ثمة نظريّة يسلّم بها بعض المتأمّلين في المسار البشريّ العام، مفادها أنّ "التطوّر" الحضاريّ والإنسانيّ يتّخذ منحى نكوصيًّا انحداريًّا، لا تقدّميًا تصاعديًّا. أي أنّ البشرية تتراجع عوض أن تتقدّم. فلنلاحظ، لتبيُّن صحة هذه النظرية، التفوّق الحضاريّ والقيميّ والأخلاقيّ لعدد من الحضارات القديمة على الحضارة الإنسانية المعاصرة التي نعيش في خضمّ تهديداتها الكبرى وتحوّلاتها المصيريّة. الحضارة الإغريقية، على سبيل المثال، تفوّقت في الفلسفة، وفن العمارة، والشعر والآداب والفنون (على رأسها النحت الذي لا يضاهى) على حضارتنا المعاصرة، ومثلها في الحضارات القديمة، تلك الفرعونية، والبابلية، والآشورية، والهندية، بإنجازاتها الإعجازية في الفكر، والأدب الرمزي والأسطوريّ (جلجامش)، والعمارة، والحدائق المعلقة، بلوغًا إلى عصر النهضة الوسيط، ومن ثمّ القرون السابقة على القرن العشرين، والتي أعطت البشرية عباقرة في التأليف الموسيقي والإبداع الأدبي، فضلًا عن الفلسفات الأخلاقية (لأمثال هيوم، ولوك، وهوبز)، وأرستقراطية الثقافة، وأناقة الروح والمظهر (اللباس) معًا، وعشق أرقى الفنون (المسرح والموسيقى والرسم والنحت)، وانتشار الذائقة الأدبية وحبّ الكتاب والحلقات الفكرية... كلّ ذلك تبخّر في عصر التفاهة والاستهلاك والأمّية الثقافية والابتذال الفني عديم القيمة والمستوى (مع استثناءات نادرة وقليلة)، وانحطاط العادات اليومية في الملبس والمأكل ("الفاست فود"، و"الجانك فود"، والجينز الممزّق!)، وطغيان الأمية الثقافية بحيث أن لا أحد يقرأ، ولا أحد يسعى إلى العمق الفكريّ، ولا أحد يتذوّق الفنون الأصيلة والكلاسيكية التي حلّ مكانها الفن الاستهلاكيّ والشعبيّ المبتذل.
ما سبق يدلّ بالملموس والمثبت على أنّ البشرية القابعة في مدنها وأبراجها الزجاجية القبيحة والمتماثلة، من أميركا إلى الصين، ووسط سعارها الاستهلاكي النَهِم (هوس "الشوبينغ" و"المولات")، وفراغها الفكري والروحي، إنّما استحالت كائنات فارغة المضمون، لا تفكر، لا تتأمل، لا تعمّق السؤال، بل تمقت التفكير والتفلسف، لتصير بذلك بشرية يكثر ما عندها ويقلّ ما فيها، أي يزداد مقتناها ويفرغ جوهرها. ويمكن استتباعًا لهذه الصورة القول إنّ العلوم التطبيقية الحديثة تُسخَّر بدورها للمسار البشريّ الانحداري (أو الانحطاطيّ) فلا تأتي للإنسان بالخير، إلّا في ما ندر، بل ينصبّ معظمها في تطوير أسلحة الفتك والقتل والتدمير.
