}

الشائعة "الرقمية" في خدمة السياسة

سوسن جميل حسن سوسن جميل حسن 16 أغسطس 2024
هنا/الآن الشائعة "الرقمية" في خدمة السياسة
مواقع التواصل أداة فاعلة في التأثير بالوعي العام وصناعته(Getty)

يقول وزير الدعاية في الحكم النازي غوبلز: "اكذب، ثم اكذب حتى يصدقوك". وهناك قول ينسب إلى مارك توين جاء فيه: "لقد سافرت الكذبة حول الأرض ثلاث مرات قبل أن تلتقط الحقيقة حذاءها". أمّا "الإشاعة" فهي تعني بأبسط تعريف "خبرًا غير موثوق فيه ينتشر بين الناس". فماذا نقول عن هذه الأخبار غير الموثوقة، وعن الكذب الذي ينهمر كالزخّات الغزيرة في مواقع التواصل الاجتماعي، وفي المنصات التي باتت لا تعدّ في عصرنا الحالي؟
باتت مواقع التواصل فاعلة إلى حدّ كبير، ليس في إشعال الوضع تجاه أي قضية فحسب، وإنما أداة فاعلة في التأثير بالوعي العام وصناعته، تحضيرًا لصياغة رأي عام وتأجيج مواقف حادة وقت اللزوم. قد لا يحتاج الأمر إلى أكثر من إطلاق إشاعة ما، أو خبر ملفق أو غير موثوق في مواقع التواصل الاجتماعي.
في الاضطرابات الأخيرة التي تشهدها مدن عديدة في بريطانيا، على خلفية جريمة بشعة أواخر الشهر الماضي في مدينة ساوثبورت في هجوم على مدرسة رقص، نجم عنها قتل ثلاث فتيات صغيرات وإصابة غيرهن بجروح منها خطرة، طعنًا بالسكين، شاهدٌ حيّ على خطورة الإشاعة، وخطورة ما وصل إليه العالم من عنصرية تجاه بعضه بعضًا.
شخص يقيم في منتجع سياحي في قبرص لديه آلاف المتابعين، ينشر على موقع "إكس" سلسلة تعليقات تحريضية، كان محظورًا على الموقع بسبب منشوراته التحريضية والعنصرية، وتم رفع الحظر عنه في تشرين الثاني/ نوفمبر الماضي. المشتبه به، بحسب تقارير الشرطة، قاصر مولود في مدينة كارديف، ليس مسلمًا، ولكن قبل أن تكشف الشرطة عن اسم المشتبه، كانت مواقع التواصل الاجتماعي غرقت بالأخبار الكاذبة التي تزعم بأن الجاني لاجئ مسلم وصل إلى بريطانيا على متن القوارب غير الشرعية. وما جرى بعد ذلك من أعمال شغب واعتداء على الملكيات العامة والخاصة تابعناه جميعًا، وتابعنا الاعتداء على كثير من المسلمين والمهاجرين في مدن عديدة.
هل كان من المحتمل أن تنفجر هذه الفقاعة من الكراهية والعنصرية بهذه الطريقة، في بلد أوروبي في عصر القيم والحقوق الإنسانية، لولا ازدياد شريحة المؤيدين للأحزاب اليمينية، وتبني خطابها؟ وهل كان الموقف من المهاجرين والمسلمين سيبلغ هذه الحدة لولا تنامي خطاب قسم من الطبقة السياسية الكاره للمهاجرين والرافض للهجرة، وتضخيم ظاهرة الإسلاموفوبيا؟ سؤال يحتمل التفكير فيه.
لم تكن الأمور هكذا في القرن الماضي، وبعد نهوض أوروبا من نتائج الحرب العالمية الثانية، فأوروبا التي تعلمنت وتحوّل فيها الصراع السياسي من صراع ديني مذهبي، إلى صراع أيديولوجي سياسي، بين أحزاب اشتراكية وأخرى ليبرالية، في مناخٍ من الديمقراطية السياسية والاجتماعية، لكن ما يشهده العصر الراهن ينبئ بتغيرات تهدد حتى الديمقراطيات الأوروبية، وليس صعود اليمين المتطرف سوى دليل على هذا التحول، والأخطر فيه هو تنامي النزعة العنصرية والخطاب الكاره للآخر، غير الأوروبي، وأحيانًا غير المحلّي، هذا الصعود لم يكن ليحدث لولا ازدياد وتنامي شريحة المؤيدين لهذه الأحزاب، وبالتالي يتبنون أفكارها، وتلاقي صدى في نفوسهم.





