-1-
في سنة 2019 نشر الأديب محمد الأشعري رواية "العين القديمة"، وبعد سنتين، في 2021، نشر أخرى بعنوان "من خشب وطين". وهما روايتان نموذجيتان للأدب الذي يقدّم مغامرة الإنسان في العالم، وانحيازه إلى التشكيك في عصره وماضيه، بل في طبيعته البشرية. وقد نجح جنس الرواية في مساعدة هذا الإنسان على الهروب من قبضة شيء ما، من الرتابة، من تعب الحياة اليومية.
إن محمد الأشعري لا يطرح في الروايتين، ومن المؤكد أنه فعل ذلك في أعمال سردية وشعرية سابقة، تاريخًا سياسيًا، أو تاريخًا لمسار الأيديولوجيا اليسارية في المغرب، بل يطرح تاريخًا للذات، وتاريخًا لمسار الأسلوب الروائي بالمغرب والعالم العربي. وما سنسجله هنا من ملاحظات وأفكار وتحليل، ما هو إلا لبنات أولية لتحليل أشمل.
-2-
الخروج من وجود إلى وجود آخر يتطلب تهييئًا، منطقًا، تدبيرًا، في الوجود وفي الرواية. يتقلّب "مسعود"، الشخصية الرئيسية في رواية "العين القديمة"، على جميع أوجهه، كما يقلّب كل الأوراق التي أمامه على الواقع، أو وراءه في ذاكرته، ليبرّر السلوك الذي سيقدم عليه، ليضع قاعدة لانطلاق أفعاله. يعرض كل الأزمات، أشدّها وقعًا على قلبه موت زوجته هيلين؛ وكل العواصم، أكبرها وأعقدها روما وباريس ثم الدار البيضاء، وكل الأشخاص الذين تبدو عليهم مركبات النقص، في مقدمتهم "الآخر"، بل وفي ريادتهم هو نفسه "مسعود" المنقسم، الذي مارس السياسة وآمن بأحداث عالمية كبرى (أيار/ مايو 1968)، البيروقراطي، المهتم بالآرديكو والعمارة الكولونيالية... لكن، وهذا في غاية الأهمية، ما أن تُذكر كلمة تاريخية معقّدة مثل "كولونيال" حتى تلعب في خيالنا الأفكار المتعدّدة الألوان.
ما هي عناصر الشخصية الروائية التي ينبغي وصفها؟ هي في المجمل ستة:
- طباعها؛ مسعود شخصية متقلبة، منقسمة الرأي. عنيف إلى حدّ ما، يحمل حنينًا فلسفيًا إلى الماضي، يائس في أوقات محدّدة، ويمتلك براعة خاصة في الخروج من القضايا الشائكة، ويعتبر الأحلام البديل العظيم عن الواقع. لذلك فهو شخصٌ مضلِّل/ مضلَّل.
- تعبيراتها؛ معجمه دموي، هلوسي، يتفوّه بتعبيرات سرية لا يعلم دلالتها إلا هو. لغته تتلون بحسب تمريناته الذهنية.
- طريقة وجودها؛ مسعود شخص مدركٌ للوجود. يرى الوجود معطوبًا، ومع ذلك يقبل به الناس. فلا بأس، إثر ذلك، من تمجيد العطب وتحويله إلى إغراء. لقد حول عرجه الخفيف، بعد الحادثة والعمليات الجراحية التي تلتها، إلى آلية إغراء. كما أنه احتفظ من حياته الثورية لما بعد أيار/ مايو 1968 بأفكار عدّة، منها رفضه للزواج "كمؤسسة للاستعباد النفسي والجسدي وإعادة إنتاج علاقات العنف والاستغلال، وكساحة لقتل الحب".
- تاريخها؛ لمسعود ماضٍ ثوري خلّف لديه آثارًا كثيرة. لكن أيار/ مايو 1968 يسكنه دومًا، من خلال شعاره "المنع ممنوع".
- علاقاتها مع الآخرين؛ يتقاسم مسعود مع الآخر/ الآخرين مشاعر سرية لا يجهر بها. لكن الآخرين (منهم حتى الأشباح) يتسببون له في حالات من الاكتئاب الشديد والمشاعر السيئة. ينضاف إلى ذلك "المشاحنات الصغيرة في الإدارة...".
- كيف يتصورها الآخرون؟ الآخرون ينظرون إلي مسعود باعتباره مادة للاستغلال وللقتل حتى. لذلك فهو يقضي وقته في الاحتياط "من أن تدوسه الأقدام العمياء... من الغباء السائد، والعدوانية المتفشية واللامبالاة الصاعدة والغرور السهل...".
قسم لا بأس به من الرواية يمكن اعتباره مجموعة بورتريهات متتالية لمسعود. كما أنه، من جهة أخرى، أجزاء تمهيدية طويلة لما سيأتي من أحداث، ولما ستقدم عليه الشخصيات من أفعال. إن هذه الشاعرية الروائية: شاعرية السرد، شاعرية القصة، شاعرية تطور الأحداث، شاعرية تلفظ الشخصيات وكيفية تدبير أفعالها، لا مجال للتغاضي عنها. "كل رواية هي في حوار مع التفاوض على نظام من الحقائق. كل رواية ترتب أداة سردية (وأحيانًا أداة جدلية)". كل هذه الشاعريات تمتد على مدى صفحات الرواية الـ 255 التي تتقدم كأجزاء مفصولة. لكن من ناحية "البناء السردي"، تنعكس فكرة الكل والوحدة (القصة لها بداية ووسط ونهاية) في التكامل المنهجي لما يسمى بحق "الأجزاء" التي تختفي وراء مبدأ التماسك: سواء عن طريق الانقسام أو عن طريق التراكم. مما يعني أن هناك توجيهًا دلاليًا تركيبيًا للسرد لا يظهر إلا في البنية الكلية حين نُنهي الرواية.
