مرَّ خبر صغير، في ازدحام الأخبار التي نغرق فيها منذ أكثر من عام بالنسبة للحرب على غزة، وحاليًا على لبنان، ونحو عقد ونصف العقد على الحرب السورية، بلدي التي أنحدر منها، خبر ربما لا يعني الكثير قياسًا بالهمجية التي تتخلَّق في المنطقة، خاصة لبنان اليوم. قال الخبر العابر إنَّ قصفًا في منطقة الشويفات طاول محيط "معمل غندور".
قصف معمل بلاط، أو معمل بسكويت لا يشكِّل قيمة تُذكر أمام قصف الأبنية وتدميرها فوق رؤوس ساكنيها الآمنين وتشريد من بقي منهم في قيد الحياة، لكنَّه دوَّى في رأسي وقلبي ففتح ثغرة راحت تتَّسع وتتمادى حتى لفَّ الألم روحي، أنا المرأة التي تنتمي إلى جيل، ربما يُعدّ من الأجيال التي صار المستقبل وراءها، بعد أن راكم عمرًا، كوَّنه وتكوَّن فيه، تاريخ ارتبط بالقضية الفلسطينية، وكبر على شعارات كبيرة، بينما صدى الهزائم يترجَّع في أعماقه، وشهد عدة حروب وعاش تحوُّلات كثيرة، مخفية أو مواربة حينًا، وصريحة وواضحة حينًا آخر.
نعم، هزَّ وجداني مجرَّد تخيُّل أنَّ المعمل قُصِف أو طاوله الخراب، ليس لأهمية المعمل بالنسبة إليَّ، إنما لارتباطه بعالمي الماضي الذي تقوَّض، "عالم الأمس" على حدِّ تعبير شتيفن تسفايغ، النمساوي الذي كان شاهدًا على "نسف" ماضي أوروبا، وإعادة تشكيل خارطتها على مدى حربين عالميتين، لقد انتحر قبل أن يشهد نهاية الحرب العالمية الثانية، تحت ضغط الخلل الذي أحدثه تدمير ماضيه/ ماضي أوروبا، في وجدانه، وبعد أن كتب مرثيته لذاك الأمس.
الخبر الذي جعل علبة مكعَّبة مكتوب عليها "غندور" وتحتها علامة 555، تدخل سورية "تهريبًا" من لبنان، تحتلّ شاشة وعيي وتجرّ خلفها عمري كلَّه، دفعني مجدَّدًا إلى مواجهة واقع، طالما عملت على طمره تحت غبار نسيان زائف، كنت أتعمَّد النسيان كي أحتمل العيش في وقت "مستقطع" من عمري القصير، هذا الوقت المستقطع يقضم سنواتي الباقية، ويتمادى على روحي. أين عالم أمسي؟ أين ذاك الطعم الحلو الذي ينهض اليوم في وجداني يقاوم المرارة التي تجتاحني؟
يقول تسفايغ: "الزمن يقدِّم الصور، وأنا أنطق بالكلمات المرافقة لها ليس غير، وما أرويه في واقع الأمر، ليس مجرى قدري الخاص، بقدر ما هو قدر جيل بالكامل، جيل عصرنا الذي أثقله عبء مصير قلَّما أثقل جيلًا آخر في سياق التاريخ".
الصور، نحن لا ننجو من الصور، ليس صور ذلك الماضي فحسب، بل صور واقع نعيشه بكثافة، وفي كل لحظة تتحوَّل هذه الصور إلى ماضٍ يكاد يحرق ماضينا ذاك، هذا بالنسبة لنا، نحن الجيل الذي كان لديه ماضٍ في بلاده، ماضٍ ربما يشعر بعضنا بحنين تجاهه، ويعيش مرثية مستمرة عليه، ومنهم من يقول، كما قال ذات يوم الشاعر السوري منذر مصري، فأثار عاصفة من الاستنكار بقوله "ليتها لم تكن" على الرغم مما يحمل القول من "تفجُّع" المحبِّ على ما كان أمام هول ما وقع.
