}

غزة: هل نحن إزاء مشهد في "حرب عالمية ثالثة"؟

أحمد زكارنة 9 فبراير 2024
آراء غزة: هل نحن إزاء مشهد في "حرب عالمية ثالثة"؟
أكثر من نصف المنازل بغزّة تدمرت بسبب القصف الإسرائيلي(Getty)
القاعدة المعمول بها تاريخيًّا أنّ الحروب عادة ما تكون الوسيلة الخشنة للوصول إلى فرض إرادة سياسيّة ما؛ ولكنّها هذه المرّة، والإشارة إلى الحرب الشّعواء على الشّعب الفلسطينيّ في كلّ مكان وزمان، على امتداد الخارطة الفلسطينيّة، بات من الواضح أنّها تحوّلت إلى ورقة التّوت التي إمّا أن تحفظ عورة المنظومة الدّوليّة برمّتها وصراعاتها الجيوسياسيّة والاقتصاديّة والقانونيّة والأخلاقيّة، وإمّا أن تكشفها وتعرّي أنظمتها فتقع الواقعة، ونكون جميعًا حيال حرب عالميّة ثالثة لن تبقي ولن تذر، وإن جاءت على صورة حرب بأساليب وأدوات وأشكال مغايرة عن الحربين العالميّتين الأولى والثانية، خاصّة إن فهمنا جيّدًا تصريح مسؤول السّياسة الخارجيّة للاتّحاد الأوروبي، جوزيف بوريل، وهو يقول: "نحن أمام اختبار لمصداقيّتنا"، وكأنّه يهمس في أذن صنّاع القرار الدّولي أنْ عليكم أن تعيدوا النّظر في سياساتكم ومواقفكم ممّا يحدث في الشّرق، ومع إسرائيل على وجه التّحديد.
إنّ متابعة حثيثة لتصاعد الأحداث في كامل المنطقة، وانتقالها من بقعة جغرافيّة إلى أخرى؛ من غزّة، إلى لبنان، ومنها إلى باب المندب واليمن، وفي قفزة مفاجئة إلى إيران والعراق وسورّية وباكستان، ستنبّهنا إلى أنّ المتحرّك في كامل هذه الأحداث، هو ذاته الثّابت الوحيد فيها، ألا وهو الصّراع العربيّ الإسرائيليّ، الذي اصطلح في العقود الأخيرة على تعريفه بالملفّ الفلسطينيّ.
وإن أردنا التّوسّع أكثر، فعلينا الانتباه إلى خلفيّات وتحدّيات ومآلات هذه الدّورة من العنف المتصاعد في كامل الإقليم، كجزء من عنف أوسع يشمل عديد المناطق والدّول حول العالم، بداية ممّا يمكن أن نطلق عليه "حرب الممرّات"، مرورًا بما اصطلح على تعريفه بـ"الشّرق الأوسط الجديد"، وصولًا إلى ما يمكن أن نسمّيه بـ"العالم الحرّ في طبعته الثّالثة"، وهو ما سيؤدّي بالضّرورة إلى إعادة تحالفات المنطقة والعالم بأسره، على قاعدة جديدة من المصالح المتحرّكة، في سياق حاجة ثابتة وملحّة لصياغة نظام عالميّ متعدّد الأقطاب، بعد تجربتيّ النّظام ثنائيّ القطبيّة، ونظام القطب الواحد.




