منذ أربعة وثلاثين عامًا، وقف مستشار ألمانيا الغربية هيلموت كول بين وزير الخارجية هانز ديتريش غينشر وهانيلور كول والرئيس الاتحادي ريتشارد فون فايتزيكر يلوح من المنصة فوق الدرجات للحشود أمام مبنى الرايخستاغ، في برلين، في اليوم الأول من الوحدة الألمانية في 3 تشرين الأول/ أكتوبر 1990.
وكان الرئيس الاتحادي ريتشارد فون فايتزيكر قد بشّر بدخول معاهدة التوحيد حيّز التنفيذ في الساعة الصفرية يوم 3 تشرين الأول/ أكتوبر من على منصة مبنى بلدية شونبرغ في برلين: "في تقرير المصير الحر نريد أن نكمل وحدة ألمانيا!" لقرع ناقوس الحرية، يتم رفع علم ألمانيا الغربية، "علم الوحدة"، أمام الرايخستاغ. بعد 45 عامًا من نهاية الحرب العالمية الثانية، يتدفق مئات الآلاف من الناس عبر المدينة، إلى بوابة براندنبورغ وإلى بلاتز دير ريبوبليك (ساحة الجمهورية) أمام مبنى الرايخستاغ ويهتفون في اتجاه كول، الذي يعدّ صانع الوحدة، "هيلموت! هيلموت!". حوالي مليون شخص يحتفلون في برلين وحدها. كما يتواجد عشرات الآلاف في الشوارع في مدن أخرى في ألمانيا. هناك احتجاجات وأعمال شغب معزولة. لكن الألمان مرة أخرى في دولة ذات سيادة.
لكن الوحدة الألمانية تؤجّج المخاوف، إلى الآن، في الشرق والغرب. فمع إعادة التوحيد في 3 تشرين الأول/ أكتوبر 1990، تغيّر كل شيء بالنسبة للألمان الشرقيين. صارت حياتهم اليومية ضبابية أو منطقة مجهولة، عندما ينظرون إلى الوراء. بدلًا من إعادة التوحيد أو الانضمام، يتحدّث الكثيرون في شرق ألمانيا - وكذلك في الغرب - عن الاستيلاء أو الضم: لقد ابتلع الغرب جمهورية ألمانيا الديمقراطية، واندمج في النظام الرأسمالي لـ FRG، المصطلح الإنكليزي المختصر لجمهورية ألمانيا الاتحادية. الخوف من فقدان الهوية، ومن عدم الحصول على الرعاية، وعدم القدرة على مواكبة الاقتصاد، أمر كبير. وتسود المخاوف أيضًا في الغرب: فقد تعني نهاية الانقسام الاضطرار إلى الانقسام - ثم التخلي عن التوحيد لاحقًا. هل تنجو دولة المعجزة الاقتصادية السابقة من كل هذا القدر من التضامن المالي؟ على الرغم من كل الشكوك، تم تحقيق الهدف الشامل للوحدة الألمانية مع إعادة التوحيد. هذا سيحيل أي متابع مهتم من دولنا، في المنطقة العربية، التي تعاني من الانقسام، حتى لو كان غير رسمي، إنما هو أمر واقع، كما سورية، على سبيل المثال، إلى أسئلة مصير كثيرة، فأن نكون، أو نصبح شعبًا واحدا في دولة واحدة، يتطلّب أولًا التعرّف على بعضنا بعضًا، أن نقوم بتحطيم وإزالة الجدران في بعض العقول، قبل الجدران الحجرية، كتحطيم جدار برلين قبل خمسة وثلاثين عامًا، في تشرين الثاني/ نوفمبر 1989.
