أمَّا تجربة الكاتبة العمانيَّة جوخة الحارثي والتي تتبلور في عملها الأبرز "سيِّدات القمر" فإنَّها تمثِّل، رغم شكل السرد التقليدي، صميم الفكر ما بعد الحداثي. إذ توظِّف تقنياته وتنحاز للفرد مقابل التاريخ لتفكِّك الخطاب الثقافي من داخله عبر وضع كلٍّ من المركز والهامش في سياق ومضمار واحد أو في الإناء ذاته فيطفو الأخفُّ والأكثر هشاشة وتترسَّب الحقيقة في الأعماق.
وتقوم مجمل أعمال الكاتب المغربي عبد الفتاح كيليطو (الكتابة والتناسخ – الغائب ودراسة في مقامة الحريري، الحكاية والتأويل - العين والإبرة) الزاخرة بالشخصيَّات الدينيَّة والرمزيَّة والأدبيَّة، والأحداث الواقعيَّة والمتخيَّلة، بإزاحة حوادث يوميَّة وحكايات عابرة من هامش المكتوب إلى بؤرته. وفي كتابه "المعرِّي: متاهات القول" فإنَّ حادثة هامشيَّة كهديَّة الفستق بذات الأهميَّة التي لرسالة الغفران. بل إنَّ علاقة المعرِّي بتلميذه التبريزي وكراهية ابن الجوزي له إضافة إلى وساوسه ورقابته على هواجسه، كلُّ ذلك يشكِّل منطلقًا لقراءته من جديد لتنكشف البنى الخلفيَّة أو التحتيَّة التي تبلوَر من خلالها فكر المعرِّي أثناء تأليفه لـ"رسالة الغفران".
ويصاغ المحكي في نصِّ كيليطو - الذي يتَّسم بميله الدائم للسخرية - من محكيٍّ مصنوع بدوره من محكيٍّ آخر، تتغيَّر فيه علاقة المركز بالأطراف. وتتناسخ الحكايات التي وصفها الدكتور الشرقاوي "بمنظومة شمسيَّة من السديم، تتجاذب فيها النصوص وتتنابذ. متوتِّرة بين الحنين إلى الشذرة التي تستجمع، في فرادتها، الوجود وبين التوق إلى الفناء في شكل كلِّي قد يكون هو الرواية". في ميل واضح إلى الهُجنة التي تمتزج فيها الحكاية بالنصِّ الفلسفيِّ والرواية الدينيَّة ونقيضها، في شذرات تخترقها الفوضى لتعيد ترتيب المواقع ولتوجيه الانتباه لتفاصيل تبدو هامشيَّة.
وفي هذا النوع من الكتابة يجد القارئ نفسه مالكًا للسلطة، عبر حريَّة التأويل، أو منحه القدرة على نزع الشرعيَّة عن سرديَّة ومنحها لأخرى، "فيصبح السرد تعبيرًا فكريًّا عن الذات". ولا يؤدِّي هدم المعنى لتفسيرات نهائيَّة. بل يترك الباب مفتوحًا لتعرية نوايا المؤلِّفين وذرائعهم ولحظات ارتيابهم. فيقلب النصَّ ويباغته من حيث لا يحتسب مؤلِّفه نازعًا عنه كلَّ ادِّعاء.
ويرتاب بمن يؤلِّف كتابًا، انطلاقًا من أنَّ الذي يحكي حكاية فهو دائمًا في موقع أضعف. "من سيحسُّ آنئذ بالحاجة لأن يحكي؟ بالتأكيد ذاك الذي يحسُّ بأنَّه الأدنى". وبتحليله لنسق الخطاب في "كليلة ودمنة" نرى ميل الأسد للصمت بينما الآخرون يتكلَّمون ويبرِّرون ويدافعون فـ"الإنسان إذا أعوزته القوَّة يحتاج للحيلة، فالسرد سلاح الأعزل". هكذا يصبح صمت الأسد وهو هامشيٌّ في المرويَّات التقليديَّة، مركز التأويل وقلب الحكاية، ويتساءل كيليطو في – حصان نيتشه - وفي شذرة بعنوان "مجنون ليلى" حول البعد بين العاشقَين، ولا يجد فيه سوى هجر إرادي لا يد فيه للظروف، يظهر فيه المجنون ملقيًا بنفسه في العذاب والألم طواعية، فما الذي منعه عن حبيبته: "إنَّه: حبُّ الشعر ويبدو أنَّ حبَّ الشعر أقوى عنده من حبِّ ليلى".