عندما قال غوبلز "اكذب، ثم اكذب حتى يصدقوك"، كان يعي قيمة هذه الفكرة الخبيثة، ويطبقها في دعايته، فصناعة وعي عام يعد لبنة أساسية في حشد الجماهير لتصبح جاهزة لتلقف أي فكرة تدعم ما تعلمته وآمنت به، ليس المواطن الأوروبي من كوكب آخر، أو طينة أخرى غير التي جبل منها أفراد بقية الشعوب، فهو جاهز، في أعداد متزايدة، إلى تبني الأفكار بشكل عضوي وممارستها سلوكًا متعصبًا وعنصريًّا، لكن لا يمكن في الوقت نفسه إغفال الديمقراطية ودورها في ضمان حق كل فرد في أن يكون له رأيه وموقفه، لذلك نرى أن مظاهرات مناهضة لأعمال الشغب والشعارات الكارهة التي رفعت، عمت المدن البريطانية أيضًا. هنا تكمن المفارقة، فنحن في بلداننا ما زلنا بعيدين عن قيم كهذه ومفاهيم تحتاج إلى تكريسها في الوعي العام، وأن تمارس اجتماعيًا أيضًا، الديمقراطية وحرية الرأي والتعبير.

صناعة الوعي العام
هذا المصطلح بالغ الأهمية بالنسبة إلى السلطات كلها، وبمختلف أشكالها، فهو يحدّد الآليات التي بواسطتها يُصنع العقل الجمعي كمنتج اجتماعي، فمَن الجهة المنوط بها هذا الدور؟ لا بدّ أن تكون النخب، السياسية، الاجتماعية، الاقتصادية، الثقافية، والعلمية. ونجاح هذه النخب في هذا الدور مرهون بمدى انخراطها في المجتمع، بمختلف طبقاته، هذا يختلف بحسب نظام الحكم، ففي الأنظمة الشمولية والديكتاتورية، فإن النخب الفاعلة هي التي تسخرها السلطة الحاكمة في سبيل زرع الأفكار التي تحتاجها لدعم حكمها وسيطرتها وزيادة قبضتها على الشعب. أمّا في الأنظمة الديمقراطية فالوضع مختلف، لأن التعدّدية مبدأ أساسي في الديمقراطية، وهدف المجتمعات الديمقراطية هو منع وجود رأي واحد مهيمن، إذ يُفترض مسبقًا حريّة التكوين الفردي للرأي، وإتاحة الفرص في صنع القرار السياسي لجميع المواطنين. يعتمد تكوين الرأي على قيم الناس وحالة الحياة والمعرفة والخبرات السابقة، فهم يشكلون رأيًا حول الشكل الذي يجب أن يبدو عليه المجتمع الذي يعيشون فيه والقرارات السياسية التي يوافقون عليها أو يرفضونها. لكن عصرنا الحالي يولّد أسئلة باضطراد، ومنها هل بقي للإعلام التقليدي، من تلفزيون وإذاعة وصحف، أو حتى المنصات الرقمية الجديدة التابعة لهذا الإعلام، التأثير نفسه في صناعة الوعي وحماية الرأي العام من القوة المهيمنة، أمام استفحال المنصات الرقمية الجديدة وتعزيزها بشكل كبير المساهمة "الفردية"؟

غوبلز: "اكذب، ثم اكذب  حتّى يصدقوك" (Getty) 


لا يمكن إغفال دور الشائعات والأخبار الملفقة في صناعة الوعي العام، هذا الأمر ليس وليد العصر الراهن، فهو قديم في التاريخ، لكن الخطورة الكبيرة في راهننا هو التطوّر الرقمي المتسارع، وتحول الحياة بشكل عام إلى الفضاء الرقمي والأجهزة الذكية، وتمادي الذكاء الاصطناعي عليها بشكل متسارع، واعتماد الجمهور على الوسائط التفاعلية بوصفها مصدرًا للمعلومات، وما يزيد من فاعلية هذه المواقع أو المنصات، ليس شيوعها واتساع رقعة مستخدميها فحسب، إنما في كون مستخدمها لم يعد يكتفي بالتلقي وحسب، بل يساهم في صناعة المحتوى، هذا ما يخلق حالة من ما يمكن تسميته بـ "العصف الذهني" وإذا غالينا قليلًا يمكن القول بـ "العصف العاطفي" الذي يعدّ من أهمّ أسباب ردّات الفعل العنيفة واقعيًا وافتراضيًا. وهناك دور المؤثرين، وما أكثرهم، يكفي أن ينشر إيلون ماسك على موقع "إكس" جملة قصيرة تؤكد بأن "بريطانيا مقبلة على حرب أهلية لا محالة"، حتى يصاب المتابعون بالهلع، بالإضافة إلى ما توفّر هذه المنصات والمواقع من انتشار سريع للمعلومات والمنشورات، جميعها تزيد من خطورة الأخبار الملفقة وغير الموثوقة والشائعات التي تعدّ من الظواهر الاجتماعية السلبية المنتشرة بكثرة، وتعد كذلك من أخطر الحروب النفسية والمعنوية التي تنتشر في ظل أجواء مشحونة بعوامل اقتصادية وسياسية واجتماعية متعددة. ويمكن القول إن من أهم العوامل المؤثرة في نمو وانتشار الشائعات بالمجتمع غياب المعلومات الواضحة والدقيقة في حالات كثيرة، وجهل الغالبية بأهمية المصدر الموثوق والبحث عنه، وتزايد الإمكانية على التزوير والتضليل، وفبركة المشاهد والصور التي لا يمكن لأي جهة رسمية، مهما كثفت جهدها وخبراتها أن تواكبها وتحد منها، ويرى كثيرون أن من الصعب فرض رقابة رسمية على وسائل الإعلام التفاعلية، وذلك بسبب المحتوى الضخم والزخم المعلوماتي المتدفق.




