ستة عقود مرّت منذ أن أصدر غسان كنفاني روايته الأشهر (وفي رأيي الأهم) "رجال في الشمس"، جرت خلالها مياه كثيرة في نهر قضية فلسطين وأهلها، أولئك الذين قدمت الرواية ممثلي ثلاثة أجيال منهم، تمامًا مثلما جرت مياه كثيرة في حقل الرواية الفلسطينية التي ازدهرت وباتت تمتلك وجودها الواسع والمتشعب نسبيًا، والذي انتمت له أجيال جديدة حمل كل واحد من كتابها رؤاه وأفكاره ومخيلته.
هي أهم الركائز الإبداعية التي جعلت مبدعها غسان كنفاني يحتل مكانته في "ثلاثة أركان الرواية الفلسطينية" مع الراحلين جبرا إبراهيم جبرا وإميل حبيبي، أو كما وصفهم الناقد الراحل فاروق وادي "ثلاث علامات في الرواية الفلسطينية" مثلما هو عنوان كتابه الشهير والهام.
كنت في مقدمة مقابلة صحافية أجريتها مع الأديب الراحل إميل حبيبي ونشرت في مجلة "الحرية" الفلسطينية عام 1987 قد قلت إن حبيبي كتب في "المتشائل" حكاية الفلسطينيين الذين بقوا في وطنهم في حين كتب غسان كنفاني في "رجال في الشمس" حكاية الفلسطينيين الذين هجروا من وطنهم إلى اللجوء والشتات، وأعتقد أنني إلى اليوم أنتمي لتلك الإشارة التي كفلت لهذين العملين الروائيين مكانتهما التي لا تتزعزع.
قوام الرواية هو منذ البدء اعتماد الكاتب على رسم سرديته في إطار لوحات رشيقة ومتقنة فنيًا، وأعتقد أن غسان كنفاني أسس أدبه القصصي والروائي عمومًا على أهمية البناء الفني وتنكب عن الركون لقوة القضية فالقضية العادلة كما قال مرة تحتاج للتعبير عنها بأدب رفيع وراق يمكن أن يقدمها لقرائها في صورة جميلة.
"رجال في الشمس" رواية كان منطقيًا ومفهومًا أن تكون شخصياتها ذات بعد رمزي يجسد دورًا فرديًا في الحياة، ويشير في الوقت ذاته إلى وعي خاص بفئته الاجتماعية وخصوصيته العائلية. و"رجال في الشمس" هي أيضًا تراجيديا المصير الصعب لثلاثة من الرجال داهمتهم النكبة ودفعتهم مآلات عيشهم البائسة للرحيل وراء وهم الخلاص الفردي فساقتهم أقدارهم لركوب "خزان الموت" الذي يحشرهم فيه رابعهم "قائد" رحلتهم "أبو الخيزران"، الرجل الذي عاد من حرب النكبة بإصابة حرب أفقدته رجولته، والذي يرمز في الرواية للقيادة الفلسطينية عام 1948 بعجزه وقلة حيلته التي أوصلتهم إلى الموت مختنقين بفعل حرارة الصيف اللاهبة على أبواب الخليج ولم يجد ما يفعله سوى أن يصرخ بضحاياه الثلاثة بجنون: لماذا لم تدقوا جدران الخزان؟
وكما تقوم بنائية شخصيات الرواية على رمزية تحيل كل واحد من أبطالها إلى جيل وإلى ماض اجتماعي محدد تركوه خلفهم قبل رحيلهم عن فلسطين، نرى غسان كنفاني يعود للترميز من خلال السرد الروائي ذاته: يأخذ الرجال الثلاثة استراحة قصيرة عند "شط العرب" فيعود "أبو قيس" بذاكرته إلى يافا وبالتحديد إلى حيث كان يقف تحت نافذة مدرسة ابنه حين سمع"المعلم سليم" يردد لتلاميذه جملة تقول "حين يلتقي النهران الكبيران دجلة والفرات يشكلان نهرًا واحدًا عظيمًا يسمى شط العرب"، وحين يهم الرجال الثلاثة بالنهوض بعد استراحتهم القصيرة ويقول إنه يريد قليلًا من الهواء يجيبه "مروان": حصتك من الهواء ظلت هناك.