فهل صحيح أنَّ "الإنسان الشريد يغدو حرًّا بمعنى جديد، إذ أنَّ من يفقد صلاته كلها هو الوحيد الذي لا يلزمه أي تحفُّظ فكري"؟ في الواقع هذا السؤال إشكالي إلى حدٍّ ما. فهل فقدنا صلاتنا كلَّها؟ بالطبع لا، في عصرنا الحالي، عصر الرقمنة والإنترنت والعالم المفتوح وعصر الوسائط، خاصة الاجتماعية منها، ما زلنا مقيَّدين إلى ذلك الماضي، إنما الماضي الذي لم يعد معيَّنًا، نحن نعيش في "اللا تعيين" في الزمان والمكان، بعدما دُمِّرت كل الجسور التي تربطنا بذاك الماضي وبقيت صوره محفوظة إما في الذاكرة أو في الإنترنت والمواقع، ليس لدى الذين يعيشون في الغربة فحسب، بل حتى أولئك الموزَّعين في دول اللجوء، أو في مناطق النزوح، في مخيَّمات أو في دول لها قوانينها ومؤسَّساتها، كلُّنا نعاني من انفصال حاد عن الماضي، عن "عالم الأمس" خاصَّتنا، بعد أن تغيَّر كل شيء، من قيمة العملة وشكل أوراقها المطبوعة، حتى تفاصيل الحياة اليومية بخدماتها البديهية التي فقدناها، إلى غياب الأقران والرفاق والأصدقاء ومن كانوا أعمدة حياتنا، لقد تحوَّلت حياتنا بصورة دراماتيكية.
سؤال "عالم الأمس"، وذاكرة طفولة هاربة لديَّ أحيتها صور ومذاق بسكويت غندور في بالي، فاستدرجت معها كل الشجن والألم واللا جدوى المبطَّنة بالعدم، رماني أمام مشاهد الأطفال الهاربين من الحروب والنزاعات، أطفال غزة وأطفال سكان الضاحية والجنوب اللبناني، وقبلها أطفال سورية، أطفال بقوا أحياء وصاروا شهودًا على مجازر البشر والحجر، غادروا طفولتهم بسرعة ضوئية وصاروا كهولًا، بل شيوخًا، لم يمرُّوا بمراحل العمر الطبيعية، أطفال لم يستطيعوا أن يكوِّنوا ذاكرة تشبه بسكويت غندور، ولا ساحات لعب تلوِّن سماءها طائرات ورقية، ولا طرقات يمشون فيها سوى مسارات النزوح كمن يدور في فضاء مغلق، أي عالم يتأسَّس لدى أطفال اليوم؟
من المفروغ منه أنَّ البالغين لديهم عمومًا مساحة أكبر. يمكنهم التصرُّف ومساعدة بعضهم بعضًا وتنظيم هروبهم أو صمودهم، أما الأطفال فكلَّما كانوا أصغر، زاد اعتمادهم على المساعدة الخارجية وحاجتهم إلى الدعم من أجل التمكُّن الأوَّلي بالحياة. والأمر المفروغ منه أنهم ليست لديهم سيطرة على ما يحدث. عندما تضطر الأسرة إلى الفرار، لا يفهم الأطفال المبرِّر. تقول ريتا روزنر، المديرة الطبية لعيادة اللاجئين الخارجية في المركز الطبي الجامعي هامبورغ- إيبندورف (UKE): "من لحظة إلى أخرى وبدون تفسير، تنهار حياتهم". كما أنَّ درجة العجز التي تعاني منها تجعلك أكثر عرضة للخطر على المدى الطويل. وتشير إلى أنَّ أكثر ما يشعر الأطفال بالرعب والأذى بسببه هو "رؤية الأب أو الأم ينزفان"، إنه حالة مجسَّدة للذعر، للخوف الوجودي، فالأم والأب هما ضامنا الحياة.
أجيال تولد وتنمو وتتكوَّن في ظروف الحرب، أي معانٍ سوف تشكِّلها عن الحياة؟ عن البيت؟ عن الأسرة؟ عن الحي؟ عن المدينة والوطن والمستقبل؟ وأي ماضٍ سترتسم صوره في الذاكرة؟ سيكون ماضيًا بالفعل، إنما ما مدى الحنين إليه؟ الحنين إلى الماضي حالة طبيعية عند الإنسان بكل سلبياته وإيجابياته، بما هو جميل وبما هو مؤلم، إنه الحجارة التي يرصفها الإنسان في مروره بالحياة، لكنَّ هذا الماضي المتمادي بجبروته وتهديده وانغلاقه على حيثياته الحارقة وهبابها الذي يغلِّف الحياة بينما الأطفال يكبرون، لا يمكن أن يفسح مجالًا للحنين، إنما ليس فيه ما يجعله مفصولًا عن اليوم والغد، ماضٍ يخلق متاهته الجبَّارة، وأطفال يولدون ويبدِّدون حياتهم، بل حياتهم تتبدَّد، في هذه الزوبعة السوداء.
