}

"عيون في غزة": كأن الزمن يستنسخ نفسه ويفيض

يوسف الشايب 4 يناير 2024


خلال 22 يومًا من العدوان الإسرائيلي على الفلسطينيين المحاصرين في قطاع غزة، في نهاية عام 2008 ومطلع عام 2009، استشهد أكثر من 1400 فلسطيني، من بينهم مئات الأطفال، فيما أصيب أكثر من خمسة آلاف بجروح.

في تلك الأيام كان الطبيبان النرويجيّان مادس جلبرت وإيريك فوسا يعملان على مدار الساعة، مع زملائهم الفلسطينيين في مستشفى الشفاء، وكانا الشاهدين الوحيدين من الغرب على الفظائع التي ارتكبت هناك، وهو ما يرويانه في كتابهما "عيون في غزة" الصادر عن دار الشروق للنشر والتوزيع في عمّان ورام الله، بترجمة لزكية خيرهم.

في الكتاب يروي جلبرت وفوسا تجربتهما في أيام العدوان، ويقدّمان شهادتهما عن المرضى الذين عولجوا، وعن العمل الطبي الشاق في المستشفى خلال الحرب، كما لم يهملا الحديث عن عواقبه الرهيبة، ليوصلا إلى العالم ما كانا يشاهدانه في القطاع المحاصر، الذي اخترقاه بصوتيهما عبر "عيون في غزة"، في وقت لم تكن تسمح فيه سلطات الاحتلال للصحافيين من الاقتراب من أي مكان كان يتعرض فيه أهل غزة لإبادة جماعية، لذا كان الكتاب هذا بمثابة ضوء ساطع، بل شديد السطوع، مُسلطًا على وحشية ما حصل.

ويشير المؤلفان في مقدمة الكتاب إلى أنه يتحدث "عن الهجوم الإسرائيلي العنيف على قطاع غزة في شتاء 2008- 2009 كما عايشناه"، مؤكديْن على أن "الهجمات الإسرائيلية كانت واسعة النطاق على المؤسسات الفلسطينية والمدنيين، هي هجمات كانت الأكثر وحشية في تاريخ الفلسطينيين الحديث، ليس أقلّه أن الهجوم كان مُوجهًا ضد الأطفال في غزة، قتل فيه أكثر من ثلاثمئة طفل، وسقط أكثر من 1600 جريح، وهو هجوم جاء بعد أكثر من عامين من الحصار واسع النطاق، وإفقار الفلسطينيين في قطاع غزة، فلفترة طويلة قبل وقوع الهجوم، منعت إسرائيل بطريقة منهجية العاملين في المجال الطبّي أو الصحافيين الغربيّين من الدخول إلى غزة"، قبل أن يكشفا: "تمكّنا من الوصول إلى غزة من مصر ليلة رأس السنة، أو قبل ساعات من بدء عام 2009، وكان اليوم الخامس من الهجوم".

وسرعان ما اكتشف الطبيبان النرويجيّان أنه لم يكن هناك إلا القليل من الأوروبيّين في قطاع غزة، ولم يكن هناك صحافيون غربيّون أيضًا، ولا أي شخص يجرؤ على أن يقف ويخبر العالم عن الانتهاكات الإسرائيلية.

الطبيبان مادس جلبرت وإيريك فوسا لدى عودتهما من غزة إلى أوسلو (Getty, 12/1/2009)


"بالإضافة إلى عملنا كطبيبين في مستشفى الشفاء، كان من واجبنا أن ننقل للعالم ما شهدناه، فقدمنا تقريرًا عن تلك المعاناة الرهيبة، وعن أولئك الجرحى الذين عالجناهم، وعن المأساة التي خلفها الهجوم والحصار الإسرائيلي المفروض على غزة، كما أبلغنا العالم عن الشجاعة والإباء لدى الفلسطينيين كزملاء وأصدقاء ومرضى، في فلسطين، حيث سمح لنا أهلها أن نكون جزءًا من معاناتهم الأليمة، وشاركناهم في أعيادهم ومناسباتهم السعيدة أيضًا".