في الرواية صدمة ذهول الفلسطينيين من واقعهم الجديد التي جعلتهم "يسكنون في الماضي" كنوع من رفض سلبي للواقع المأساوي الجديد، وعلى ضوء هذا يقدم الكاتب الشهيد موشورات اجتماعية لأحلام الفلسطينيين الصغيرة واليومية بل وحتى الآنية التي تصبح كل واحدة منها ذروة بعيدة المنال، وسنرى كثيرًا من هذا في ضيق المساحة الإنسانية التي يعيشون فيها والتي تجعل كل واحد منهم يذهب بعيدًا في أحلامه لتحقيق ما هو عظيم وغير متخيل بالنسبة له ولو كان في الواقع آمالًا صغيرة لا ترقى إلى مستوى الحلم.
أحد أهم مشاهد الرواية وأبرزها بل وأكثرها ترميزًا ووضوحًا في الوقت ذاته هو مشهد الحوار السوريالي بين سائق الصهريج "أبو الخيزران" وموظف الحدود الذي يستوقفه ليحدثه عن الراقصة "كوكب" في أحد ملاهي مدينة البصرة العراقية ويطالبه بأن يحكي له مغامراته العاطفية والجنسية معها، وهو الفاقد كليًا لقدراته الجنسية والمضطر لحجب هذه الحقيقة عن الآخرين.
هي أجواء سنوات خمسينيات القرن الماضي حيث التجمعات الفلسطينية تعيش حالة التململ وبدايات البحث عن الذات تمهيدًا للبحث عن الوجود العام، وسنرى براعة كنفاني في تقديم مشاهد تلك التراجيديا حيث فسيفساء اللوحة الاجتماعية تضمر الكثير من التناقضات وحتى الأوهام تمامًا مثلما تضمر الكثير من البراءة والنقاء والأحلام في التعامل مع المفاهيم الكلية والشعارات العامة، فكما كان البشر من أبطال الرواية هم في قلب السرد الروائي رأينا الصحراء تمثل بحضورها صورة "الغول" الذي يتربص بمصيرهم ويلاحقهم بلهيبه.
في حديث لي مع المخرج الراحل توفيق صالح قال لي إنه سأل غسان كنفاني عن مصير سؤال الرواية لماذا لم تدقوا جدران الخزان؟ بعد أن دق الفلسطينيون تلك الجدران بكفاحهم المسلح وهو سؤال ينطلق من الفارق بين زمن صدور الرواية 1963 وزمن تصوير الفيلم 1972 فاقترح عليه غسان حلًا إخراجيًا رائعًا يقوم على جعلهم يدقون جدران الخزان فيما يعلو هدير أجهزة التكييف في مكتب الحدود ويغطي عليه، وكان ذلك أشبه بملحق للرواية.
"رجال في الشمس" كانت بداية رحلة كنفاني مع الواقع الفلسطيني المقاوم بعد ذلك خصوصًا من خلال روايتيه الهامتين "عائد إلى حيفا" و"أم سعد"، مثلما كانت دفعًا إيجابيًا للحركة الإبداعية الروائية الفلسطينية في فلسطين وفي الشتات على حد سواء، وهي إلى اليوم حاضرة بقوة في الحياة الثقافية الفلسطينية ليس باعتبارها رواية رائدة وحسب، ولكن أيضًا بوصفها مستمرة وحيّة وحاضرة في قراءات أبناء الأجيال الجديدة من الكتاب والمثقفين عمومًا، فهي بعد ستة عقود على صدورها أيقونة جميلة ومؤثرة تحكي عذابات الفلسطينيين في شتاتهم وتلهمهم في بحثهم الحثيث عن مواصلة التأكيد على الرواية الفلسطينية للصراع باعتبارها الأساس الذي يقوم عليه أي سعي نحو تحقيق قيامتهم في وطنهم.