الواقع الافتراضيّ الذي أتتنا به الحداثة، وما بعدها، وثقافة الاستمتاع واللهو والإمكانات التكنولوجية الحديثة والأنماط الاستهلاكية، كل ذلك يجعل الواقع مصطنعًا، وهميًا، يمكن التدخل فيه بأيّ لحظة وبأشكال مختلفة. والمقلق أن الإنسان الحاليّ لا يرى هذا الواقع الافتراضي الجديد وهمًا أو خدعة، بل يرى فيه قيمًا بديلة. الانفصام عن الواقع أضحى أمرًا طبيعيًا وعاديًا. مثلًا، قبل أن يرى الأطفال في الوجود الحقيقي قطة، أو كلبًا، أو عصفورًا، يتعرّفون إليها عبر صورها الافتراضية على الشاشة! والخطر الحقيقي أن تصوغ الشاشة الافتراضية هذه، تدريجيًّا، جميع تصوّراتنا حول الوجود. كأنّ جموع البشر تقول وهي تستمتع بعالم الصور "ما شأننا بالحقيقة، تكفينا ظلالها". كلّ ما أنتجته التكنولوجيا أصبح قويًا إلى حدّ أنّه لم يبق في مستطاعنا عدَّها أداة بسيطة، على نحو ما كان المنجل في الحقل، أو الشراع في السفينة. كانت وسائل تقليدية كهذه مندرجة في علاقتنا بالأرض والرياح، ولم تكن أدوات مهيمنة. في حين أنّ "الميديا" مثلًا، التي جعلتها التكنولوجيا الحديثة أكثر تطوّرًا، هي أداة مستعبِدة. أخذت الصور والنسخ المقلّدة والمحاكية مكان ما هو أصليّ. انزلاق أنطولوجيّ يتجاوز حدود الغرور المعرفيّ. تغلّب الرمز على ما يرمز إليه واحتلّ مكانه. بذلك تحتلّ الأشياء الافتراضية والخيالية و"الظلّية" مكان الواقع الحقيقي، وتغمز بسخرية. بالتالي يغدو صعبًا تحديد ما هو حقيقي، وما هو ثقافيّ وحضاريّ وجماليّ، في عالم افتراضيّ وضحل كهذا. بات الناس يظنّون أنّه من المستحيل فهم العالم وإدراكه من دون النظر إلى الشاشة!
ما تنشئه التكنولوجيا ليس حضارة، بل قد يكون أداة تحكّم مادية ــ تكنولوجية، في عالم فقد سحره وعَبَقَه وأمسى جافًا، فارغًا، عديم المعنى. يُصوّر التقدم التكنولوجي، الذي تحوّل إلى دائرة مفرغة ضمن العالم المادي، على أنه المسار الكبير للحضارة الإنسانية، في حين أنه عالم يواجه معضلة الملك ميداس في الأساطير الإغريقية، الذي كانت رغبته أن يتحوّل كل ما يلمسه إلى ذهب، فكان له ما أراد، وشعر في بداية الأمر بسعادة غامرة عندما تحوّلت الطاولة والكراسي التي لمسها إلى ذهب، لكنّه أحسّ بالرعب حين رأى أن الطعام الذي تناوله تحوّل إلى ذهب، وكذلك ابنه الذي قبّله، فتخلّى لتوّه عن رغبته تلك. شهوة الإنسان للتكنولوجيا توقعه في معضلة الملك ميداس.
ليست الإمكانات أو الوسائل التكنولوجية التي يمتلكها مجتمع ما علامةً على تحضّره أو تخلّفه، بل تصوّرات هذا المجتمع وسلوكه ومواقفه الحضارية. إن مجتمعًا بسيط الإمكانات والوسائل والأدوات يمكن أن يكون متحضّرًا، كما أنّ مجتمعًا ذا وفرة تكنولوجية متقدمة يمكن أن يكون متخلّفًا. تنبني الحضارة على المعنى والكيف أكثر منهما على المادة والكمّ. يعرّف كارل ياسبرز الحقبة الممتدة بين القرنين الثامن والثاني قبل الميلاد بأنّها "العصر المحوريّ"، فالحقبة هذه شهدت ظهور المذاهب الدينية والفلسفية الكبيرة، اليونانية القديمة، والبوذية، والفارسية، والصينية، والهندية، في أزمنة متقاربة، إنّما مستقلة الواحدة عن الأخرى. وفي هذه الحقبة برزت الأفكار والمعتقدات والتقاليد العريقة على مسرح التاريخ، وطرحت مناهج فكرية جديدة حول الكون، وهدف الإنسان على الأرض، والدور الأخلاقي للإنسان في هذا التصوّر الكوني، وعدم تقبّل وجود الكون على أنه معطى بسيط. فالإنسان مجبر على إضفاء معنى على وجوده وموقعه في نظام الوجود. كانت هذه الأفكار والقضايا في صلب المناقشات الفكرية والفلسفية في العصر المحوري.