فتمتزج في نصوصه السيرة الذاتيَّة بتجربة القراءة، في هجنة تنفي فكرة النقاء بمعناها القائم على الأصالة التي يرفضها الفكر ما بعد الحداثي انطلاقًا من أنَّه لا شيء يأتي من لا شيء، ولا عمل قائم بذاته. ولحماية نفسه من عسفِ القارئ؛ يحاور كيليطو المؤلِّفين الأموات، من المعرِّي حتَّى ابن رشد ويختار من الأحداث هوامشها (السمكة عند أبي العبر - الحيَّة عند الحريري - الطفل الذي تلقيه أمُّه في اليمِّ في قصَّة حي بن يقظان).
وفي سياق موازٍ تثير "سيِّدات القمر" للروائيَّة العمانيَّة جوخة الحارثي مسألة علاقة الحاضر بالماضي، وإذ انحازت تجربة كيليطو للهامشي في الإرث التراثي الحكائي، فإنَّ سرد جوخة الحارثي تطرَّق للتاريخ من نافذة الشفاهي واليومي. فتختار بلدة "العوافي" التابعة لسلطنة عمان وعاصمتها مسقط لأحداث روايتها التي يتحدَّد زمنها في النصف الثاني من القرن التاسع عشر. فتُوظَّف الاقتباسات الشعريَّة، والأمثال الشعبيَّة، وطقوس الحياة، والعادات. وتعتمد التقابل بين حدثين لخلخلة الخطاب الثقافي من داخله. إذ الخرافة والأمثال تظهر كطريقة لتكريس وضعيَّة قائمة، وتشويش الوعي وتضليله. وتظهر حكايات الجانِّ والأمثال الشعبيَّة وطقوس الولادة بوصفها نوعًا من العنف الرمزي القائم ضدَّ الفرد أو بتعبير بورديو "عنف لا مرئي، يتَّخذ من الجهل أو العاطفة حدًّا أدنى ولذلك فهذا العنف الناعم غير محسوس ولا مُدرَك من ضحاياه أنفسهم".
إنَّ الفكر الذكوري كمثال لا يُمارَس من قبل ذكور. بل من قبل المرأة ضدَّ ذاتها. فسالمة زوجة عزَّان ووالدة ميَّا وخولة وأسماء تمنع بناتها من مشاركة ميَّا التي وُلدت حديثًا طعامها. "لأنَّ فيها نجاسة لا يجوز أن تشارك الناس الأكل". وعبر نماذج يوميَّة، وأمثال مرويَّة وخرافات شائعة، ترفع الراوية الغطاء عن الثقافة الذكوريَّة المترسِّخة في اللاوعي الجمعي، وعن تناقضات هذا الخطاب حيث يتقمَّص المُهَيمَن عليه رؤى المُهيمِن. ويظهر هذا في تاريخ العبوديَّة الذي عاشته بلدة العوافي. فظريفة لم تستطع أن تستوعب أنَّها حرَّة بموجب القانون بعد إلغاء الرقِّ، بل وفي تماهٍ مع صوت سيِّدها الذي استعبدها شعرت بالرعب من تمرُّد ابنها سنجر ولم تتقبَّل قوله: "نحن أحرار بموجب القانون، أحرار يا ظريفة. افتحي عينك! الدنيا تغيَّرت وأنت تردِّدين حبابي وسيدي. كلُّ الناس تغيَّروا وتعلَّموا وأنت مثل ما أنت، عبدة التاجر سليمان وبس".
