كلما ارتفع ذهنيًّا "الجدار الحديدي" الذي حاول جابوتنسكي أن يُشيّده في العقل اليهودي المتصهين بالاتكاء على الأسطورة بأبعادها المطلقة، اتسعت هوّة الصراع بشروطه التاريخيّة، هذا ما يمكن أن نفهمه حين نستمع منذ تسعينيّات القرن الماضي وإلى يومنا هذا، لخطابات "ميليكوفسكي" المعروف باسم نتنياهو؛ ونلمسه بالحواس الست عبر ممارسات وزير ماليته واستيطانه بتسلئيل سموتريتش، الذي اشتُق اسم عائلته من بلدة صغيرة، تقع على نهر يحمل الاسم نفسه غربي أوكرانيا، حيث كان وما يزال يعمل، على ضرورة إقامة إسرائيل الكبرى ولو على حساب كلّ من فلسطين والأردن ولبنان، وبعض من مصر والسعودية وسورية والعراق، كما ادعى في حوار إعلاميّ أُجرِيَ معه قبل السابع من أكتوبر 2023.
من هنا يُمكننا أن نعالج تلك الحروب الهجينة التي يديرها نتنياهو، بعد إدخاله للجيل الخامس من الحروب على خط المواجهة ضد المنطقة وشعوبها، لذلك نجده يُسمِعنا بين الحين والآخر حديثه الممل والممجوج حول "الشرق الأوسط الجديد"، والقصد هنا، وصول الشرق إلى مراتب أعلى مما وصل إليها، كنتيجة حتمية لكلّ ما مرّ به من تحوّلات جذريّة يـُمكننا الإشارة إليها بداية من استهداف دولة بحجم العراق بوصفها أحد ركائز وأركان الشرق تاريخيًّا وحضاريًّا وعسكريًّا في تسعينيات القرن الماضي، مرورًا ببرنامج عمل الحادي عشر من سبتمبر "منْ ليس معنا فهو ضدنا"، والذي طرحه الرئيس الأميركيّ بوش الابن في حربه الموصوفة حينذاك بـ "الحملة الصليبية" وفق تعبيره بداية الألفية الحالية، وصولًا إلى ما عرف لاحقًا بالربيع العربي الذي هدف في خطوطه العامة والأهم إلى إضعاف الدولة الوطنيّة، ليس لصالح الدولة القوميّة الجامعة، أو الخلافة الإسلاميّة المفقودة، ولكن لصالح ما يعرف بالحركات المتطرّفة باعتبارها كيانات موازية تعرف بالأطراف الثالثية "ما دون الدول"، وهي التي يُمكنها أن تسهم بشكل فاعل وحيوي، بقصد أو دون قصد، في تقسيم المقسّم، وتجزئة المجزَّأ في سياق تهيئة البيئة الجيوسياسيّة لتصبح الدولة الإسرائيلية المركز الاقتصادي والأمني لكامل المنطقة، أو بلغة أخرى قائدة المنطقة، وما تبقى من شعوبها على خلفيّة حفلة الإبادة الجماعيّة المفتوحة على مصراعيها في كامل الشرق.
نعم، قد يكون أصل المشروع الصهيوني في الشرق الأوسط، هو مخطّط المركز الغربي الاستعماريّ، بهدف التحكم في هذه المنطقة ومقدّراتها وشعوبها من جهة، بغية استخدامها للنيل من الخصوم، تحديدًا القوى الدوليّة الصاعدة والعائدة والمتشكّلة، كما الصينيّ والروسيّ ومجموعة البركس؛ حيث تمدّد الأوّل اقتصاديًّا من بلاد الشام وصولًا إلى أفريقيا، وحضر الثاني في شرق أوروبا فيزيائيًّا بشكل عسكري، وفي الشرق الأوسط لوجستيًّا، وهي ما تُعرف بمنطقة النفوذ الأميركي، وحاول الثالث تشكيل قوّة موازية للسيطرة الأميركيّة على مقدّرات الشعوب الاقتصاديّة على وجه التحديد؛ ولكن ذلك يتقاطع تماما مع ما تشهده إسرائيل من تحولات عميقة عملت على تغيير هويتها، من دولة أنشئت على أسس علمانية، وإن وظفت الأبعاد الدينية لمصالحها السياسية، لتصبح دولة عنصريّة قوميّة مارقة، كما وصفها بايدن في آخر تسريباته.