أوّل مستخدمي كلمة Civilization كان عالم الاقتصاد والفيلسوف الفرنسيّ فيكتور ريكيتّي دو ميرابو/ Victor Riquetti de Mirabeau، عام 1757، في كتابه "صديق البشر/ L'Ami des Hommes"، وسرعان ما انتشرت في اللغات الأوروبية الأخرى، وهي مشتقة من كلمة civitas اللاتينية. والمقصود بالحضارة، أو التحضّر، هو سلوك المجتمعات إنسانيًا وقانونيًا وأخلاقيًا، وليس علميًا، أو تكنولوجيًا. فلكي تستحقّ المجتمعات المزدهرة علميًا وتقنيًا صفة المجتمعات الحضارية يجب أن تتمتع أولًا وأخيرًا بصفات التحضّر الإنساني والقانوني والأخلاقي (بهذا المعيار تسقط صفة التحضّر والحضارة عن مجتمعات مثل الولايات المتحدة و"إسرائيل" لعدم استيفائهما الشرط الإنسانيّ من خلال الحروب الوحشية التي تخوضانها، ولا الشرط القانوني لكونهما دولتين مارقتين تتحديان القوانين الدولية، ولا الشرط الأخلاقي المنعدم تمامًا فيهما). في تعبير آخر، لا تكون الحضارة ممكنة وذات معنى إلّا حينما يكون الأفراد ومجتمعهم متحضّرين سلوكًا وعلاقة مع باقي الكون، ولذلك لا يمكن للتكنولوجيا، أو العمران المتطور، أن يشكّلا وحدهما معيارًا حضاريًا، بل قد يعبّران في أفضل الأحوال عن غنى مادي ومستوى من الرخاء. التاريخ زاخر بعدد من المجتمعات ذات القوة الاقتصادية والتقنية التي ترتكب أفعالًا وحشية باسم "الحضارة" و"التطور"! (الولايات المتحدة أسطع برهان، ومثلها بعض الدول الاستعمارية الغربية، كبريطانيا، وفرنسا، بتاريخهما فائق الوحشية في مستعمراتهما القديمة).
لا مفرّ من احتساب أفعال الإبادة، كتلك الحاصلة اليوم في غزة ولبنان، بأنّها من الاحتمالات الناجمة عن الحضارة الحديثة. فالمجازر الجماعية الكبيرة وأطرها الأيديولوجية والسياسية وآليات تنفيذها ليست ممكنة إلّا بفضل القوالب والوسائل العملية التي يوفرها العقل الأداتيّ. ومن الأمثلة الساطعة على الوحشية الحديثة، الجرائم الصهيونية لتكريس الاحتلال والقضاء على الشعب الفلسطيني. الآليات الحديثة تجعل العنف والاضطهاد والاستبداد عناصر منهجية. أصبح المثل العلى "فرد حرّ... مجتمع عقلانيّ" الذي بشّر به عصر التنوير خاليًا من المعنى في ضوء ممارسات "الحضارة الحديثة"، بينما كان متوقعًا أن تمضي هذه الحضارة وفق المثل الأعلى في السياسة والاقتصاد والثقافة. ظُنّ أن الحداثة مرادفة للتحضّر ومتزامنة معه. بيد أنّ التجارب الأليمة خيّبت الآمال. كان ابن خلدون من أوائل الذين رأوا أنّ الإمكانات المادية التي توفّرها الحضارة تبعد المجتمع الإنساني عن التحضّر.
يقول الفيلسوف والمؤرخ الأميركي صاحب "قصة الحضارة" ويلّ ديورانت/ Will Durant إن أربعة عناصر رئيسة تبني الحضارة هي الثروة الاقتصادية، والنظام السياسي، والتقاليد الأخلاقية، والعلوم والفنون. وثمة عناصر إضافية، مثل الجغرافيا، والسكان، والمناخ، وشكل الحكم، والتعليم،... إلخ. تلك العناصر هي الأساس في ارتقاء حضارة ما، كما يمكن أن تؤدي إلى انحطاطها. وقد ربط مفكرو عصر التنوير بين التحضّر والحضارة، وبين العقل والتاريخ الأوروبي، ونظروا الى المجتمعات غير الغربية على أنّها إمّا جماعات فاقدة للحضارة، أو نصف متحضّرة. هذه التصنيفات التاريخية والثقافية وضعت الحضارة الغربية في المركز، لتمسي الحضارة بالتالي من المصطلحات الأساسية للفكر ذي المركزية الأوروبية. "مهمة الحضارة" أسبغت شرعية على الإمبريالية الأوروبية الاستعمارية في مناطق مترامية الأطراف تمتد من أفريقيا إلى شبه القارة الهندية، فجنوب شرق آسيا.