في مقالة بعنوان "الوعي الشرقي الجديد" كتبتها كل من آن فروم وكاترين غوتشالك في جريدة تاز، في 21 أيلول/ سبتمبر 2024، سُلطت الأضواء على هذا الوعي لدى جيل من الشباب ولد قبيل أو بعيد انهيار الجدار، من خلال تجارب شبابية من بينها آنا شتيده، وأوليفيا شنايدر، وتطرحان سؤالًا مهمًا: من أين يأتي هذا الوعي بالشرق بين الناس الذين ولدوا قبل، أو حتى بعد سقوط جدار برلين؟ وما الذي يجعله لافتًا؟
تقف آنا شتيده في بدلة رائد فضاء في فناء خلفي في شتراوسبرغ وتبدأ في البكاء. ستفتتح معرضًا هنا اليوم تحت عنوان: "هل انتهى سقوط جدار برلين؟"، يعرض مقابلات مع مواطنين سابقين في جمهورية ألمانيا الديمقراطية حول تجاربهم في سقوط جدار برلين، وحول العنصرية والنزاعات العمالية والبطالة. تم الإعلان عنها على أنها "ورشة عمل للذاكرة"، وهي مزيج من أبحاث العلوم الاجتماعية والفن. أمام ما يربو الأربعين فردًا يجلسون على كراس بلاستيكية في مساء يوم من الشهر المنصرم، أيلول/ سبتمبر، وقفت شتيده وقالت: "لقد انتهينا للتو من الانتخابات في ساكسونيا وتورينجين"، ثم ينكسر صوتها. انهمرت دموعها، وتراجعت. فورة عاطفية عفوية لم تستطع كبحها. بقدر ما أثرت عليها نتائج الانتخابات الأخيرة في تورينجن وساكسونيا أخيرًا، تقول آنا شتيده: "نحن الجيل الأول الذي يمكن أن يفخر بكوننا ألمانًا شرقيين".
أما أوليفيا شنايدر، وهي مؤثرة "شرقية" كما تعرّف نفسها في قناتها على يوتيوب التي يتابعها فيها 27 ألف متابع، فهي تقوم بطهي وصفات من المطبخ في جمهورية ألمانيا الديمقراطية، تتبادل شنايدر ذكريات الطفولة مع أصدقاء من ألمانيا الشرقية وتلاحظ أنهم يتشاركون ببعض التجارب. على سبيل المثال، الأساليب التربوية: "كان على الجميع الانتهاء من تناول الطعام، ثم النوم في وقت محدّد". أدركوا أن طعام طفولتهم كان مختلفًا عن طعام أصدقائهم الألمان الغربيين. "لم أكن أدرك حتى أن صلصة الطماطم الحلوة هذه كانت وصفة حقيقية"، تقول شنايدر بمرح. تتكون الصلصة بشكل أساسي من معجون الطماطم والكاتشب، ويمكنك العثور عليها على الإنترنت اليوم على مواقع الوصفات المختلفة: "صلصة الطماطم مثل مطبخ مدرسة جمهورية ألمانيا الديمقراطية".
تقول شنايدر: "لا يوجد حزب آخر يعرف كيف يستخدم قضية ألمانيا الشرقية مثل حزب البديل من أجل ألمانيا، فخلال حملته الانتخابية، وضعت لافتات كتب عليها ‘الشمس تشرق من الشرق‘". على ملصق، يركب زعيم حزب البديل من أجل ألمانيا في تورينغن "بيورن هوك" دراجة سيمسون (وهي دراجات كانت تصنعها شركة سيمسون منذ الرايخ الثالث وكانت تمتلكها عائلة يهودية، تم الاستيلاء عليها في الحقبة النازية، ثم صارت الاسم التجاري للدراجات المصنّعة في ألمانيا الديمقراطية)، مكتوب عليها "نعم للشباب!". والنتيجة أصبح حزب البديل من أجل ألمانيا أقوى قوة بين الأشخاص الذين تتراوح أعمارهم بين 18 و24 عامًا، كما يقول عالم الاجتماع دانيال كوبياك.
لقد لاحظ علماء الاجتماع، منذ سنوات، أن وعيًا شرقيًا جديدًا قد ظهر. كتب عالم الاجتماع شتيفن ماو في كتابه الجديد "متحدّون بشكل غير متساوٍ" Ungleich vereint أن خطابات الهوية الألمانية الشرقية لم تعد تحدث فحسب تحت أنقاض حزب اليسار، بل اخترقت الأدب والمسرح وملاعب كرة القدم والندوات الإدارية، ولا ينطبق ذلك على الأجيال التي عاشت في جمهورية ألمانيا الديمقراطية وحسب، إنما "حتى في جيل ما بعد إعادة التوحيد، يرى الكثيرون أنفسهم كألمان شرقيين، ويلاحظون اختلافات بين الشرق والغرب لم يعد يلاحظها الألمان الغربيون".