هناك علاقة مثبتة بوضوح بين الجرعة والاستجابة مع عواقب الصدمة. "إنَّ المؤشِّر الحاسم لما إذا كان شخص ما سيصاب لاحقًا بمرض عقلي أو جسدي هو عبء الصدمة، أي عدد الأحداث الرهيبة ومدى التخلِّي عن الذات العقلية في أثناء الصدمة"، كما تقول إيريس تاتيانا كولاسا، باحثة الإجهاد والصدمات في جامعة أولم. كيف يمكن تحديد فظاعة الجرعة؟ إنها كمن يجعل الأطفال يتجرَّعون بالقوة والقهر دلاء من السموم التي تقتل ببطء، تحيلهم كائنات عاجزة عاطلة غير منتجة للحياة، بينما لديها ذاكرة جبَّارة مجرمة من الصور القاتلة.
تقول روزنر أيضًا: "كل حرب تنتج نمطها الخاص"، الحرب ليست هي نفسها بالنسبة للجميع، فهي تشرح وجهة نظرها لناحية المعاناة والظروف الفردية، أو الاستجابة الشخصية "يمكن لبعض الناس الهروب بسرعة إلى أقاربهم في الخارج، في حين أنَّ البعض الآخر عالق ويعاني من سلسلة من الأحداث المروِّعة. أولئك الذين يشهدون القتل من مسافة قريبة، يصابون هم أنفسهم، وهم في خطر مميت، ولكن قبل كل شيء أولئك الذين يفقدون أقاربهم المقرَّبين، هم أكثر عرضة لخطر المضاعفات النفسية".
وماذا عن تأثير الحرب نفسها التي تشنُّها إسرائيل في غزة أو في لبنان على أطفال وسكان إسرائيل؟ مؤكَّد أنَّ المعاناة ليست نفسها، ومخرجات الحرب ليست نفسها أيضًا، وأنَّ عالم الأمس الذي يتشكَّل لديهم ليست صوره كصور أطفال غزة ولبنان التي تتراكم في رؤوسهم وتشكِّل أرشيفًا من الرعب والاضطراب لا يستطيعون التخلُّص منه؟
"عالم الأمس" لدى هذه الأجيال التي تكبر من دون مقوِّمات العالم الجديرين به، العالم البديهي بالنسبة إلى أي إنسان، عالم يتشكَّل في جوٍّ من الحروب والنزوح الدائم والفقدان المستمر، بدلًا من الاستقرار والكسب الدائم، كسب العيش، كسب اللهو واللعب، كسب العناية الصحية، كسب التعليم، كسب التكوين المعرفي، كسب المهارات، كسب القدرة على تكوين العلاقات، كسب كل ما هو لصيق بالحياة الطبيعية، أطفال يولدون تحت القصف والدمار، يكبرون في المخيَّمات، من دون هدف أو طموح، حياتهم لا تشبه حتى حياة البدو، أولئك المجموعة من البشر الذين تفرض عليهم الحياة التي اختاروها، أدواتها وطرائق تحقُّقها، فهم يتنقَّلون لأنَّ اقتصادهم المعيشي يقوم على طلب المرعى لمواشيهم، أما أولئك الأطفال المولودون في المدن الواقعة تحت القصف، فلا ضمان للحياة لديهم، ولا أمان، ولا طموح ولا أحلام، وبالتالي عالم أمسهم سيبقى يلاحقهم بذاكرة موجعة، ويتحرَّش بهم بما أخذ من أعمارهم ورماهم بعيدين عن العصر.
كل فرد ينتمي إلى قيم الإنسانية يرفض استهداف الأطفال والمدنيين في الحروب والنزاعات، بل يرفض منطق الحروب كلِّها، لكن أن يقف قادة وزعماء من العالم تلك الوقفة الخاشعة أمام ضحايا إسرائيل من دون أن يلامس ضميرهم مشهد عشرات الآلاف من أطفال هذه المنطقة وهم معبَّؤون في أكياس للدفن الجماعي، فلا يبقى للضحية مساحة قبر تخصُّها، يقابلهم عشرات الآلاف من المصابين بعجز نتيجة بتر أو جروح لا تُشفى بسبب القذائف الحاقدة، وغيرهم من عشرات الآلاف أيضًا ممَّن لا يستطيعون إغماض أعينهم للنوم، بينما سيغمضونها بعد أن تنتهي الحرب على صور ذاكرة تعيد استعار الجحيم الذي عاشوه كل لحظة، فتحرمهم النوم مجدَّدًا، ويكبرون وتكبر معهم اضطرابات ما بعد الصدمة، أو الاكتئاب، وربما الانتحار. هذه الازدواجية في التعاطف أو التقدير صورة فجَّة عن هذه الأنظمة الوقحة التي تدَّعي احترام حقوق الإنسان، وتدافع عن قيم العدالة والكرامة والمساواة.