أمّا خلفيّات هذا الصّراع "القاتل"، أو المحتمل للنّزاع والقتال حدّ الوصول إلى الحرب الشّاملة، تحديدًا بعد الجملة الأميركيّة المعترضة والخطرة في آن، بداية هذه الألفيّة، "من ليس معنا، فهو ضدّنا"، فهي خلفيّات مرتبطة، على الأقلّ في العقدين الأخيرين، ارتباطًا مباشرًا بمصالح القوى العظمى في المنطقة والعالم بأسره، فإنّ الإدارة الأميركيّة وشركاءها الأوروبيّين، وعلى خلفيّة فشل مخطّطاتهم للانتصار في الحرب الأوكرانيّة ضدّ روسيا، لم يعد لهم من مفرّ، إلّا الاستدارة نحو الشّرق، والبحث فيه عن انتصارات كامنة ومحتملة، فمن جهة، هي انتصارات كامنة يحاول من خلالها هذا الحلف الذي تقوده الولايات المتّحدة، زعيمة العالم الحرّ "حتى الآن" أن يعوّض بعض خسائره على المستويين السّياسيّ والاقتصاديّ في الحرب ضدّ روسيا؛ ومن جهة ثانية، هي انتصارات محتملة تحاول إيجاد الصّيغ المناسبة لقطع الطّريق على المنافس الصّينيّ، الذي بدأ وحلفاؤه في إحكام السّيطرة الاقتصاديّة والجيوسياسيّة على مناطق عدة حول العالم، وفي الشّرق تحديدًا.
من هنا تأتي الأهمّيّة الوظيفيّة للدّولة الإسرائيليّة، بوصفها قاعدة المركزيّة الأوروبيّة المتقدّمة في الشّرق، ورأس الحربة الاستعماريّة في كامل المنطقة على الجبهتين العسكريّة والاقتصاديّة، وهو ما يعني ضرورة ضخّ الدّماء في مشروع وضعِها الاستراتيجيّ، كمركز اقتصاديّ أساس ومِحوريّ وراسخ في المنطقة والعالم، ما يُمكّنها من تشكيل البديل الفاعل للنّفط والغاز الرّوسيّ، وطاقة البحر الأبيض المتوسّط من جهة، وحارسة الممرّ التّجاريّ والاقتصاديّ الآمن للمصالح الأميركيّة والأوروبيّة من جهة ثانية، الأمر الذي يُعطي لمفهوم حرب الممرّات أبعاده المنطقيّة والملحّة، ولذا رأينا الهرولة الأوروبيّة إلى تل أبيب عشيّة السّابع من تشرين الأول/ أكتوبر، وسمعنا بايدن وهو يقول: "معجزة إسرائيل هي وجود إسرائيل بحدّ ذاته، فلو لم تكن هناك إسرائيل لعملنا على إقامتها".
إلّا أنّ التّحدّيات الجيوسياسيّة المرتبطة بمنطقة الشرق الأوسط، قبل السّابع من أكتوبر، لم تكن تحدّيات مقبولة من قبل هذا الحلف، كي تكون كذلك بعد هذا التّاريخ الفاصل بين حقبة وأخرى، خاصّة مع إقرار الشّريكَين الأميركيّ والإسرائيليّ أنّ البقعة الجغرافيّة الرّخوة أمنيًّا على المستويين التكتيكيّ والاستراتيجيّ لمشاريعهم تكمن في السّاحل الفلسطينيّ، وتسيطر على جزء أساس منه حركة تحرّر وطنيّ ببعد إسلاميّ هي حركة حماس، بحكم سيطرتها على كامل قطاع غزّة، وهو ما يعني أنّ السّابع من أكتوبر كان سببًا إن لم يقع لافتعلت إسرائيل وداعموها يومًا آخر للهجوم على غزّة بغية السّيطرة العسكريّة عليها بأيّ ثمن كان، ذلك لأنّ المشروع الأميركيّ الإسرائيليّ المزعوم مع بعض الحلفاء العرب، ويدعى "ممرّ بايدن" طريق الهند ـ الشرق الأوسط ـ أوروبا، وهو مشروع عابر للحدود البرّية والمائية، وله أهداف جيوسياسية حساسة وخطرة في آن، إذ يهدف في ما يهدف، بخلاف تصفيته للقضية الفلسطينية، إلى تعزيز موقف الهند في ساحة الصراع والتنافس في مواجهة الصين، فضلًا عن فتحه لباب التطبيع الاقتصادي والسياسي بين إسرائيل والدول العربية على مصراعيه، بحيث يصبح اندماج إسرائيل في المنطقة تحصيل حاصل، بالاتكاء على ما يعرف بـ"السلام الإبراهيمي"، بصرف النظر عن وضع المسألة الفلسطينية. وقد أُعلن عنه في شهر سبتمبر/ أيلول من العام الماضي، على هامش قمة العشرين في الهند، باعتباره أطول ممرات التجارة في العالم، ليصبح المشروع المنافس لمشروع الخصم الصّينيّ وشريكه الرّوسيّ وحلفائهما في المنطقة وخارجها، وهو ما يسمّى مشروع "الحزام والطّريق" الرّابط بين الجنوب والشّمال، ويمدّ خط الوصل بين آسيا وأفريقيا وأوروبا. وفي السّياق، هنالك أيضًا صراع آخر لا يقلّ أهمّيّة وخطورة، يدور في السّاحل الشّرقيّ للبحر الأبيض المتوسّط. وتنخرط فيه بعض الدّول ذات الثّقل السّياسيّ كما تركيّا، ومصر، وإسرائيل، واليونان.

