بالدليل والبرهان الموثّقين، تؤكد الوقائع التاريخية قيام التعاون بين روّاد الصهيونيّة وكلٍّ من النازية الألمانية والفاشية الإيطالية. والأكثر إذهالًا وإثارةً للعجب أن يكون هؤلاء اليهود الصهاينة الأوائل قد تواطأوا مع النظامين الفاشيين ضدّ أقرانهم من اليهود غير الصهاينة في ألمانيا وإيطاليا، لمصلحة المجموعات اليهودية قليلة العدد التي قبلت بالهجرة إلى "أرض الميعاد"، ولمصلحة المشروع الاستيطانيّ الإحلاليّ الإباديّ في فلسطين. ويُستنتج تاليًا، بالواقع التاريخيّ المثبت، أنّ الصهاينة المتعاونين مع نظامي هتلر وموسوليني في "تنقية" مجتمعيهما ومشروعيهما من العنصر اليهوديّ، قد غضّوا الطرف عن التصفيات التي حصلت في معسكرات الموت لمجموعة كبرى من اليهود والأقليات الأخرى (كالغجر مثلًا)، وبدوا غير معنيين بما يجري لبني ملَّتهم، مركّزين عملهم واهتمامهم على مشروعهم الاستيطانيّ الإحلاليّ في فلسطين! ووصل الأمر بهؤلاء الصهاينة المنخرطين في المشروع حدّ الوشاية لدى النازيين بأقرانهم من اليهود الألمان الرافضين الهجرة إلى فلسطين، أو غير القادرين على ذلك، لكي يُرسلوا بموجب تلك الوشاية إلى معسكرات التصفية!
يقول الصحافي اليهودي الصهيوني إميل لودڨيغ: "سيأتي اليوم الذي سيجد فيه بنو إسرائيل، وباسم الصهيونية العالمية، أنّهم مضّطرون إلى إقامة نصب تذكاريّ لهتلر، نظرًا إلى دوره في الهجرة إلى فلسطين". وتدعم دراسة سياسة الوكالة اليهودية خلال الحقبة النازية حقيقة أنّه كان من الممكن إنقاذ مزيد من اليهود لو لم تكن الصهيونية منشغلة ببناء الدولة اليهودية في فلسطين كهدف أسمى لها. كان كلٌّ من هتلر وموسوليني داعمين لإنشاء الوطن القومي اليهوديّ على أرض فلسطين التاريخية، ليخفّفا على نفسيهما بعضًا من عبء الأعداد المطلوب تصفيتها في "الحلّ النهائيّ" ومن أجل إراحة ألمانيا وإيطاليا (وأوروبا عامةً) من "بارازيت" اليهود غير المرغوب فيه.
مرجعي الأساسيّ في هذا الجزء الثاني من الإضاءة الفاشية الصهيونية هو كتاب المؤرّخ والباحث الأميركي ليني برينر Lenni Brenner، وهو يهوديّ تروتسكيّ مناهض للصهيونية، تحت عنوان "Zionism in the Age of the Dictators" (1983)، وقد صدرت له ترجمة بالعربية بعنوان "الصهيونية في زمن الديكتاتورية" (عام 1985، عن "مؤسسة الأبحاث العربية" في لبنان و"دار البيادر للنشر" في مصر، ترجمة د. محجوب عمر) وهو كتابٌ تاريخيّ موثّق أحدث ضجة كبرى في الأوساط الصهيونية التي حاربت الكتاب ومؤلّفه بكل ما أوتيت من قوة ونفوذ في الأوساط الإعلامية.