أشعر بالخجل، حتى لو كان عالم أمسي تبخَّر ولم يبقَ منه غير الصور التي تثير شجني، أمام أطفال يولدون ويُحسبون على الحياة من دون أن يكون لديهم حتى ذاكرة تشبه "بسكويت غندور".
نعم، هزَّ وجداني مجرَّد تخيُّل أنَّ المعمل قُصِف أو طاوله الخراب، ليس لأهمية المعمل بالنسبة إليَّ، إنما لارتباطه بعالمي الماضي الذي تقوَّض، "عالم الأمس" على حدِّ تعبير شتيفن تسفايغ، النمساوي الذي كان شاهدًا على "نسف" ماضي أوروبا، وإعادة تشكيل خارطتها على مدى حربين عالميتين، لقد انتحر قبل أن يشهد نهاية الحرب العالمية الثانية، تحت ضغط الخلل الذي أحدثه تدمير ماضيه/ ماضي أوروبا، في وجدانه، وبعد أن كتب مرثيته لذاك الأمس.
الخبر الذي جعل علبة مكعَّبة مكتوب عليها "غندور" وتحتها علامة 555، تدخل سورية "تهريبًا" من لبنان، تحتلّ شاشة وعيي وتجرّ خلفها عمري كلَّه، دفعني مجدَّدًا إلى مواجهة واقع، طالما عملت على طمره تحت غبار نسيان زائف، كنت أتعمَّد النسيان كي أحتمل العيش في وقت "مستقطع" من عمري القصير، هذا الوقت المستقطع يقضم سنواتي الباقية، ويتمادى على روحي. أين عالم أمسي؟ أين ذاك الطعم الحلو الذي ينهض اليوم في وجداني يقاوم المرارة التي تجتاحني؟
يقول تسفايغ: "الزمن يقدِّم الصور، وأنا أنطق بالكلمات المرافقة لها ليس غير، وما أرويه في واقع الأمر، ليس مجرى قدري الخاص، بقدر ما هو قدر جيل بالكامل، جيل عصرنا الذي أثقله عبء مصير قلَّما أثقل جيلًا آخر في سياق التاريخ".
الصور، نحن لا ننجو من الصور، ليس صور ذلك الماضي فحسب، بل صور واقع نعيشه بكثافة، وفي كل لحظة تتحوَّل هذه الصور إلى ماضٍ يكاد يحرق ماضينا ذاك، هذا بالنسبة لنا، نحن الجيل الذي كان لديه ماضٍ في بلاده، ماضٍ ربما يشعر بعضنا بحنين تجاهه، ويعيش مرثية مستمرة عليه، ومنهم من يقول، كما قال ذات يوم الشاعر السوري منذر مصري، فأثار عاصفة من الاستنكار بقوله "ليتها لم تكن" على الرغم مما يحمل القول من "تفجُّع" المحبِّ على ما كان أمام هول ما وقع.
فهل صحيح أنَّ "الإنسان الشريد يغدو حرًّا بمعنى جديد، إذ أنَّ من يفقد صلاته كلها هو الوحيد الذي لا يلزمه أي تحفُّظ فكري"؟ في الواقع هذا السؤال إشكالي إلى حدٍّ ما. فهل فقدنا صلاتنا كلَّها؟ بالطبع لا، في عصرنا الحالي، عصر الرقمنة والإنترنت والعالم المفتوح وعصر الوسائط، خاصة الاجتماعية منها، ما زلنا مقيَّدين إلى ذلك الماضي، إنما الماضي الذي لم يعد معيَّنًا، نحن نعيش في "اللا تعيين" في الزمان والمكان، بعدما دُمِّرت كل الجسور التي تربطنا بذاك الماضي وبقيت صوره محفوظة إما في الذاكرة أو في الإنترنت والمواقع، ليس لدى الذين يعيشون في الغربة فحسب، بل حتى أولئك الموزَّعين في دول اللجوء، أو في مناطق النزوح، في مخيَّمات أو في دول لها قوانينها ومؤسَّساتها، كلُّنا نعاني من انفصال حاد عن الماضي، عن "عالم الأمس" خاصَّتنا، بعد أن تغيَّر كل شيء، من قيمة العملة وشكل أوراقها المطبوعة، حتى تفاصيل الحياة اليومية بخدماتها البديهية التي فقدناها، إلى غياب الأقران والرفاق والأصدقاء ومن كانوا أعمدة حياتنا، لقد تحوَّلت حياتنا بصورة دراماتيكية.