غير أنّه بات من الواضح أنّ تاريخ الجغرافيا الساكن في هذه المنطقة بكلّ موروثها الحضاريّ، وجغرافيا التاريخ المتحرك في عقول شعوبها بكافة تقاليدها الاجتماعيّة، ما زالا يقفان حائلًا بوصفهما العامل الديمغرافيّ الثابت والوحيد في صنع المشهد الجيوسياسيّ بكلّ أبعاده المستقبليّة وتأثيراته المحتملة على شكل الغد، غد هذا الشرق وشعوبه وتاريخه القادم، على الرغم من تبعية أنظمته على المستوى السياسي، وعجزه في التعامل مع البعد الاقتصادي.
ذلك لأنّ إحداثيّات الحالة الإسرائيليّة بلغة الرياضيّات، تحاول أن تعيد إحياء مشروع "الجدار الحديدي" على قواعد ثابتة ومطلقة في حقل سياسي لا يمكن له إلّا أن يكون متحركًا ومشروطًا، وهو ما يمكن أن يساعدنا في فهم المعاني الدالة على مفاهيم الانتصار المرجو لـ نتنياهو من جهة؛ ومحاولة هزيمة الهزيمة من قبل الفلسطينيين والعرب، بشروطها المعكوسة على كافة مكونات شعوب المنطقة بكل مذاهبها الدينية، وتياراتها السياسية الحاضرة والفاعلة، على الرغم من إكراهات واقع الخلافات الموروثة والمفتعلة، بالإضافة إلي إغراقها في دهاليز ثقافة الاستهلاك بشقّيه الاجتماعيّ والاقتصاديّ.
نتنياهو الذي يؤرقه عدم تحقيق رؤيته القائل، أنا الملك الأحق لخلافة داوود، راح يتّبع سياسة شمشون، عليّ وعلى أعدائي (Getty) |
فبعد مرور عام من تاريخ السابع من أكتوبر، بوصفه تاريخًا فاصلًا بين ما كان، وما يراد له أن يكون في كامل المنطقة، يبدو للوهلة الأولى أنّنا بتنا على بُعد خطوات قليلة من تحقيق هذا المشروع الاستعماريّ المحطِّم لكل الأحلام العربية والإنسانيّة؛ ولكن، مع بعض التدقيق في كامل المشهد بعقل بارد، يُمكننا ملاحظة التعثّر على كافة الجبهات السياسيّة والعسكريّة والاقتصاديّة، لأسباب مختلفة ومتداخلة، منها ما يخصّ تركيبة هذا الشرق وشعوبه، ومنها ما هو مرتبط بشكل وثيق بالحالة الداخلية الإسرائيليّة نفسها، وثالث، ما يتفاعل مع مصالح عديد القوى الدوليّة التي باتت تدفع بقوة طرديّة وعكسيّة لتعدّد القطبيّة؛ وهو ما ترك ولا يزال آثاره الواضحة على الداخل الأميركيّ الذي يعيش أضعف حالاته التاريخية منذ أن سيطرت أميركا على كامل المشهد حول العالم، باعتبارها زعيمة العالم الحرّ المرتبطة بشكل وثيق بمفاهيم وأدوات الليبرالية.
هنا تحديدًا، وبمنطق القراءة التاريخيّة والماديّة، يُمكننا أن نتحدث عن المطلق والمشروط في الحقل السياسيّ، فمن المطلق الذي تؤمن به شعوب هذه المنطقة، أنّ الكيان الإسرائيليّ، إنّما يثبت يوما بعد آخر أنّه جسم سرطانيّ غريب عنها، وأنّ الدّم الفلسطينيّ والعربيّ النازف، استطاع أن يَحرم الإسرائيلي من سرديّة المظلوميّة، فتحقّقت الكثير من الانتصارات "المعنويّة" على الصعيدين القانونيّ والإنسانيّ؛ غير أنّ هذه الانتصارات لم تأت إلّا على خلفيّة فتح شهيّة القتل والتوحّش والاندفاع المتهوّر، من قبل المشروع الاستعماريّ الاستيطانيّ في فلسطين والمنطقة، باتجاه تحقيق أخطر ما مرّ على الشعب الفلسطينيّ وكامل شعوب المنطقة منذ العام 1948، ألا وهو مشروع التطهير والتصفية والتوسّع؛ تطهير عرقيّ للشعب الفلسطينيّ، وتصفية كلّية لقضيّته، والتوسّع لإقامة حلم إسرائيل الكبرى على حساب المنطقة وشعوبها. مما عرّى حقيقة هذا المشروع وأحلامه التوسعيّة القاتلة.