تحت عنوان "الصهيونية الألمانية تعرض التعاون مع النازية" يكشف برينر أن الاتحاد الصهيوني في ألمانيا سعى إلى الحصول على حماية أدولف هتلر، لا مرة واحدة، بل على نحو متكرّر منذ عام 1933، لاعتقاده أنّ التماثلات الأيديولوجية بين النازية والصهيونية (رفضهما الليبرالية، عنصريتهما الشعبوية، اقتناعهما المتبادل بأن ألمانيا لن تكون أبدًا وطنًا لليهود الألمان) قد تحفّز النازيين على تأييد الصهيونية. وأضحى هدف الاتحاد الصهيوني في ألمانيا هو "التراجع المنظّم"، أي تأييد النازيين هجرة جيل اليهود الأصغر سنًا (على الأقل) إلى فلسطين. سار الاتحاد الصهيوني في ألمانيا مع الأقوى، أي النازية، وبرّر ذلك لنفسه بأنّ التمايز العرقيّ الذي تدين له الأيديولوجيا النازية يحاكي العرقية المضمرة التي يؤمن بها الصهاينة في ما يخصّ "العرق اليهودي"، وعبّر مقال في صحيفة "روندشاو" (4 أغسطس/ آب 1933) عن ذاك التبرير إذ ورد فيه: "نحن الذين نعيش هنا كعرق أجنبيّ، علينا أن نحترم الوعي العرقي والمصلحة العرقية للشعب الألماني بشكل مطلق (...)". العرقيّة تجمع بين الأيديولوجيتين، النازية والصهيونية، كلٌّ منهما في جانب مستقلّ. كان هدف الاتحاد الصهيوني في ألمانيا نيل الحكم الذاتي. أراد من هتلر أن يمنح اليهود حق وجود اقتصادي ما، وحمايتهم من الاعتداءات، وإعدادهم للهجرة إلى فلسطين. وراح الاتحاد يعبّئ المؤسسات اليهودية لتطوير روح قومية يهودية. وكلّما شدّد النازيون القيود على اليهود ازداد اقتناع الصهاينة بأن صفقة ما مع النازيين هي ممكنة، إذ حسبوا أيضًا أنّه بقدر ما يُستبعد النازيون اليهود عن مختلف جوانب الحياة الألمانية تزداد حاجة النازيين إلى الصهيونية كي تساعدهم في التخلّص من اليهود المندمجين في مجتمعهم وغير الصهاينة، والمصرّين على عدم الهجرة إلى فلسطين. وفي 15 يناير/ كانون الثاني 1936 نشرت مجلة "پالستاين پوست" تقريرًا مذهلًا حول تقدّم الاتحاد الصهيوني في ألمانيا بطلب إلى الحكومة النازية بأن يكون هو الجهة الوحيدة للسيطرة المنفردة على الحياة اليهودية الألمانية. ووافق قادة المنظمة الصهيونية العالمية على الخط العام لفرعهم الألماني.
نظرت المنظمة الصهيونية العالمية إلى انتصار هتلر بالطريقة عينها التي نظر بها الاتحاد الصهيوني في ألمانيا، فهو ليس بالنسبة إليهما هزيمة لسائر اليهود أساسًا، بل برهان إيجابي على إفلاس الاندماجية والليبرالية. بدا الصهاينة مثل دعاة إحياء الهيكل: هتلر هو عصا التاريخ لسَوْق اليهود العنيدين مرة أخرى إلى الالتحاق بقومهم وأرضهم (المقصود فلسطين). وقد عبّر كاتب السير الشعبية المشهور عالميًا لودڤيغ عن الموقف العام للحركة الصهيونية إذ قال: "سيطوي النسيان هتلر في سنوات قليلة، ولكن سيكون له تمثال جميل في فلسطين. إنّ وصول النازي كان أمرًا مرحبًا به. كثر من يهودنا الألمان كانوا يتذبذبون بين شاطئين. كثر منهم كانوا يركبون التيار بين نار الاندماجيين ونار المعرفة الضئيلة بالأمور اليهودية. ألوفٌ من الذين بدا أنّ اليهودية قد فقدتهم تمامًا تمّ ردّهم إلى موقعهم بواسطة هتلر، لذلك فإنني شخصيًا ممتنٌ له كثيرًا".
رأي هتلر في اليهود و"المسألة اليهودية" عبّر عنه على نحو محدّد في كتابه "كفاحي" الذي يسهب فيه حول أن كراهيته لليهود هي أمر معقول تمامًا وأنّها نابعة من الخبرة ومن الاستدلال المنطقي المستخلص من الأدلة الواضحة، مصرًّا على أن أفكاره الأولى حيال اليهود كانت حميدة، وأنّ أباه "السيّد العجوز" كان ينظر إلى معاداة السامية على أنها من بقايا التعصّب الديني، وأنّ ذلك كان موقف أدولف الشاب المتنوّر، حتى انتقاله من مدينة لينتز الريفية إلى فيينا حيث تجوّل في المدينة القديمة الداخلية وقابل أحد المتديّنين الغاليسيين (من غاليسيا عند حدود بولندا وروسيا) اليهود، فبدا له مثل شبح غريب في قفطان أسود وخصل شعر سوداء فتساءل في قرارة نفسه: "هل هذا ألمانيّ؟!".