سؤال "عالم الأمس"، وذاكرة طفولة هاربة لديَّ أحيتها صور ومذاق بسكويت غندور في بالي، فاستدرجت معها كل الشجن والألم واللا جدوى المبطَّنة بالعدم، رماني أمام مشاهد الأطفال الهاربين من الحروب والنزاعات، أطفال غزة وأطفال سكان الضاحية والجنوب اللبناني، وقبلها أطفال سورية، أطفال بقوا أحياء وصاروا شهودًا على مجازر البشر والحجر، غادروا طفولتهم بسرعة ضوئية وصاروا كهولًا، بل شيوخًا، لم يمرُّوا بمراحل العمر الطبيعية، أطفال لم يستطيعوا أن يكوِّنوا ذاكرة تشبه بسكويت غندور، ولا ساحات لعب تلوِّن سماءها طائرات ورقية، ولا طرقات يمشون فيها سوى مسارات النزوح كمن يدور في فضاء مغلق، أي عالم يتأسَّس لدى أطفال اليوم؟
من المفروغ منه أنَّ البالغين لديهم عمومًا مساحة أكبر. يمكنهم التصرُّف ومساعدة بعضهم بعضًا وتنظيم هروبهم أو صمودهم، أما الأطفال فكلَّما كانوا أصغر، زاد اعتمادهم على المساعدة الخارجية وحاجتهم إلى الدعم من أجل التمكُّن الأوَّلي بالحياة. والأمر المفروغ منه أنهم ليست لديهم سيطرة على ما يحدث. عندما تضطر الأسرة إلى الفرار، لا يفهم الأطفال المبرِّر. تقول ريتا روزنر، المديرة الطبية لعيادة اللاجئين الخارجية في المركز الطبي الجامعي هامبورغ- إيبندورف (UKE): "من لحظة إلى أخرى وبدون تفسير، تنهار حياتهم". كما أنَّ درجة العجز التي تعاني منها تجعلك أكثر عرضة للخطر على المدى الطويل. وتشير إلى أنَّ أكثر ما يشعر الأطفال بالرعب والأذى بسببه هو "رؤية الأب أو الأم ينزفان"، إنه حالة مجسَّدة للذعر، للخوف الوجودي، فالأم والأب هما ضامنا الحياة.
أجيال تولد وتنمو وتتكوَّن في ظروف الحرب، أي معانٍ سوف تشكِّلها عن الحياة؟ عن البيت؟ عن الأسرة؟ عن الحي؟ عن المدينة والوطن والمستقبل؟ وأي ماضٍ سترتسم صوره في الذاكرة؟ سيكون ماضيًا بالفعل، إنما ما مدى الحنين إليه؟ الحنين إلى الماضي حالة طبيعية عند الإنسان بكل سلبياته وإيجابياته، بما هو جميل وبما هو مؤلم، إنه الحجارة التي يرصفها الإنسان في مروره بالحياة، لكنَّ هذا الماضي المتمادي بجبروته وتهديده وانغلاقه على حيثياته الحارقة وهبابها الذي يغلِّف الحياة بينما الأطفال يكبرون، لا يمكن أن يفسح مجالًا للحنين، إنما ليس فيه ما يجعله مفصولًا عن اليوم والغد، ماضٍ يخلق متاهته الجبَّارة، وأطفال يولدون ويبدِّدون حياتهم، بل حياتهم تتبدَّد، في هذه الزوبعة السوداء.
هناك علاقة مثبتة بوضوح بين الجرعة والاستجابة مع عواقب الصدمة. "إنَّ المؤشِّر الحاسم لما إذا كان شخص ما سيصاب لاحقًا بمرض عقلي أو جسدي هو عبء الصدمة، أي عدد الأحداث الرهيبة ومدى التخلِّي عن الذات العقلية في أثناء الصدمة"، كما تقول إيريس تاتيانا كولاسا، باحثة الإجهاد والصدمات في جامعة أولم. كيف يمكن تحديد فظاعة الجرعة؟ إنها كمن يجعل الأطفال يتجرَّعون بالقوة والقهر دلاء من السموم التي تقتل ببطء، تحيلهم كائنات عاجزة عاطلة غير منتجة للحياة، بينما لديها ذاكرة جبَّارة مجرمة من الصور القاتلة.