-3-
تحمل "العين القديمة " ملامح مؤلفها. لا نستطيع تصنيفها ضمن فروع كثيرة من الأدب الذاتي: الرواية السيرذاتية، التخييل الذاتي، السيرة الروائية. إنها، بالعكس من ذلك، رواية تخييلية مستقلة عما سلف. لكن بعض ملامح مؤلفها تحضر وتغيب مثل ظلال متحركة، مثل شبح يرقص وراء الكلمات. لقد وردت هذه الجملة في حوار من الحوارات القصيرة في الرواية ما يؤكد أن الواقع والخيال لا يلتقيان:
"أنت فعلًا شخصية من ورق، تترك عشاءً واقعيًا، وتطوح بنا في هذه الفيافي، يا صاحبي، إما أن تعيش في العالم أو تعيش في الحقيقة... طريقان لا يلتقيا". رغم أن دلالة اللفظين غير واضحة بالضبط. فهل كان المؤلف يقصد: "(...) إما أن تعيش في الخيال أو تعيش في الحقيقة..."؟
على الرغم من أننا نهرب من هذه الأسئلة التي تلامس واقعية أو خيالية الأحداث والشخصيات، إلا أننا في كل مرة نجد أنفسنا مرغمين على طرح أسئلة قديمة، لكنها على كل حال جيدة: ما الكتاب غير الخيالي؟ ما الكتاب غير الحقيقي؟ من خلال طرح هذه الأسئلة، نفتح على الأقل بشكل مباشر أو غير مباشر، ما يسمى بمسألة "الوضع الأنطولوجي" للكتاب، وبشكل أكثر تحديدًا العمل الأدبي، من ماديّته أو مثاليته، بدلًا من اقتراح بعض الأفكار المتواضعة حول ما يشير إليه "الكتاب الخيالي" في مقابل "الكتاب الواقعي". لكن علينا العودة إلى البدايات وطرح العديد من الأسئلة حول جنس الرواية الغامض أصلًا.
تمر لحظات كثيرة نشعر فيها أن الرواية معلقة في السماء ولا يمكن أن تلمس الأرض، ولكن الروائي يضع قدمه الأولى، ثم الثانية، على الأرض. ثم نرى عينيه وهما تبحثان عن شيء واقعي، أو في ثنايا الذاكرة عن تناسب معين. هذا ما يمكن أن نسمّيه "التظاهر". فالروائي يعي المسؤولية الواقعة على عاتقه. ثم يعود في صفحات أخرى، ونسمعه يهمس لنفسه، لقلمه: "عليك عدم التظاهر، فالأدب يتيح لك حلولًا أخرى". لم يعد من مجال للتراجع عن طرح فكرة أن الخيال لا يتعارض مع الحقيقة أو الواقع. إنه دعوة لتعليق قواعد الاتصال والعمل العادية.
يمكن تحديد رواية تخييلية خالية من الواقع عن ذلك العمل الذي يحتوي على خيالات محضة لأن الأحداث والشخصيات التي تم تنظيمها داخله لم تكن موجودة أبدًا، وربما لا يمكن أن توجد.
ما هو الخيال وكيف نعرفه؟ هل يعارض الوثيقة أو الشهادة كما يعارض المزيّف الصحيح؟ هل هي مجرد مسألة أسلوب؟ سيكون ذلك بسيطا جدًا. تعود المناقشات حول الخيالي إلى العصور القديمة، التي كانت مهووسة منذ فترة طويلة بحقيقة أن الصور أو الحكايات هي تمثيلات للواقع مشكوك فيها. كان أفلاطون، كما هو معروف، يشك في الشعر وكذلك في الفنون البصرية. لقد ورث المعنى الأصلي لكلمة "خيال" هذا الشك: "الخيال" هو فعل "التظاهر".
لحلّ هذا اللغز، نقول إن رواية "العين القديمة" هي مزيج من مؤلفها الأصلي ومؤلفها الخيالي. هي تركيبة هشة من الواقعي والخيالي، سرعان ما تظهر فيها مستويات التخييلي ومستويات الواقعي. ولذلك، باستطاعة كل من يعرف المؤلف أن يفصل بين هذه المستويات.
-4-
تفيض الرواية بالسرد وتقلّ أفعال شخصياتها. كما يمكن التأكيد على مسألة أخرى في غاية الأهمية: يمكن تقسيم الرواية إلى عدد كبير من السرود/ الحكايات القصيرة. وفي كل سرد/حكاية قصيرة يقدّم السارد نفسه بشكل مختلف، كأن لا علاقة له بسارد الحكايات السابقة. الحكايات تهرب منه. هناك منطق للسرد القصير. وهذا المنطق يحدّد أهداف موضوعة كل سرد أو حكاية. فيكون المؤلف مضطرًا، ربما بوعي أو بغير وعي، بتوزيع أفكاره وتأويلاته وتأملاته على كل سرد قصير عابر، لكن بدون خلق وحدة تلحم أجزاء الرواية. وإذا تتبّعنا مسعود عبر كل سروده وحكاياته القصيرة في الرواية، فسنصل إلى نتيجة أن الوحدة توجد فقط في الاسم.