هل معيار الحضارة أن يكون المجتمع متقدمًا في مجالي العلم والتكنولوجيا؟ أم أنّ الاستناد إلى القانون هو ما يجعل سلوكًا، أو نظامًا ما، حضاريًا؟ ليست مصادفة أن يسبق مفهوم "التحضّر" (civilité بالفرنسية) مفهوم "الحضارة" في النصف الثاني من القرن الثامن عشر، واليوم، إلى جانب العلم والتكنولوجيا والصناعة، تُعدّ طريقة الإنتاج الرأسمالي معيارًا للحضارة، فقد انتشر مع الرأسمالية الحديثة تصوّر "حضاريّ" مرتكز على "ريادة أعمال" محورها المنفعة، وتحوّل جهد الإنسان المنتج للثقافة والتقنية إلى بضاعة للبيع والشراء. يؤكد اللاهوتي الألماني ألبرت شڨايتزر/ Schweitzer على أن الزراعة والمهن هي عماد الحضارة، ويقول إن الرأسمالية والتكنولوجيا الحديثة جعلتا الحضارة مستحيلة. ويرى شڨايتزر أنّ من غير الممكن التوفيق بين الرأسمالية والحضارة إذ يتحوّل النظام الاقتصادي الحديث تدريجيًّا إلى حضارة الآلة، ويضع الإنسان في المرتبة نفسها مع الآلة التي يصنعها. تصبح الأشياء التي تصنعها يد الإنسان (كالمدن الحديثة الضخمة) مسيطرة عليه. "لا يمكن التوفيق بين الحضارة الحقيقية والثورة الصناعية"، بحسب السياسيّ والصناعي الهندي كوماراسوامي. ولا تقتصر التكنولوجيا الحديثة على تغيير علاقة الإنسان بالطبيعة فحسب، بل تمسّ "الجوهر الإنسانيّ" في الوقت عينه. وتقول حنّه أرندت إن الرأسمالية الحديثة لم تؤدِّ إلى "اغتراب الذات" (self - alienation) فحسب، بل إلى "اغتراب عالمي" (world - alienation) أيضًا، وعلى نحو أعنف. تهدّد الرأسمالية والتكنولوجيا معًا بنية الإنسان الحيوية وهندسته الوراثية، وليست صعبة معاينة الكوارث الهائلة التي تمهّد لها إمكانات التكنولوجيا الحديثة المتاحة، بدءًا بتغيير الشيفرات (الكودات) الجينيّة، وصولًا إلى انتشار أسلحة الدمار الشامل.
الاعتقاد السائد بين البشر أن الحاضر "أفضل" من الماضي، والمستقبل أفضل من الحاضر، استنادًا إلى فكرة أن التقدّم غير قابل للرجوع (irreversible). يرتبط مفهوم التقدم بماهية "الأفضل"، ويتمّ تصوير التطوّر بالمعنى المادي والتقني والتكنولوجي على أنّه من أهم الخصائص المميزة للتقدم. لكنّ مفكرين كبارًا من وزن أفلاطون، وابن خلدون، ونيتشه، وشبنغلر، عارضوا فكرة المسار المستقيم للتاريخ، وآثروا التصوّر الدائريّ له. فالتاريخ وفق هذه الفكرة، يسير تبعًا لخطوط دائرية لا تتقدم بالضرورة على نحوٍ جيد أو سيّئ، بل هي حافلة بالتقلّبات والتكرارات والعودات إلى البداية. قد لا يكون المسار جيدًا أو سيئًا في ذاته، وقد تكون حادثة أو فترة في الماضي، على صعيد التسلسل الزمني، أفضل وأهم وأثمن من الناحية الأخلاقية والمعيارية من حادثة، أو فترة، في الحاضر، أو في المستقبل. فهل يتقدم الإنسان حقًا في المجالات كافة؟ وما هو معيار هذا التقدم؟
