}

استدعاء المنطوق الدّينيّ: هُويّة الصّراع بين التّأكيد والإنكار!

أحمد زكارنة 20 أبريل 2024
استعادات استدعاء المنطوق الدّينيّ: هُويّة الصّراع بين التّأكيد والإنكار!
نتيناهو مع وزير ماليته سموتريتش (Getty)

 

"لقد قتلنا هامان"- قال بنيامين نتنياهو، الذي ما انفكّ يستدعي المنطوق الدّينيّ، منذ اللّحظات الأولى لواقعة السّابع من تشرين الأول/ أكتوبر، مرّة بحديثه المرتبط بتعريف "العماليق"، والقصد هنا "الفلسطينيّون"، وأخرى بأحاديث ذات صلة، كما إشارته إلى سفر إشعياء، ومؤخّرًا هامان. ما يطرح سؤال هذا الاستدعاء: هل هو استدعاء جاء ليشكّل رسالة للاستهلاك السّياسيّ، من باب اللّعب على عواطف التّيّارات المتديّنة في المجتمع اليهوديّ داخليًّا وخارجيًّا، سعيًا وراء كسب تأييدهم؟ أم هو سؤال هُويّة يهوديّة حائرة في اللّحظة الحرجة؟ أم تراه تعبيرًا عن هيمنة المؤسّسة الحاخاميّة في ظلّ أزمة مجتمع صهيونيّ يخيفه سؤال الوجود؟ وربّما يكون الاستدعاء صيغة أخرى لخطاب عقائديّ قديم في سياق سياسة قادمة؟
في هذا المقال، سنحاول الوقوف على الأبعاد الأيديولوجيّة المركّبة لمثل هذا الاستدعاء، هل هي أبعاد تاريخيّة ترتبط بالجغرافيا، أم هي ظروف اجتماعيّة ترتبط بسؤال الهويّة لجماعات غير متجانسة تمّ اختطافها من حاضنتها الوطنيّة بمرجعيّاتها الدّينيّة هي "اليهوديّة"، لزرعها في بيئة أيديولوجيّة هي الصّهيونيّة؟ ونظرًا لاتّساع المجال الدّلاليّ لمثل هذه الأسئلة، وحاجتها لدراسات موسّعة ومعقّدة، سنحاول الإضاءة السّريعة على بعض المقاربات المفيدة في هذا المجال.
ثمّة وجوه عدّة، ومعانٍ كثيرة لهذا الاستدعاء، كي ندخل إليها يجب التّأكيد أولًا على كون العامل الدّينيّ يعدّ الرّافد الأساس لشريعة الحرب لدى اليهود تاريخيًّا، وهو ما أسّسه وغذّاه التّلمود "الذي نفث في اليهود الاحتقار التّامّ للشّعوب التي تؤمن بديانات أخرى"، وفق الرّاحل رشاد عبد الله الشّامي، سواء في تمظهره الشّعبيّ، أو في تعبيراته السّياسيّة، وهو ما يتقاطع مع حال المجتمع الإسرائيليّ شعبيًّا ورسميًّا بشكل واضح وجليّ في العقد الأخير، وبات أكثر وضوحًا في التّعبير السّياسيّ، ونحن نستمع لتصريحات مسؤولين يهود من أمثال سموتريتش، وبن غفير، وغالانت، وإلياهو، ونتنياهو، وعدد لا بأس به من الحاخامات اليهود داخل إسرائيل. وفي الوقت نفسه، تبتعد عن منطوقه ومنطقه وترفضه شرائح واسعة من التّيّار العلمانيّ، بالإضافة لعدد ممّن يطلق عليهم المؤرخون الجدد.
الأمر الذي يؤكّد دخول المجتمع الإسرائيليّ في أزمة عموديّة وعميقة حول سؤالَيّ الهُويّة والوجود. أما سؤال الهُويّة، فمثل هذا المنطوق المتطرّف، قد يحيي الخلاف القائم بالأساس منذ عقود طويلة بين الصّهيونيّة الدّينيّة والصّهيونيّة العلمانيّة، حيث تريد الأولى التّمسّك بـ"التّعريف الدّينيّ للهويّة اليهوديّة، وتصرّ على أن تكون الدّولة الصّهيونيّة دولة يهوديّة"، فيما تدفع الثّانية بالمجتمع الإسرائيليّ نحو "تطبيع" اليهود لجعلهم شعبًا مثل كلّ شعوب الأرض، أي "مثل الشّعوب الغربيّة التي تدور في إطار التّشكيل الحضاريّ الغربيّ" حسب تفسير الرّاحل عبد الوهاب المسيري.
أمّا سؤال الوجود، فمن الملاحظ أنّ أزمة مجتمع "الدّولة الدّينيّة" وفق إقرار قانون القوميّة، تكمن في حياة الانفصام الفاضح الذي تحياه الغالبيّة العظمى من المجتمع؛ فهو من جهة مجتمع نهض على ثوابت عقائديّة واضحة شكّلت مقولاته الأولى لوضع اللّبنات الأساس لتسويق احتلاله لأراضي الغير، بوصفها الأرض الموعودة لشعب الله المختار، ومن الجهة الأخرى مارس هذا المجتمع ولا يزال يمارس حياة علمانيّة استهلاكيّة بعيدة كلّ البعد عن مرجعيّاته الدّينيّة، إلّا ما نطق به اللّسان للاستهلاك السّياسيّ.