وبينما تستغرق الرواية (الزمن الساكن) ثلاثة أجيال لقرية العوافي، فالزمن المتحرِّك هو: رحلة عبد الله في الطائرة من مسقط لفرانكفورت حيث يتجاور الماضي والحاضر/ العبيد والسادة، المركز والهامش/ التاريخ الشفاهي عبر الذين يتبنَّون الخطاب ويعيدون نقله لأجيال جديدة. وعبر وعي نقدي للعبوديَّة والتواطؤ الذكوري. تأتي الكاتبة إلى قلب المركز ومن أضعف نقاطه كالخرافة والأسطورة والطقوس لتكشف اهتراءه وتحايله.
والسؤال الذي أرَّق عبد الله عن موت أمِّه بعد ولادته، لا يجد سوى إجابة واحدة: قتلها ملك الجنِّ. كان دائم السؤال عنها بحيث يقنعه الجميع ومنهم ظريفة أنَّها ماتت بسبب نبتة ريحان. "وأمُّك، الله يغمِّد روحها الجنَّة، ظنَّت الجنِّيَّة امرأة مسكينة وصدَّقتها. في الفجر قطعت شجرة الريحان، وغضب الجنُّ اللي ساكنين تحت الشجرة وطاحت المسكينة مريضة يومين ثلاثة وماتت".
لكن وفي نهاية الرواية، تصحو مسعودة من جنونها للحظات "وتستعيد حوادث لم تعتقد أبدًا أنَّها ستتمكَّن من مواجهة عقلها بها. تتذكَّر حين سمعت وشوشة في غرفة التاجر سليمان الذي قتل بمساعدة أخته زوجته بالسمِّ. كانت مسعودة قد مسحت هذا الفجر المعتم من عقلها بكلِّ قوَّة الجنون والانحناء".
إنَّ انحناء ظهر مسعودة من حمل الشوك والأعشاب فوق ظهرها - وهو هنا دلالة رمزيَّة - يقابله تمرُّد ابنتها شنَّة التي "منذ أن فتحت عينيها على الحياة وهذه الأمُّ منحنية، لم ترها إلَّا منحنية" والتي تغادر المكان بعد أن سئمت من خنوع والدتها رفقة سنجر الذي يرفض عبوديَّة والدته هو الآخر. هذه الاختراقات من قبل الأطراف: كنجيَّة القمر وحبِّها لعزَّان ورفضها الزواج، وطلب خولة الطلاق من زوجها، تمرُّد حبيب/ تمرُّد لندن/ تمرُّد سنجر وصرخة مسعودة؛ هي انتصار للحقيقة الفرديَّة وصوت الفرد عبر كشطٍ لطبقات من الزيف الماثل في العادات والطقوس التي لم تكن سوى الجزء الظاهر من جبل الثلج.
إنَّ الرواية العربيَّة الجديدة إذ تلتفت للماضي وحكاياته والتراث ومرويَّاته؛ تحاول فتح باب الشكِّ والتأويل في أكثر نقاطه هشاشة وضعفًا. وفي كتابه "من شرفة ابن رشد" يشير عبد الفتاح كيليطو إلى ما يتَّسم به النصُّ الجديد أو - الكتابة الجديدة - من الميلِ للبحثِ في المعنى عن ضدِّه، وفي اللغة عمَّا هو غير مستقرٍّ، وفي العقلانيَّة عن صوت الجنون الذي نلاحظ أنَّه الأبرز في روايات هذه المرحلة. ولعلَّ الحلم الذي يرويه في الكتاب ذاته يعبِّر عمَّا نريد قوله حول هذه النصوص، يكتب "سمعت صوت ابن رشد خلف ستارة النافذة مردِّدًا"لغتنا الأعجميَّة". ويتساءل: لكن إذا كان ابن رشد يتكلَّم العربيَّة كيف نعتها بالأعجميَّة؟ ويتابع كيليطو محاورًا قرَّاءه: "لاحظوا لم يقل لغتي إنَّما لغتنا"؛ ثمَّ لم ينجُ حلم كيليطو من هوسه بالتأويل فيكمل: "وما دام الحلم لا يكذب لا بدَّ أنَّ من كان يتخفَّى خلف الستارة لم يكن ابن رشد ولكن دريدا".
*كاتبة سوريَّة.