هذا الوعي بالمشاكل التي أصبحت ظاهرة لافتة للنظر، يتناولها الأدب والثقافة بشكل عام. ألّف الصحفي الألماني "فاليري شونيان" الذي يعمل في صحيفة "زيت"، ومولود في ولاية سكسونيا أنهالت عام 1990، كتابًا تحت عنوان Ostbewusstsein "الوعي الشرقي"؛ سلّط الضوء فيه على هويته الألمانية الشرقية عندما كان طفلًا بعد سقوط جدار برلين. حاول أن يبحث عن إجابات لسؤال حول ما لا يزال عليه الشرق اليوم، ويصور جيلًا من أطفال ما بعد إعادة التوحيد الذين لا يزال لديهم وعي بالاختلافات بين الشرق والغرب - وعي شرقي. أجرى شونيان أيضًا مقابلة مع عائلته وتعرّف عليها فجأة، من منظور ألمانيا الشرقية. لقد قدّمت جمهورية ألمانيا الديمقراطية حياة جيدة للكثيرين الذين شاهدوا، بعد الثورة السلمية، اختفاء البنية التحتية والوظائف، ونظر المواطنون الجدد إليهم بازدراء.
وبالعودة مرة أخرى إلى كوبياك، فهو يرى أن الشباب الألمان الشرقيين يستمدون وعيهم بالشرق في المقام الأول من تجاربهم بعد إعادة التوحيد، وتجاربهم الخاصة، ولكن أيضًا من قصص آبائهم. البطالة وانعدام الأمن والمؤهلات التعليمية غير المعترف بها - أدّى ذلك إلى التضامن مع جيل الآباء. هذا ما أشارت إليه أيضًا آنا شتيده، التي لديها صالون "آمن" - مكان يمكن فيه النقاش بين الألمان الشرقيين دون الحاجة إلى شرح أنفسهم، فقد ذهبت إلى إيطاليا في أثناء دراستها في الفترة التي واكبت الأزمة المالية العالمية 2008، وهي التي عاشت في تورينجن خلال تسعينيات القرن الماضي، هناك تبدأ في التعامل مع تاريخها في ألمانيا الشرقية. تقول: "لقد أذهلتني النزاعات العمالية في شمال إيطاليا". تتجول في المصانع المتداعية، وتصور الأنقاض وتجري مقابلات مع الشهود المعاصرين. "كلما تعاملت معها أكثر، أصبح من الواضح بالنسبة لي أن هذه القصص ليست بعيدة عن جمهورية ألمانيا الديمقراطية"، فلقد شهدت عائلتها في الماضي حالات مشابهة، عمل جدها في مصنع VEB للسيارات في أيزناخ. عندما استحوذت أوبل على مصانع أيزناخ في عام 1990 وأنهتها شركة تروهاند في عام 1991، ساعد جد شتيده في تنظيم الإضرابات. فقد 4500 موظف وظائفهم في ذلك الوقت، كان جدها واحدًا منهم.