قبل عام 1914 لم يكن هتلر في حاجة إلى أن يشغل نفسه كثيرًا بالصهيونية إذ بدت له آفاق "الدولة اليهودية" بعيدة جدًا. حتى كان إعلان بلفور عام 1917، وهزيمة ألمانيا وثورة ڤيمار، فعاود هتلر التفكير في الصهيونية، إذ أظهر "اليهود الخونة"، وفق تعبيره، حقيقة نواياهم عندما رحبوا بإعلان بلفور، معتبرًا أنه لولاهم لكسبت ألمانيا. لكنّ الأيديولوجيّ الأكثر معرفة دقيقة بالمسألة اليهودية كان ألفرد روزنبرغ الذي شرح الصهيونية في كتابه "اليهود في تقلبات الزمن"، فالصهاينة في عرفه لا يريدون سوى خلق مكان للتآمر اليهودي الدولي (أي الدولة اليهودية على أرض فلسطين)، ورأى أن الأيديولوجية الصهيونية مفيدة جدًا كمبرّر لحرمان يهود ألمانيا من حقوقهم، ويمكن أن تستعمل الحركة الصهيونية مستقبلًا لتشجيع الهجرة اليهودية. وسرعان ما بدأ هتلر يلمس هذه المقولات في أحاديثه ليعلن في 6 يونيو/ حزيران 1920 أن فلسطين هي المكان الصحيح لليهود، وأنهم فقط هناك يستطيعون أن يأملوا في الحصول على حقوقهم، وتوالت المقالات المؤيدة للهجرة إلى فلسطين تظهر في مجلة الحزب "فولكشه بأوُبَخْتَر" (الراصد الشعبي). بالنسبة إلى هتلر، لم تكن الصهيونية صالحة إلّا في تأكيدها على أنّ اليهود لا يمكن أن يكونوا ألمانًا أبدًا. يقول في كتابه "كفاحي": "بينما يحاول الصهاينة جعل بقية العالم يؤمنون بأن الوعي القومي لليهود يجد تعبيره في خلق دولة فلسطينية، فإن اليهود يخدعون الأمم غير اليهودية بخبث. لم تسكن رؤوسهم قطّ فكرة أنهم سيبنون دولة يهودية بهدف العيش فيها. كل ما يريدونه هو تنظيم مركزيّ لاحتيالهم الدولي العالمي يتمتع بحقوق السيادة الخاصة ويُستبعد عن تدخل الدول الأخرى. مجرّد مأوى للسفلة المجرمين المدانين ومجمعًا للمحتالين الناشئين. إنّ اليهود تنقصهم السمة العرقية الحيوية لبناء دولة خاصة بهم. إنهم ديدان طفيليّة في الجوهر، تنقصهم المثالية الطبيعية، ويكرهون العمل. من أجل أن يكون لتشكيل الدولة تركيبة مكانية محددة، يفترض الأمر دائمًا ومسبقًا موقفًا مثاليًا لناحية العِرْق المشكِّل للدولة، وبخاصة تفسيرًا صحيحًا لمفهوم العمل. وعلى قدر غياب هذا الموقف على وجه الدقة فإن أي محاولة لتشكيل دولة محددة مكانيًا أو حتى الحفاظ عليها، تفشل".
كم كان الطاغية هتلر محقًا في نعته مشروع الدولة اليهودية في فلسطين بـ"مأوى السفلة المجرمين المدانين" فيه يحكمون حتى اليوم، وهم بهذه الصفات تمامًا سفلة مجرمون مدانون. من دون أن نغفل عن نبوءة الطاغية الذي لا يمكن نفي ذكائه ودهائه رغم شرّه المستطير: هذه الدولة اليهودية، للاحتيال الدولي العالمي، ستفشل في النهاية.