يرى الإسرائيليون أنّ ساحل غزّة هو خاصرة أمنية رخوة على المستويين التكتيكي والاستراتيجي (Getty)


إلّا أنّ الجديد في هذه التّحدّيات مجتمعة يكمن في معضلتين أساسيتين، الأولى: انخراط عدد لا بأس به من حركات التّحرّر الوطنيّ، كما حماس، وحزب الله، والحوثيّين، وغيرهم، في المواجهات المتحرّكة هنا وهناك، وهو ما يُدعى في العلوم العسكريّة بانخراط أطراف "ثالثيّة"، أي ما دون الدّول، ما يعني، أنّ شكل المواجهات العسكريّة التّقليديّة لا يُجدي نفعًا مع حركات مدرّبة بشكل جيّد على حرب العصابات، ولا تخضع للهرميّة العسكريّة، ولا توجد لها معسكرات وقواعد معلومة وثابتة، وتكتسب جماهيريّة واسعة محلّيًّا وإقليميًّا، وتعاطف جماهيري دوليّ بما في ذلك، في الدّاخل الأوروبيّ ذاته. وهو ما أدخل هذا الحلف الغربيّ بزعامة أميركا، في أزمة إدارة الملفّ برمّته، خاصّة مع تورّط الجيش الإسرائيليّ في جرائم حرب حرّكت شوارع وعواصم العالم بأسره، حدّ تحريك دولة كما جنوب أفريقيا دعوى قضائيّة تتّهم إسرائيل ومن يدعمها بجريمة الإبادة الجماعيّة، وهو ما يعد المعضلة الثانية في جديد التحديات غير المتوقعة.
هذا التّحرّك المفاجئ للشّارع الغربيّ على مستوى الرّأي العام، وللجنوب أفريقي على الجبهة القانونيّة، والموقف الرّسميّ لكلّ من الأمم المتّحدة، والمنظّمات الدّوليّة في بعده الأخلاقيّ، فضلًا عن فشل العمليّة العسكريّة البرّيّة للجيش الإسرائيليّ، وانفلات أذرعه الاستخباراتيّة في تنفيذ عمليّات تُدعى بـ"الجراحيّة"، أي عمليّات اغتيال شملت دائرة واسعة من المنطقة، يدفعنا للتّأمّل في مآلات المشهد من جوانبه كافة، خاصّة مع انتباهنا لتصرّف اللاعبين الصّينيّ وحليفه الرّوسيّ، وهما يديران المعركة بأعصاب باردة على المستوى القانونيّ والدّبلوماسيّ والاقتصاديّ في العلن، والجيوسياسيّ الاستراتيجيّ في الخفاء، وكأنّهما يدفعان لتأزيم المشهد أكثر فأكثر، بغية توريط الولايات المتّحدة وحلفائها في وحل المنطقة، واستنزاف قدراتهم العسكريّة والسّياسيّة والاقتصاديّة حدّ الإنهاك.




وهو ما انتبه إليه، على ما يبدو مؤخّرًا، بعض الحلفاء الأوروبيّين، فرفض بعضهم، على سبيل المثال لا الحصر، المشاركة في ما عُرف بحلف "حارس الازدهار" ضدّ الحوثيّين، وأَعلن بعض آخر عن نيّته الاعتراف بالدّولة الفلسطينيّة بشكل رسميّ، كما إسبانيا وبلجيكا وأيرلندا ومالطا، على سبيل المثال.