تقول روزنر أيضًا: "كل حرب تنتج نمطها الخاص"، الحرب ليست هي نفسها بالنسبة للجميع، فهي تشرح وجهة نظرها لناحية المعاناة والظروف الفردية، أو الاستجابة الشخصية "يمكن لبعض الناس الهروب بسرعة إلى أقاربهم في الخارج، في حين أنَّ البعض الآخر عالق ويعاني من سلسلة من الأحداث المروِّعة. أولئك الذين يشهدون القتل من مسافة قريبة، يصابون هم أنفسهم، وهم في خطر مميت، ولكن قبل كل شيء أولئك الذين يفقدون أقاربهم المقرَّبين، هم أكثر عرضة لخطر المضاعفات النفسية".
وماذا عن تأثير الحرب نفسها التي تشنُّها إسرائيل في غزة أو في لبنان على أطفال وسكان إسرائيل؟ مؤكَّد أنَّ المعاناة ليست نفسها، ومخرجات الحرب ليست نفسها أيضًا، وأنَّ عالم الأمس الذي يتشكَّل لديهم ليست صوره كصور أطفال غزة ولبنان التي تتراكم في رؤوسهم وتشكِّل أرشيفًا من الرعب والاضطراب لا يستطيعون التخلُّص منه؟
"عالم الأمس" لدى هذه الأجيال التي تكبر من دون مقوِّمات العالم الجديرين به، العالم البديهي بالنسبة إلى أي إنسان، عالم يتشكَّل في جوٍّ من الحروب والنزوح الدائم والفقدان المستمر، بدلًا من الاستقرار والكسب الدائم، كسب العيش، كسب اللهو واللعب، كسب العناية الصحية، كسب التعليم، كسب التكوين المعرفي، كسب المهارات، كسب القدرة على تكوين العلاقات، كسب كل ما هو لصيق بالحياة الطبيعية، أطفال يولدون تحت القصف والدمار، يكبرون في المخيَّمات، من دون هدف أو طموح، حياتهم لا تشبه حتى حياة البدو، أولئك المجموعة من البشر الذين تفرض عليهم الحياة التي اختاروها، أدواتها وطرائق تحقُّقها، فهم يتنقَّلون لأنَّ اقتصادهم المعيشي يقوم على طلب المرعى لمواشيهم، أما أولئك الأطفال المولودون في المدن الواقعة تحت القصف، فلا ضمان للحياة لديهم، ولا أمان، ولا طموح ولا أحلام، وبالتالي عالم أمسهم سيبقى يلاحقهم بذاكرة موجعة، ويتحرَّش بهم بما أخذ من أعمارهم ورماهم بعيدين عن العصر.
كل فرد ينتمي إلى قيم الإنسانية يرفض استهداف الأطفال والمدنيين في الحروب والنزاعات، بل يرفض منطق الحروب كلِّها، لكن أن يقف قادة وزعماء من العالم تلك الوقفة الخاشعة أمام ضحايا إسرائيل من دون أن يلامس ضميرهم مشهد عشرات الآلاف من أطفال هذه المنطقة وهم معبَّؤون في أكياس للدفن الجماعي، فلا يبقى للضحية مساحة قبر تخصُّها، يقابلهم عشرات الآلاف من المصابين بعجز نتيجة بتر أو جروح لا تُشفى بسبب القذائف الحاقدة، وغيرهم من عشرات الآلاف أيضًا ممَّن لا يستطيعون إغماض أعينهم للنوم، بينما سيغمضونها بعد أن تنتهي الحرب على صور ذاكرة تعيد استعار الجحيم الذي عاشوه كل لحظة، فتحرمهم النوم مجدَّدًا، ويكبرون وتكبر معهم اضطرابات ما بعد الصدمة، أو الاكتئاب، وربما الانتحار. هذه الازدواجية في التعاطف أو التقدير صورة فجَّة عن هذه الأنظمة الوقحة التي تدَّعي احترام حقوق الإنسان، وتدافع عن قيم العدالة والكرامة والمساواة.
أشعر بالخجل، حتى لو كان عالم أمسي تبخَّر ولم يبقَ منه غير الصور التي تثير شجني، أمام أطفال يولدون ويُحسبون على الحياة من دون أن يكون لديهم حتى ذاكرة تشبه "بسكويت غندور".