في ربيع عام 1934 قال رئيس قوات الـ "SS" النازية: "إنّ الأغلبية العظمى من اليهود لا يزالون يعتبرون أنفسهم ألمانًا ومصمّمين على البقاء. وطالما أنّ القوة لا يمكن استعمالها خوفًا من المترتبات الدولية المحتملة، فإنّ الطريقة لتحطيم مقاومتهم هي غرس هوية يهودية متميّزة بينهم (المقصود الصهيونية) وذلك بالتشجيع المنتظم للمدارس اليهودية والفرق الرياضية اليهودية والفن والموسيقى اليهوديين واللغة العبرية... إلخ، بالاشتراك مع مراكز إعادة التدريب المهني الصهيونية، فمن شأن ذلك أن يحفّز اليهود العنيدين على التخلّي عن وطنهم، ومع ذلك فإن هذه الصيغة الرقيقة لم تكن كافية، فما أن يبدأ الضغط الموجه ضدّهم في التلاشي حتى يبدأ اليهود العنيدون في التمترس مجدّدًا. لذا كانت السياسة النازية هي زيادة الدعم المقدم للصهيونيين بحيث يمكن لليهود أن يروا بوضوح أنّ الطريق لتجنّب المشاكل السيئة هو الالتحاق بالحركة الصهيونية". يتبدّى بكلام هتلر هذا أن الصهيونية كانت الجهة المفضلة لدى النازيين، تتعاون وتتحالف معها وتساعدها في المشروع الاستيطاني الإحلالي لفلسطين، في مقابل "تنقية" الأرض الألمانية من "العشب الضارّ"، أي اليهود عامةً، وإتمام "الحلّ الأخير" بحقّ اليهود المعاندين، المتشبثين بألمانيتهم والرافضين فكرة الهجرة إلى أرض فلسطين التاريخية.
الحقيقة المؤكدة والمثبتة هي أنّ هتلر سهّل قيام المشروع الصهيوني في فلسطين وله حصة في وقوع النكبة الفلسطينية. ففي مرجع آخر هو كتاب المؤرخ والكاتب الأميركي إدوين بلاك Edwin Black تحت عنوان "اتفاقية الترانسفير" (1984) المعروفة بالعبرية بـ"اتفاقية الهعفراه Haavara" بين السلطة النازية والاتحاد الصهيوني في ألمانيا عام 1933، يُسمح لليهود الألمان بالهجرة إلى فلسطين واستعادة جزء صغير من أصولهم في ألمانيا بأشكال مختلفة، بما في ذلك مصلحة غير مباشرة في السلع الألمانية المستوردة. وكانت دوافع الصهاينة في عقد هذه "الصفقة مع الشيطان" واضحة ودموية، إذ أدركوا الخطر المحدق باليهود المحاصرين في ألمانيا، فعملوا على بناء دولة يهودية في فلسطين مستخدمين رأسمال يهود الطبقة المتوسطة من اليهود الألمان اليائسين. حتى أنهم رفضوا مهمة إنقاذ واسعة النطاق ليهود ألمانيا وعرقلوا محاولات نقل بعضهم إلى بلدان أخرى غير فلسطين (أي أنهم غضّوا النظر عن احتمال سَوْقهم إلى معسكرات الموت مفضّلين أن يقضي النازيون عليهم من أن يهاجروا إلى بلدان أخرى غير فلسطين !) ولطالما تكلم الصهاينة عن أفضلية "إنقاذ الأصول"، أي الأموال، على إنقاذ البشر! أمّا لناحية المصلحة النازية، فعدا عن التخلّص من عدد من اليهود، كان الاقتصاد الألماني في فترة الكساد العالميّ شديد التصنيع وفي حاجة إلى تصدير السلع والحفاظ على مستويات الوظائف، لذا كانت سياستهم تختصر في التخلّص من اليهود غير المرغوب فيهم، مع الاحتفاظ بمعظم ثرواتهم، وكان من شأن الترانسفير اليهودي نحو فلسطين أن يسمح لهتلر بجني فوائد اقتصادية من هجرة اليهود، فضلًا عن إضعاف المقاطعة التجارية العالمية المناهضة لألمانيا منذ مارس/ آذار 1933، فكان انتهاك الصهاينة في فلسطين للمقاطعة بمثابة مقايضة لاتفاقية الهجرة أو الترانسفير.