بدء دوران عجلة الحرب...
سياسة إدارة الصّراع بأعصاب باردة، بهذا المعنى، أو بما أسماه الطّرف الإيرانيّ بـ "الصّبر الاستراتيجيّ" لا يعني أنّ المواجهات لم تبدأ بعد، بل يعني أنّ بعدها الاقتصاديّ الذي تشكّلت نواته الأولى بمجموعة أو تكتّل دول "بريكس"، وتغيّر مسمّاها سريعًا لـ"بريكس بلس"، بعد انضمام ستّ دول جديدة، بعضها عربيّ، بدأ بالتّحرّك الفعليّ في الاشتباك، عبر تقدّم جنوب أفريقيا، التي تنتمي لنسخته الأولى، للمواجهة القانونيّة كخطوة عمليّة ضروريّة وأساسيّة، في اتّجاه إرساء ركائز نظام دوليّ جديد يقوم على التّعدّديّة، ويحترم القانون.
ولا ننسى هنا التّذكير بتوقيع الصّين لمذكّرة تحالف استراتيجيّ مع إيران عام 2021 لخمسة وعشرين عامًا قادمة، بمحفظة ماليّة تتجاوز الـ"400 مليار دولار"، فضلًا عن التّحالف الرّوسيّ الإيرانيّ في الملفّين السّوريّ والعراقيّ، وتحالف هذا الثّلاثيّ مع كوريا الشّماليّة في الملفّ الأوكرانيّ. ما يعني أنّ صورة المشهد الاقتصاديّ والسّياسيّ والعسكريّ تزيد الأمر تعقيدًا أمام الطّرف الأميركيّ وحلفائه المنقسمين حول الخطوة التّالية، ومن سيكون البادئ بها، وتحذّر منها أطراف عديدة حول العالم، بعضهم من داخل المعسكر الغربيّ ذاته، إذ سيؤدّي أيّ انزلاق خطر، بقصد أو من دون قصد، إلى مواجهة عسكريّة شاملة ستنتج دمارًا كبيرًا لكافّة الأطراف، وخاصّة للأطراف المهزومة.
إلا أنّ المتابع للسّلوك المنفلت لنتنياهو، الذي اجتهد في بداية المواجهة مع غزّة في تسويق ما يجري على السّاحة الفلسطينيّة باعتباره مواجهة وجوديّة تكتسب بعدًا عقائديًّا، سينتبه لمحاولته الدّؤوبة تغيير استراتيجيّته، عبر نزعته الواضحة لبعثرة الأوراق، وفتح جبهات أخرى للتّوسّع في الحرب، بغية توريط الحليف الأميركيّ والغربيّ من ورائه، لإشعال المنطقة؛ وهو الأمر الذي إن نجح فيه هذا الزّعيم المريض بداء النّرجسيّة المفرطة؛ المرتجف من مصير بات محتومًا إما بإسقاطه، أو بدخوله السّجن، سيدفع بالمنطقة والعالم بأسره نحو حرب لن تقف أمام حدوده المتخيّلة، ولا حدود خصومه الواضحة، ولكنّها ستكون حربًا مفتوحة وشاملة قد ينخرط فيها بالضّرورة والاحتمال، للأسباب المشار إليها آنفًا، كلّ من الصّين وكوريا الشّماليّة حلفاء روسيا وإيران، وستدور رحاها على المسرح الإقليميّ بشكل أساس قابل للتّوسّع لتشمل أوروبا بغية استهداف دول النّاتو إغلاقًا للملفّ الأوكرانيّ هناك. وهو المشهد الكفيل تحت شرطَيّ النّزعة الواضحة، والممارسة المتعلّقة، باعتبار غزّة بمثابة المشهد الأوّل في حرب عالميّة ثالثة. ببساطة، لأنّ كلّ السّاحات في هذين الصّراعين الممتدّين (الفلسطينيّ، والأوكرانيّ) على خشبة المسرح التّاريخيّ؛ ساحات مفتوحة، ويبدو أن كلّ الاحتمالات واردة.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.