامعة، والبعد التلقيني والتدريسي لهذه النظريات الجديدة، قد ساهم بشكل وفير في هذا التحجر المعرفي، الذي أضحى أشبه بالوصفات التي يعيد إنتاجها أصحابها (من أساتذة وباحثين) ويستعيد استنساخها الطلبة والدكاترة الجدد. والمحصلة تتمثل في أن التخصص (كما يقول ميشيل أونفراي) يخلق انحباسًا معرفيًا يتطلب تجاهل المعارف الأخرى، فلسفية كانت أم سوسيولوجية أم أنثربولوجية، ليزج بالأستاذ المتخصص كما بطلبته في حلقة أشبه بالقوقعة لا يخرج منها إلا ليعود للارتكان ليقينياته التي استمدها من المنظرين الغربيين الذي يدين لهم حرفيا بمعارفه في هذا المضمار.

"الباحثات" الجندريات العربيات يلبسن لَبوس الجندرية مسايرة للتيار الجارف، ويجعلن من فاطمة المرنيسي زعيمة للتيار الجندري في العالم العربي مع أنها في حياتها لم تطالب قطّ بذلك

من الترجمة إلى المقاولة الثقافية

من المأسوف له أن الاجترار والتكرار صار المرض العضال للثقافة الجامعية، التي باتت تغطي على الهوامش الضئيلة التي تحيط بها باحتشام وتسيطر بلا منازع على الساحة الثقافية العربية. فالمؤلف الجامعي ليس بحاجة إلى قراء مفترضين، إذ إن جمهوره مضمون له أصلًا، خاصة حين يدخل في هذه الدوائر (تحليل الخطاب، السيميائيات الترجميات، الجندر....)، التي لا تخلو جامعة أو مؤسسة عليا من مختبر لها أو من أساتذة يدرسونها. والأمر نفسه خلق في أواخر القرن الماضي بخصوص السرديات، التي ألف فيها الكثيرون انطلاقًا من ترجمة (كانت أحيانا خاطئة وفي أغلبها تقنية) لمصادرها الفرنسية، ضربًا من الفيض "المعرفي"، الذي انتهى بكافة تلك المؤلفات إلى المزبلة بعد أن تحولت السرديات إلى التخييل الذاتي والسيرة الذاتية وغير ذلك... بل إن هذا الأنموذج الجامعي للثقافة بات يقدم نفسه باعتباره واجهة الحداثة الثقافية في العالم العربي، بلهاثه وراء الجديد، واستنباته في الجامعات، بسرعة تكاد تضاهي سرعة اندثاره. ولهذا، فإن بعض البلدان التي لا تاريخ تليدًا لها في المجال الثقافي، تعتبر هذه التيارات، التقنية واللسانية والخطابية منها بالخصوص، الأقرب إلى ممكنات تحديثها الثقافي المتأخر، فصارت تستجلب هذه الأسماء الساطعة في هذه المجالات، ومعها تستنبت في محيطها الثقافي والفكري والجامعي أنماطًا للتفكير تنعكس معطياتها على الجوائز التي تخلقها تبعًا لهذا المنظور وفي توافق تام مع معطياته.

في هذا السياق بالضبط، تحول القائمون على هذه الاختيارات، إلى منظرين محليين لها، وهم في ذلك ليسوا في حقيقة الأمر أكثر من مترجمين (بتصرّف) للمصادر التي يعتمدونها. فلا تراهم يؤولونها، بقدر ما يطوّعونها لمحيطهم اللغوي والثقافي. ولعلنا نجد في ما يسمى بالتأويليات أنموذجًا صارخًا على تحويل الهرمينوسيا المعاصرة إلى نظرية فقهية جديدة لها قواعدها في الفهم والتفسير والتأويل كما كان الأمر لدى الفقهاء المسلمين. ولا أدل أيضًا على هذه الضروب من الاختزال، ممّا يحدث في الدراسات الجندرية في عالمنا العربي. فهي في حقيقة أمرها لا تتجاوز ما عرفناه في النظريات النسوية، مع الاختلاف الفاضح بينهما. بل إن "الباحثات" الجندريات العربيات كن في أغلبهن "باحثات" في قضايا المرأة، لهذا فهن يلبسن لَبوس الجندرية مسايرة للتيار الجارف، ويجعلن من فاطمة المرنيسي زعيمة للتيار الجندري في العالم العربي مع أنها في حياتها لم تطالب قطّ بذلك، حتى يجدن مشروعيةً وموطئ قدم لهن. وهن، فضلًا عن هذا، يختزلن الجندر في دراسة النساء، والحال أن النوع يجاوز ذلك بكثير إلى مُركَّبات وجودية تقع بين الأنوثة والذكورة، تشكل تعبيرًا عن التباس النوع وعن طابعه الثقافي.

هكذا صارت تلك النظريات، وغيرها، أشبه بالرصيد الذي عليه يبني "المثقف الجديد" المقاولة الثقافية المتاجرة بشكل ثلاثي بهذا "الرصيد المعرفي": في الجامعة مع الطلبة، وفي المؤلفات، كما في تصدير المنتج في صيغته العربية، بعد أن استوردته في صيغته الأصل. وهكذا انتقلنا من صيغة المثقف الحديث، الذي كان منذ الثلاثينيات يبني منظوره على البعد النقدي، إلى المثقف الذي يبني وجوده على أفكار الآخرين، ويستعيدها ويسطو عليها، ويحولها إلى بضاعة جاهزة، خالية من البعد الاجتماعي والبعد التاريخي كما من البعد النقدي. وهو طبعًا، ومن هذا المنطق المقاولاتي، يشتغل على الجوائز ويحضر لها تحضيرًا، ويقتنص ما تستطلبه، ويتوقع أفق انتظارها، ويراعي حدودها الحمراء ومكونات البنية الثقافية التي تحيط بها.

من المثقف، إلى الخبير الذي يبيع "خبرته" لطالبيها، مهما كانت مقاصدهم ومراميهم الثقافية والاجتماعية والسياسية، إلى المقاول الثقافي الذي يستثمر معارف ناصعة بالجدة، أضحت الثقافة العربية تفقد منذ عقود مفهوم المثقف الفاعل المفكر ذي المشروع الثقافي والأدبي والفكري، لتعوضه بكيانات أرخبيلية همها الأساس الشهرة، محمولةً على هوى نرجسية متحولة مع مويجات الجديد الآتي من الآخر. وليس من قبيل الصدفة أن يصدر أحد أعمدة هذه "المعرفة الجديدة" مقالًا، منذ أيام قليلة، يقترح فيه إنقاذ دراسة الأدب بالدعوة إلى الخروج من التخصص وممارسة نقد إبداعي متعدد المعارف، وإلى كتابة موجهة للقارئ العام وغير منغلقة في ترسانتها النظرية، وإلى النظر للأعمال الأدبية في بُعدها الإنساني لا المعرفي الخالص... إنه اعتراف بانسداد الأفق، وإحساس خانق، من أصحاب هذه المنازع، بأفول هذه المعرفة التقنوية الشغوفة بنرجسيتها المفاهمية، والحرونة على مرجعياتها النظرية. بل هو اعتراف بلوبيات تتاجر بشكل أو بآخر ببضاعة ثقافية تنتج كُتّابا كسيحين لا خيال فكريًا لهم ولا ذكاء ثقافيًا يميز كتبهم الضخمة، التي لو ترجمناها للغة أجنبية لَأفصحت عن ثرثرتها الفارغة ولَكشفت عن مصادرها كلها بدون حجاب..   

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.