هذا التعرّي، ذكّر المنطقة وشعوبها، بأن الواقع عادة ما يختلف عن الأحلام، وكثيرًا ما يتعارض مع الأوهام، وأنّ المجابهة المسلّحة التي تخوضها المقاومة الفلسطينيّة والعربيّة اليوم، اتفقنا معها أو لم نتفق، هي إحدى السبل التي ذهبت ترقص مع الدولة الإسرائيلية، رقصة الموت الأخير، مما لعب دورًا مهمًا على مستوى اليقين الذي لم يعد حاضرًا في الوعي الجمعيّ ليهود إسرائيل، تحديدًا على مستوى الأمن، ليس لأنّ إسرائيل لا تمتلك القوة اللازمة، بل لأنّ هوس القوّة وفائضها راح يمارس كلّ هذا التوحّش، ولم يستطع أن يوفّر الحدّ الأدنى من شكل الأمن المطلوب، أو الذي كان قبل تاريخ السابع من أكتوبر، على الرّغم من تغيير اسم الحرب القائمة من "السيوف الحديدية" إلي "حرب القيامة أو الانبعاث"، ما دفع بالكتلة الاستيطانية للانكماش جغرافيًّا باتجاه المركز، وذهب ببعضها إلي الهجرة العكسيّة، هربًا من المواجهة العسكريّة المميتة والاقتصاديّة المكلفة، ما يعني أنّنا إزاء حالة من حالات التآكل الداخلي، تحديدًا علي جبهة العقد الاجتماعيّ بين الدولة ومواطنيها؛ ببساطة لأنّها استهدفت اجتثاث الوعي المقاوم على المستويين الفرديّ والجمعيّ لدى الفلسطينيّين والعرب، وهما من يتميّزان بما يُعرف بالتوالد، توالد الإيمان بفعل المقاومة وضرورتها باعتبارها شكلًا آخر من أشكال الانتصار للحياة ولو عبر الذهاب طواعية إلى الموت، وهي المعادلة التي يتنكر لها شخص وُصف أكاديميًّا، من جامعة بحجم جامعة "هارفارد" بالمعتل نفسيًّا، كما هي شخصيّة نتنياهو الذي يؤرقه عدم تحقيق رؤيته القائلة، أنا الملك الأحق لخلافة داوود، فراح يتّبع سياسة شمشون، عليّ وعلى أعدائي.
ذلك فضلًا عن الهزّة القويّة التي تلقّتها "الخريطة الإدراكية للصهيونية" وفق توصيف الراحل عبد الوهاب المسيري، تحديدًا فيما يخصّ نظريّة "الجدار الحديديّ" الذي انهار نظريًّا وتنفيذيًّا، مقابل السقوط في شرك عدم الاستخدام الأمثل للقوّة، مما أدى إلى تقويض فائض هذه القوّة بمضامينها الردعيّة، وحوّلها إلى ما يُعرف بـ "العجز الأمنيّ" حضورًا واقعيًّا. وهو ما يعني أنّ نتنياهو، الذي حاول التحايل ذهنيًّا على عقدة "العقد الثامن" بالحديث عن حرب الاستقلال الثانية عشية السابع من أكتوبر، والانبعاث بعد مرور عام عليها، فشل في إلغاء حقيقة أنّ دولته تعيش عقدها الثامن فعليًّا وعمليًّا، تمامًا كما لم تفلح الشخصية اليهودية في تعاملها مع أيام السبت بمنطق الآخر الفاعل من الغوييم - أي من الأغيار فيما يسمونه بكافر السبت - حيث لم يوفّر هذا التحايل مساحة حركة ممكنة فيزيائيًّا، أو مقبولةٍ دينيًّا في ذلك اليوم؛ وعليه فإنّ حروب "ميليكوفسكي" الغريب عن الأرض/ نتنياهو المدّعي باسمه المستعار وفعله المتغطرس، امتلاكه لهذه الأرض، مكّنته وقد تمكّنه أكثر من قتل الآلاف من الفلسطينيين العرب تكتيكيًا، ولكنّها ستحجز له مقعدًا خاليًا للتغييب الأبدي استراتيجيًا، ليسجله التاريخ في سطرين كما يقول خصومه السياسيون، سطر يؤكّد أنّ الكارثة الكبرى منذ المحرقة، إنّما وقعت في عهده، وسطر يقول حاول التملص من المسؤولية فطرده شعبه، بعد دفعه إسرائيل إلى الانتحار. ذلك لأن فائض القوّة لا يمكن له إلّا أن يرتد على أصحابه حين لا يعلمون كيف ومتى وأين يستخدم، فكما قالها عامي أيالون أحد رؤساء الشاباك السابقين ذات لقاء: "لا يمكن للإسرائيلي أن يحصل على الأمن، ما لم يحصل الفلسطيني على الأمل".