من هنا، حاول نتنياهو أن يصبغ سياسات التّطهير العرقيّ العنصريّة الإقصائيّة، بصبغة دينيّة عصريّة لا تسقط البعد التّاريخيّ قدر ما تستفيد منه، لصياغة خطاب استعلائيّ يؤطّر فكرة هم ونحن، على نحو يضفي هالة عقائديّة يُمكنها أن تُجرِّم أيَّ نقد سياسيّ أو قانونيّ، وفي الوقت ذاته تسمح بمزيد من إراقة الدّماء، في محاولة واضحة لإرساء ضمانات أخلاقيّة وتشريعيّة، تبرّر الممارسات والسّلوكيّات الإجراميّة، في واحدة من أغرب المقاربات التي يمكن أن يسجّلها التّاريخ الحديث في خانة "هوس القوّة وفائضها".
ولأنّ اللّغة ليست أداة محايدة، فإنّ منطوق الأدبيّات التّلموديّة، يذكّرنا بسياسات المركزيّة الأوروبيّة بشكل عامّ، وسياسات الامبرياليّة الأميركيّة على وجه التّحديد، حينما سمّى كلا الطرفين حربهما الضّروس على الإسلام بشكل أساس، والمنطقة بصفة خاصّة، بعد الحادي عشر من سبتمبر، بالحملة الصّليبيّة، ممّا يعنى أنّ الآخر النّقيض المستعمر الإمبرياليّ وحليفه الصّهيونيّ، إنّما ينطلقون في استهداف المنطقة من منطلقات دينيّة واضحة وصريحة، فما قصة العماليق إلا تعبير صريح يهدف إلى تشريع إبادة الآخر بكلّ مكوّناته الاجتماعيّة والحضاريّة، وما قصّة إشعياء إلا هدف آخر يشمل كامل المنطقة العربيّة على أرضيّة ضرورة قيام "إسرائيل الكبرى" من النّيل إلى الفرات، من منطلق دينيّ، ويشكّل ما أسموه بالشّرق الأوسط الجديد من بعد سياسيّ، فيما لم تستدعِ شخصيّة مثل هامان بكلّ ما تحمله من دلالات، على سبيل المصادفة في ظلّ الحروب القذرة التي تديرها العقليّة الاستعماريّة الغربيّة وربيبتها إسرائيل، ضدّ ما يعرف بمحور المقاومة، وعلى رأسه الفرس، حسب المنطوق الدّينيّ، "إيران حديثًا"، بكلّ أجنحتها، أو "وكلائها"، وفق التّوصيف الإسرائيليّ، على الرّغم من الاختلاف المذهبيّ بين أجنحة هذا التّيّار.
فإنّ تأمّلًا بسيطًا في استعارات مثل هذه الخطابات، وتحليل مدركاتها، يحيلنا بالضّرورة إلى أنّ قوى الاستعمار تنظر إلى الآخر النّقيض وفق تصوّرات عقائديّة ثقافيّة أيديولوجيّة تنهض على فكرة تفوّق جنس بشريّ على آخر، كما توظيف هتلر لمفهوم "العرق الآريّ"، والصّهيونيّة لمفهوم "شعب الله المختار"، وفى الحالتين إنّ العداء بوصفه مرجعيّة أساسيّة لا يمكن أن يكون إلا للحضارة العربيّة الإسلاميّة باعتبارها صوت وصورة النّقيض الفيزيائيّ، الذي تؤهّله حضارته ومبادئه لإمكانيّة تشكيل حالة فكريّة عقائديّة تمتلك مقوّماتها التّاريخيّة والجغرافيّة والبشريّة، بتصوّراتها الأخلاقيّة، وهو ما عبرت عنه إحدى فقرات وثيقة كامبل السّرّيّة عام 1907 لحظة تناولها للدّول التي لا تقع ضمن الحضارة الغربيّة المسيحيّة، ويوجد تصادم حضاريّ معها، وتشكّل تهديدًا لتفوّقها (وهي بالتّحديد الدّول العربيّة بشكل خاصّ والإسلاميّة بشكل عامّ) والواجب تجاه تلك الدّول هو حرمانها من الدّعم، ومن اكتساب العلوم والمعارف التّقنيّة، ومحاربة أيّ اتّجاه من هذه الدّول لامتلاك العلوم التّقنيّة.
هنا يجب الاعتراف بأنّ الحديث عن البعد الدّينيّ للصّراع العربيّ الصّهيونيّ إنّما يدفعنا إلى ثنائيّة ضدّيّة فريدة من نوعها، هي ثنائيّة التّأكيد والإنكار، ففي الوقت الذي يؤكّد فيه الآخر النّقيض المستعمر أنّ الصّراع هو صراع عقائديّ يعبّر عن حالة تدافع وجود لا حدود، ينكر بعضنا، العربيّ والإسلاميّ، منطلقاته العقائديّة متمسّكين بفكرة اعتباره صراعًا سياسيًّا بكلّ مخرجاته الجغرافيّة والسّياسيّة والاقتصاديّة، علمًا بأنّ الأوّل ليس صحيحًا مطلقًا، والثاني ليس منفصلًا تمامًا، ذلك لأنّ الصّهيونيّة هي في الأساس أيديولوجيا تنهض على ركائز علمانيّة وظّفت ولا تزال الدّين لأغراض دنيويّة. وفي المقابل، فإنّ منطق التّعامل مع الصّراع بوصفه صراعًا سياسيًّا وحسب يفقده دوافعه التّاريخيّة والحضاريّة، وهو ما يؤكّد أنّ هذا الاستدعاء ليس بريئًا، ولن يتوقّف ما لم يجابه على أقلّ تقدير بحسم الموقف من هويّة الصّراع عربيًّا وإسلاميًّا، كي لا تبقى حائرة بين التّأكيد والإنكار.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.