جيني إربينبك، المخرجة المسرحية والروائية الحائزة جائزة البوكر في دورتها الأخيرة عن روايتها "كايروس"، والتي ولدت في ألمانيا الشرقية وكان عمرها 22 عامًا لحظة سقوط الجدار، لمست هذه القضية، وتناولتها في أعمالها، خاصة روايتها الفائزة، تقول في أحد حواراتها الصحافية: "أنا أؤيد إنهاء هذا التفكير بالأبيض والأسود حول جمهورية ألمانيا الديمقراطية". ما يعني أنه آن الأوان لتقليب المشكلة من مختلف الوجوه وليس بطريقة أحادية، أو صارمة: إما أبيض أو أسود. فبعد سنوات عديدة، حصل أن الجميع قد شاهدوا فيلم "حياة الآخرين" وأن الشيء الوحيد الذي يعرفونه هو أنه كان هناك جهاز Stasi في جمهورية ألمانيا الديمقراطية، وأنه كان هناك جدار في جمهورية ألمانيا الديمقراطية، خطر لي أيضًا أن التصوّر يمكن أن يكون أكثر تعقيدًا بعض الشيء. لا أعني بذلك أن تحجب الأشياء السلبية التي كانت موجودة بالتأكيد في جمهورية ألمانيا الديمقراطية، ولكن ببساطة عليك أن تنظر إلى كل شيء. لا يمكنك أن تقول فحسب إنه كان مجتمعًا يتسم بالإرهاب بشكل دائم. هذه ليست الطريقة التي تصورت الأمر بها. وهذا ليس ما أدركه العديد من أصدقائي، أعتقد أنه يمكنك استبيان الصورة قليلًا، أي أن يكون لديك إدراك أكبر. لقد كتبت كتابها كايروس على أساس الوعي العميق بالأزمة. لقد سقط الجدار فاختفى كل ما له علاقة بالحالة التي نشأت عليها. أتتهم الحرية؟ لكن ما كان الثمن؟ قالت ذات مرة: الحرية لم تُمنح لنا، لقد كان لها ثمن هو حياتي كلها حتى الآن. وكتابة هذا أو الحديث عنه ليس له علاقة بالاستخفاف، أو التعظيم، إنها ببساطة المهمة النبيلة للأدب، إنها هبة الأدب، الحفاظ على ما اختفى. فهي عن طريق بطلة روايتها "كاتارينا" ما كان مألوفًا هو في طور الاختفاء، الجيد كما السيء هو مألوف، وأيضًا المعيب، وهو عزيز على كاتارينا، ربما لأنه الأقرب إلى الحقيقة.
على المقلب الآخر، فإن عالمة الاجتماع في برلين "نايكا فوروتان" صاغت أطروحة مفادها أن الألمان الشرقيين هم في نهاية المطاف مهاجرون أيضًا إلى حدّ ما، لقد فقدوا وطنهم، ويشعرون بالغربة في مجتمع الأغلبية، ويعانون من انخفاض قيمة العملة. تعرّضت فوروتان لانتقادات شديدة بسبب هذه الأطروحة، بعد كل شيء، الألمان الشرقيون، على الأقل الألمان الشرقيون البيض الذين يحملون اسمًا ألمانيًا، ليس لديهم تجربة جوهرية: فهم لا يعانون من العنصرية.
الهوية تشبه الكائن الحي، هي تتشكل جنينية ثم تنمو وتكبر وتتطور، هي ملتصقة بعمر الفرد كما عمر الجماعة، هذا لا يعني التقوقع ضمن مجال ضيق يختاره الشخص، أو حيز محدود منها، إنما يعني انها واقع وحقيقة إن جرى طمسها او محاصرتها سوف تشكل مشكلة حقيقية. هذا ما عشناه وعايشناه لعقود، وربما قرون في مجتمعاتنا وتحت سيطرة أنظمتنا السياسية والدينية والمجتمعية ومنظومة أعرافنا وقيمنا، فأدى هذا التمييز وغياب المساواة بين شرائح المجتمع، على أساس عرقي أو قومي أو ديني او مذهبي أو جندري، إلى خلق مجتمعات تحمل بذور تهتكها وانهيارها في أعماق تركيبتها، وهذا ما كشفت عنه الاضطرابات الكبيرة في معظم الدول، والحروب والأزمات التي جعلت من الانقسام المستتر انقسامًا واقعًا وحقيقة لا يمكن نكرانها، فكيف سيتحقق أمر "لم الشمل" الذي كان ممزقًا في الأساس، وإعادة توحيد المجتمعات من دون خلق وعي بالمشاكل والعثرات والأسباب التي تراكمت تاريخيًا فأنتجت هذا الوضع؟ لو قارنا وضعنا المتخيّل بالنسبة للمستقبل، بالمشكلة الحالية التي تظهر في المجتمع الألماني، فسيكون الأمر صعبًا لناحية علاجه وتنقيته وترتيبه كما يجدر بشعوب ترنو نحو حياة مستقرة ومزدهرة، فالشعب الألماني لديه تاريخ طويل وعريق، ولم تكمل فترة انقسامه في دولتين نصف القرن، ومع هذا ظهرت مشكلة الاندماج ومعوقاتها، وما ينقصها أيضًا كي تساهم في ترسيخ عودة الوحدة للشعب الألماني.