لقد سادت فكرة أن الإنسانية تتقدم في خط واحد، وأن أوروبا تقود هذا التقدم، حتى منتصف القرن العشرين. لكن منذ أواخر القرن الثامن عشر، وعلى عكس معاصريه، طرح الفيلسوف واللاهوتيّ الألماني يوهان هيردر/ Herder تساؤلًا حول مسلّمة التقدم الأوروبي، مؤمنًا بأنّ "ما هو جيد" منتشر في أنحاء الأرض كلّها، ومتسائلًا: "لماذا تعدّ أوروبا الغربية وحدها مهد الحضارة؟ هل الواقع كذلك حقًا؟". وتساءل كانط بدوره في نصّ فلسفي يحمل عنوان "سؤال قديم يعود إلى الواجهة من جديد": هل النوع البشري في تقدم مستمرّ؟ مشدّدًا على أن السؤال الواجب طرحه هو: هل حقق الإنسان تقدمًا في التاريخ الأخلاقي وليس في التاريخ الطبيعي؟ فبالنسبة إليه، التقدم مفهوم محمّل بالقيم، لذا يغدو السؤال: هل تقدمت الإنسانية أخلاقيًا أم لا؟ إنّ تقدم الإنسانية أخلاقيًا ممكن فقط حين يفضل البشر العيش على نحو أكثر أخلاقية، وليس من خلال تطوير "القواعد الأخلاقية" (نرى اليوم كيف تنتهك "أجمل" النصوص والقوانين الموضوعة على مستوى دوليّ وأمميّ).
دوّن المؤرخ البريطاني الكبير أرنولد توينبي مطلع السبعينيّات هذه الخاطرة الرائعة والمعبّرة: "كانت تطلّعات جيلي أن تصبح الحياة في العالم بأسره أكثر عقلانية وإنسانية وديمقراطية، وأن تتمخّض الديمقراطية السياسية بخطوات بطيئة، لكن واثقة، عن عدالة اجتماعية أشدّ رسوخًا. كنّا نأمل أن تغدو الإنسانية أغنى مع التقدم في العلم والتكنولوجيا، وأن ينتقل هذا الغنى تدريجيًا من أقلية صغيرة إلى مجموعات كبيرة. تمنّينا أن يتمّ كل ذلك بشكل سلميّ. بل ظننّا أن الإنسانية متجهة نحو الجنة الأرضية، وأنّ اقترابنا من هذا الهدف ضرورة تاريخية". وكان كتاب عالم الرياضيات والفيلسوف الألماني أوزوالد شبنغلر/ Spengler "انحطاط الغرب" قد زعزع بعنف إيمان توينبي ومعاصريه بحضارة الغرب وفكرة التقدم. رأى شبنغلر في كتابه هذا الذي صدر الجزء الأول منه عام 1918 أنّ الحضارة الغربية تنهار من الداخل (في أعقاب الحرب العالمية الأولى)، ما أدّى إلى ظهور أدب "الانهيار" و"الانحطاط". بل تناول شبنغلر انحطاط الغرب كمشكلة فلسفية وأنطولوجية، وعدّه منطويًا على مسائل الوجود الكبرى، فالمسألة الرئيسة في نظره هي أنّ الغرب انتهى من الناحية الميتافيزيقية.
حتى الثقافة لم تنجُ من احتكار الغرب الرأسمالي والكولونيالي العنصري لمفاهيمه على قاعدة الاستعلاء العرقي والمركزية الأوروبية، ومن ثمّ الأميركية، وتبعًا لذلك لا يمكن أن يُعدّ مفهوم الحضارة المدرج ضمن مفهوم الثقافة سوى مظهر وامتداد لأشكال العيش والاجتماع. فما هي تلك الأشكال السطحية، أحادية البعد، الاستلابية، التي تقضي على حالة الوجود الإنسانيّ الطبيعيّ؟! إنّ إدراك ماهية الثقافة والحضارة والمجتمع والتقدم أمر مستحيل في عصر الواقعية المفرطة، فالأفراد في عالم الحداثة يعيشون الجزء الأكبر من يومهم في عالم الصور و"التنبيهات" فيفقدون إمكان تجربة الواقع الحقيقي الذي يشكلون جزءًا منه بشكل مباشر وبلا وسيط، ليغدو رموزًا ورسومًا تعبيرية (إيموجي) مختزلة في العالم الافتراضي أحاديّ البعد. إنه الانحراف الوجودي في أفدح تمظهراته.
٭ ناقد وأستاذ جامعي من لبنان.