وعاش كلّ من جلبرت وفوسا الهجوم على غزة كطبيبين وشاهدي عيان في المستشفى الأكبر في القطاع، فلم يريا كل ما كان يحدث في الأماكن المختلفة بطبيعة الحال، ولكن في وقت لاحق أدركا مستوى "الوحشية، ودرجة الغطرسة التي أثارت غيظنا، من خلال الوقائع التي قدمها الصحافيون ولجان التحقيق"، مؤكّديْن أنهما وصفا تجاربهما في غزة "بموضوعية، وبأكبر قدر ممكن من الدقة"، لافتين إلى أن كتاب "عيون في غزة" بُني على "ملاحظات من دفاترنا الخاصة، واليوميات والصور وتسجيلات الفيديو والمحادثات خلال الزيارة"، وبعد فترة قاما بعمليات البحث الدقيق في وسائل الإعلام ومصادر أخرى، بحيث "عولجت صورنا التوثيقية إلى أقصى حد، واتبعنا قواعد الصحافيين في استعمالهم لبرامج معاملة الصور، كما تحققنا من الأسماء والأحداث، على قدر الإمكان، كما حصلنا على تصريح خطّي للسماح بنشر صور المرضى والعاملين في المستشفى... وشجّعتنا معظم العائلات كثيرًا على استخدام الصور".

توزع الكتاب على ستة عشر فصلًا مناصفة ما بين جلبرت وفوسا، بدأها الأول بحكاية جمانة، ابن التسعة أشهر، التي تابع حالتها منذ الخامس والعشرين من يناير/ كانون الثاني 2009، حين وصلت إلى المستشفى "شاحبة، شعرها أجعد، وبالكاد يمكن إيقاظها من التخدير، وكانت ترفع ذقنها بلطف، حيث كانت مستلقية على ظهرها، حتى تتمكن من التنفس بسهولة".

وعرّج جلبرت للحديث عن مأساة عائلة سموني، التي تحولت بعد تسع سنوات، أي في عام 2018، إلى فيلم وثائقي أجنبي رافق المجزرة التي طاولت جلّ أفراد العائلة، وحصد العديد من الجوائز العالمية، وعرض مؤخرًا ضمن عروض "يلّا غزة" (فعالية سينمائية تضامنية لمخرجين أجانب) في رام الله، كون جمانة هي واحدة من عديد ضحايا ومصابي هذه العائلة، مستذكرًا: شيئًا فشيئًا جاءت التفاصيل المروعة لمذبحة أسرة السموني، والتقى بجدتها لوالدها، التي أخبرته بأن العائلة كلها أجبرت على المكوث في منزل كبير، خلال يوم الرابع من يناير/ كانون الثاني 2009... ما يقرب من مئة من النساء والأطفال والرجال من جميع الأعمار، كان عليهم أن يمكثوا في المنزل طيلة الليل من دون طعام أو شراب... كانوا أشبه برهائن للقوات البرية الإسرائيلية التي كانت تتخذ موقعًا عسكريًا بالقرب من المبنى، باكرًا في صباح اليوم التالي، قصفت القوات الإسرائيلية المنزل، وكان القصف عنيفًا، ما أدى إلى انهيار المنزل، وإلى وقوع العديد من الشهداء والجرحى، بحيث استشهد والد جمانة وجداها لأمها، كما قتل العديد من أفراد أسرتها، لكن أم جمانة وعمها استطاعا الفرار، غير أن العم اعتقل من قوات الاحتلال الإسرائيلية، واختفت أم جمانة، وبقي الجميع يبحث عنها.