بفضل اتفاقية هعفراه التي بقيت سرية لخمسة عقود فإنّ ما نسبته 60% من الأموال المتدفقة إلى فلسطين في الثلاثينيات كان من ألمانيا النازية. وعام 1933، بعد شهرين من وصول هتلر إلى السلطة، قام أحد كبار ضباط الـ "إس إس"، ليوبولد فون ميلدنشتاين، بزيارة فلسطين للقاء القادة الصهاينة، وكان يرافقه صديقه الألماني اليهودي كورت توكلر، وبارك الحزب النازي والاتحاد الصهيوني في ألمانيا تلك الزيارة التي دامت ستة أشهر! ولاقت زيارتهما مع زوجتيهما ترحيبًا كبيرًا من الصهاينة في فلسطين، حتى أن غوبلز، وزير الدعاية النازي، أمر بسكّ عملات معدنية خاصة احتفالًا بالتعاون النازي – الصهيوني وكان عليها الصليب المعقوف النازي من جهة والنجمة اليهودية من جهة ثانية (!)
أمّا علاقة الصهاينة بالفاشية الإيطالية وزعيمها موسوليني، فيمكن أن نلاحظ بشأنها أن الصهيونيين الإيطاليين لم يقاوموا الفاشية على الإطلاق، بل انتهى الأمر بهم إلى مدحها، وأضحت كتلة التصحيحيين (أتباع جابوتنسكي) وبعض آخر من الجناح اليميني، من دعاة الفاشية المتحمسين، واستمرّوا في طلب ودّها بشكل أعمى بعد عام 1933. همّهم الأوحد كان: هل تكون روما صديقتهم أو عدوّتهم في عصبة الأمم المتحدة. وكانوا يأملون في أن ينصح موسوليني حليفه النازي بأنّ محو اليهود على ذاك النحو لن يتسبّب إلّا بمشاكل غير ضرورية، كما ظنّوا أنه يمكن إقناع موسوليني بالانضمام إلى لندن وباريس في حماية فيينا من النازية. كان اهتمام المنظمة الصهيونية العالمية الحصول على تأييد موسوليني لمشروعها في فلسطين.
كان جابوتنسكي، الصهيونيّ الأكثر فاشيّة بالفطرة والولادة، غير معجب بموسوليني وفاشيته الإيطالية، لكنّه استلهم تقاليد موسوليني وهتلر العسكرية معًا، ويهود كثر من الذين جنّدهم لحركته التصحيحية في إيطاليا لم تكن لديهم البتة مشاكل مع الأسلوب الفاشي المحلي بل اعتبروا "الدوتشي" (موسوليني) بطلهم. وقرّر جابوتنسكي في مطلع الثلاثينيات إنشاء مدرسة حزبية في إيطاليا، وتشاور أنصاره من اليهود التصحيحيين مع القيادة الفاشية وكانوا يعرّفون بأنفسهم علنًا على أنهم فاشيون، وعام 1934 سمح موسوليني لحركة "بيتار" (حركة شبابية صهيونية تأسست عام 1923 في ريغا، لاتفيا، على يد فلاديمير- زئيف جابوتنسكي، لتغدو حركة فاشية ارتبطت لاحقًا بحزب الليكود الإسرائيلي الذي أتى بثلاثة فاشيين كبار للكيان الصهيونيّ الإباديّ، بيغن وشامير ونتنياهو) ووضع في تصرّفها عناصر من الأكاديمية البحرية الإيطالية الفاشية في سيفيتافيكيا التي كان يديرها ذوو القمصان السود.
إنه نزر يسير من تفاصيل العلاقات بين الصهيونية والنازية الألمانية والفاشية الإيطالية. لدينا سيل لا ينتهي من الوقائع والأسماء والتواريخ والوثائق السرية التي لا يتسع المجال لعرضها، إلّا في أبحاث مستفيضة كالكتب والموسوعات والأطروحات. لذا فقد اكتفيت هنا ببعض العناوين العريضة المذهلة لتلك العلاقات، التي لا تخطر في بال العامّة، ولا يدركها إلّا المتبحّر بحثًا وتنقيبًا في تفاصيلها المثيرة.
(يتبع)
*ناقد وأستاذ جامعي من لبنان.