وبحسب غريزة "القطيع" فإن الاهتمام، في ظروف التجييش والحشد، يكون بالمعلومة وليس بمصدرها، مستندين إلى عاطفة مبالغ بها. وكما يقول غوستاف لوبون في كتابه الشهير "سيكولوجيا الجماهير": "ما إن ينخرط الفرد في الجماهير حتى يتغير وينصهر"، والجماهير ليس من الضروري أن تكون على أرض الواقع في وقتنا الراهن، صارت هناك جماهير افتراضية تتلقف المنشورات التي تهيّجها، وهي جاهزة لأن تنزل إلى الشارع مباشرة بمجرد إطلاق الأفكار المضللة والشائعات، إذ لا يمكن أن يحدث هذا التغيير والانصهار من دون أسس، حتى لو كانت غير معلنة، أو موجودة من دون أن ينتبه إليها الشخص، فهي تستبطن لا وعيه، ووعيه أحيانًا، إنما يفرض رقابته عليها إلى مستوى معين، بعدها تنفلت من قفص الرقابة، ويصبح من الصعب عزل السلوك الفردي عن الوسط الاجتماعي – الثقافي المحيط به، وعندما ينخرط الفرد في جمهور محدد، فإن هذه النوازع المبطنة أو الخاملة تنهض من جديد، ويتحطم جدار الخوف، أو الخجل في بعض الأحيان من التعبير عن رأي أو فكرة باتت مستهجنة في اللحظة الراهنة.
في المقابل، تلعب الشائعات والأفكار المضللة دورًا خطرًا أيضًا في حياة المجموعات المهاجرة واللاجئين، فهم لديهم مجموعاتهم الخاصة على مواقع التواصل الاجتماعي، وكثيرون يستقون منها المعلومة، في الوقت الذي ترفض شريحة كبيرة منهم الاندماج في المجتمعات المضيفة، وبالتالي فإن الصراع الثقافي/ الهوياتي بات يتصاعد باستمرار، وهذه أوروبا كلها باتت تضع مشكلة اللجوء في رأس أولوياتها، وتحاول سنّ قوانين جديدة تحدّ من هذه الظاهرة، خاصّة بعدما ازدادت نسبة مؤيّدي الأحزاب اليمينية وصعدت في أكثر من بلد أوروبي إلى أماكن صنع القرار، مع حفظ ماء وجهها واحترام ما أنجزته في مجال حقوق الإنسان وما ضمنته دساتيرها والمعاهدات التي وقعت عليها.
لكن، بمتابعة وضع المهاجرين واللاجئين في أوروبا، فإننا نرى أن الرضوض النفسية باتت تظهر جلية على الأجيال الناشئة، خاصة في عمر المراهقة والشباب، إذ لا يمر يوم في ألمانيا من دون أن نسمع عن جريمة ما، أو مخالفة ما قام بها شباب مهاجرون، وللأسف يزداد عدد السوريين المرتكبين، فتقوم الأحزاب اليمينية وجمهورها بالتقاط هذه الأحداث وتأجيج المشاعر العامة لدى أفراد المجتمع. لقد وجدت إحدى الدراسات أنه لا يزال عدد كبير من الألمان يتلقون الأخبار من وسائل الإعلام التقليدية، ولهم مواقف معتدلة من اللاجئين، لكن لوحظ أنه كلما اقتربت وجهات النظر من المواقف الأكثر تطرفًا، ازداد الطلب على مواقع التواصل لجمع المعلومات، وبالتالي خطر ظهور دوائر الرأي المغلقة.  لم تستطع الطرائق التي اتبعتها الحكومة في ألمانيا، والمبنية على بحوث ودراسات واسعة في علم النفس الاجتماعي، وتطبيق أدواته على المهاجرين واللاجئين، لم تستطع إدماج عدد كبير منهم في المجتمع، ومن يتابع المجموعات التي تنشط على مواقع التواصل الاجتماعي سوف يرى في المقابل حجم الأخبار المغلوطة المتداولة، ولا يخفى أيضًا الخطاب العنصري لدي بعضهم، ما يوسّع دائرة التعصب والانغلاق على الهوية وعدم المبادرة بالاندماج والانفتاح على الحياة الجديدة إلّا في الحد الأدنى.
نعيش في عصر متغير بسرعة وتقنيات فائقة الذكاء والإمكانات، تجعل كل شيء قابلًا لأن يكون ملفقًا ومضلّلًا، تظهر فيه ظواهر جديدة قد لا يسعف الوقت العلوم المختصة لدراستها ووضع خطط وحلول لها، فهذا العصر يتسم بالسرعة التي ترسّخ الشعور بالاغتراب والخوف وعدم اليقين، وتستنهض المشاعر السلبية أمام هذا الحجم المتزايد من القلق الوجودي الذي يمتد على كل شعوب الأرض، وليست أوروبا بمعزل عنه.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.