وتحت عنوان "وسط وابل من القنابل"، تحدّث فوسا عن مغامرة الدخول إلى قطاع غزة عبر القاهرة، حيث كانت المحطة الأولى في مركز الهلال الأحمر الفلسطيني في مستشفى هيليوبوليس في القاهرة، وكيف هز انفجار ضخم سيارتهم بينما كانوا في الجانب المصري من معبر رفح، فاستدار السائق مسرعًا بينما تواصل إلقاء القنابل الإسرائيلية خلفهم، لينقلنا إلى فصل جديد حول البيروقراطية المصرية، وصعوبات الدخول، رغم تدخلات السفارة النرويجية في القاهرة، ليختم "أخيرًا عبرنا آخر حاجز للنقطة الحدودية في رفح، وها نحن في غزة، ومن خلفنا جنود مصريون مع كلابهم خلف التحصينات والأسلاك الشائكة، ومن ثم اتجهنا شمالًا باتجاه مدينة غزة في  سيارة إسعاف فلسطينية مع أحد رجال الإسعاف ليلة رأس السنة مودعين 2008 ومستقبلين 2009... كانت الشوارع في مدينة غزة شبه خالية، معظم المحلات والمتاجر مغلقة، والمباني المدمرة كانت مكومة على بعضها... في لقائنا الأول مع الحرب ليلة رأس السنة، قتل طبيب أثناء عمله في إحدى سيارات الإسعاف، حيث كان يُحمل خارج المستشفى من قبل عائلته لدفنه".

مادس جلبرت متحدثَا عن كتابه في بيروت (Getty, 19/12/2016)


وفي الفصول التالية تم التطرق إلى كيف لعب الطبيبان النرويجيان دور "الرسول" بين وزيري الصحة في حكومتي رام الله وغزة، فتحي أبو مغلي وباسم نعيم، وقتذاك، وعن دور مؤسسة "نورواك" النرويجية في كل من فلسطين ولبنان، فيما عاد فوسا ليتحدث عن زيارته إلى غزة عام 1994، وعن لقائه وزير الصحة الأول في السلطة الفلسطينية رياض زعنون، وكيف طلب منهم التواصل مع "نورواك" لمرافقة موكب ياسر عرفات في أريحا بسيارة إسعاف جراحية في حال حدث شيء ما، حيث كان يخشى الزعنون "محاولة اغتيال، أو انفجار قنبلة في حشد كبير من الناس في أريحا"، قبل أن يدخل في تحليل لاتفاقيات أوسلو الوليدة متنبئًا بفشلها، وقبلها تم تناول تاريخ الحركة الوطنية الفلسطينية، ما بين صعود حركة حماس، وانكماش دور منظمة التحرير الفلسطينية، حتى استشهاد ياسر عرفات، وصولًا إلى الفصل الأخير الموسوم بـ"مجرمو حرب"، وهو التوصيف الذي وجداه مناسبًا لجيش الاحتلال الإسرائيلي في حربه على قطاع غزة 2008 و2009.

الكتاب، الذي اعتبر أفضل كتاب نُشر في النرويج في عام 2009، يروي شيئًا ممّا عايشه البروفيسور مادس جلبرت أخصائي التخدير، والبروفيسور إيريك فوسا أخصائي جراحة القلب، على مدار ستة عشر يومًا قضياها في غزة، خلال المرحلة الأخيرة من العدوان على القطاع، في ستة عشر فصلًا، وكأنها يوميّاتهما في تلك الأيام العصيبة، وكأنهما قدّما، حينذاك، صرخة مدوية يشوبها الأسى والغضب لعلّهما عبّرا عنها بالقول: "لم تكن ثمة حاجة لتخدير الطفل الذي أُصيب في دماغه، فلم يعد يشعر بالألم،  والطفل الثاني رقد في حالة غيبوبة اصطناعية، وتم حقنه بالمخدر لتسكين الألم، وتمكين جهاز التنفس الاصطناعي من العمل دون مقاومة من جهازه التنفسي، غُطيت عيناه بضمادة كبيرة، على أية حال لم يعد قادرا على رؤية شيء، فقد أصيب بالعمى"، دون أن يعلما أنه وبعد قرابة خمسة عشر عامًا ستأتي حرب إبادة أشد ضراوة، تتواصل منذ قرابة تسعين يومًا، لا مخدّر فيها، ولا أسرّة، فيما أبيدت الكثير من المشافي، وتعرض أغلب من فيها من كوادر طبية، ومرضى، وجرحى، ونازحين، للقتل.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.