}

عن روايات المُدمنين على السُكر: أسرار غامضة وانعطافات مفاجئة

محمود عبد الغني محمود عبد الغني 9 يوليه 2024

 

منذ سنوات بعيدة قرأت رواية للكاتب البرازيلي جورج أمادو (1912-2001)، كان قد ترجمها محمد عيتاني تحمل عنوان "كانكان العوام الذي مات مرّتين" (دار الفارابي، 1979). وظلت تلك الترجمة هي الرائجة في العالم العربي، رغم ترجمات عربية أخرى جاءت بعدها بسنوات كثيرة، لكنها لم تستطع أخذ مكانها في ذاكرة القراء. ما زلت أذكر تلك المقدمة التي كتبها خصيصًا للرواية الناقد الفرنسي روجيه باستيد، والتي كانت تضاهي أو تفوق الرواية من حيث الحجم. نقلها "م. عيتاني" عن اللغة الفرنسية، هذه اللغة التي احتفت بـ "ج. أمادو" أيّما احتفال، ونقلت كل أعماله تقريبًا ونشرتها أكبر دور النشر الفرنسية.

مرّت السنوات دون أن أفرط في تلك الرواية التي بحجم قطعة صغيرة من الخبز. وحين عدت إليها وجدتها ما زالت رواية عظيمة، مكتوبة بشاعرية واقتصاد لغوي نكاد نفتقدهما في الرواية اليوم. ووجدت موضوعها في غاية الأهمية: لماذا يغادر رجل، هو "جواكيم سواريس"، أسرته المتكونة من زوجة وطفلة، ويتحول إلى سكّير في مدينة (أو حي) باهيا يحمل اسمًا آخر هو "كانكان العوام". في لحظة من السرد يتحول كل شيء إلى فضاء للسكر (الحانات)، والمعجم يصبح شعبيًا من العالم السفلي لحي "باهيا"، بكل شخوصه الرائعة، العفوية والحاملة لأسماء غريبة. ولم أجد في الأدب العربي ما يضاهي هذه الموضوعة غير "خمارة القط الأسود" لنجيب محفوظ، وهي مجموعة قصصية موزّعة على ثيمات كثيرة من بينها عالم الخمارات والسكارى. هذه القصص هي: البارمان، السكران يغني، خمارة القط الأسود.

بعد نجيب محفوظ صادفتُ قصة قصيرة عنوانها "السكير" للكاتب الفرنسي غي دي موباسان. وبعدها قرأتُ رواية لإميل زولا عنوانها "الخمارة"، تمت ترجمتها إلى اللغة العربية تحت عنوان "السكّير"، وصدرت عن سلسلة "روايات الهلال" سنة 1967. منذ البداية انطوت رواية زولا على إدانة أخلاقية واجتماعية للسيد "لانتيير" (السكير). إذ، وهي تنتظر عودته إلى البيت ليذهب إلى العمل رفقة جموع العمال، سألها صوت من الخلف، كان للسيد "كوبيو" السباك الذي يسكن في شقة بنفس الفندق الذي يقيم فيه "لانتيير" وزوجته وأبناؤه: "ألم يحضر رجلك الطيب بعد يا مدام لانتيير؟". ثم بعد تأمل وجه الزوجة المنتفخ بالبكاء، طرح سؤالًا آخر: "إذًا، فقد أطلق رجلك الطيب العنان لنزواته؟" ثم أضاف:" لا تحزني يا مدام لانتيير... إنه مشغول بالسياسة. وقد كاد يلقى حتفه وهو يشتم الإمبراطورة "إيوجين" أثناء مرور موكبها في ذلك اليوم. ولعله أمضى الليلة كلها مع بعض الأصدقاء في استمطار اللعنات على بونابرت". لم يعجب هذا الكلام الساخر مدام لانتيير، فعادت إلى النافذة تنتظر ظهور زوجها الذي كانت تعرف أين قضى ليلته.

وبعد الخمارات والسكارى، أوقفني نصّ من نصوص الاعتراف للكاتب الأميركي من أصل ألماني تشارلز بوكوفسكي (1920-1994)، نواته أكثر قوّة وإحالة إلى الحالة المرضية التي يصلها السكير، هو "المدمن". ومن عناوين كتبه التي تناولت موضوعة الإدمان على السُّكر "بصق البيرة ليلًا". لكن العجيب في هذه الكتابة التي تلامس أقصى حدود العبثية، هو أنها قد تجعلك متحمّسًا لاحتساء ما أدمنه "ت. بوكوفسكي" وأبطاله وشخصياته، التي نعرف أين يقضون أوقاتهم ولياليهم، مثلما تعرف زوجة السيد لانتيير أين قضى زوجها ليلته.

لكن، مع "كانكان العوّام" الأمر مختلف، وإحساسك وأنت تقرأ الرواية ينطبع بنوع من الاستقرار والانسياق نحو تلك العوالم التي خلقها جورج أمادو في روايته. لقد طرح أسئلة ورسم تحولات في حياة جواكيم سواريس ولم يجب عنها. كأن الرواية قصيدة موحية أكثر منها رواية تفسّر وتحلّل كل شيء يحدث مهما كان حجمه. لم يضعنا "ج. أمادو" في سياق نفهم من خلاله لماذا هجر "جواكيم"، المتقاعد من إدارة الضرائب، بيتًا دافئًا وزوجة وابنة، وفضل العيش مع الزنجية التي وجدته ذات صباح ميتًا في كوخه، والصيادين في الميناء، وصاحب الشعر المدهون، وكيتيريا ذات العين الجاحظة، ومجموعة من النساء الأرخص أجرًا، والنشّالين، وصغار الباعة... شخصيات صامتة رغم أنها تعرف الشيء الكثير مما يجري في محيطهم.

ذات يوم كفّ جواكيم سواريس عن أن يكون ذلك الموظف النموذجي المحاط باحترام الجميع، وفضّل أن يقضي بقية حياته سكيرًا في الأزقة والشوارع الضيقة التي تسود فيها الشائعات والأخبار السيئة. لكن لماذا هذا التحول يا جورج أمادو؟ بالإضافة إلى هذا السؤال، أضيف آخر: أثناء احتضاره رسم جواكيم/ كانكان على شفتيه ابتسامة هي من أكبر ألغاز هذه الميتة. لماذا، مرة أخرى، يا جورج أمادو؟ لقد كان موت كانكان غامضًا جدًّا. وهذا الغموض ولّد الكثير من الشكوك التي وجب تبديدها. مما جعل إفادات الشهود متناقضة، وتفاصيل الحادثة غير معقولة، من مثل: في أي ساعة مات كانكان، في أي مكان، مع أنه وُجد ميتًا داخل كوخ؟ لماذا هجر زوجة وابنته؟ هل خانته؟ هل الابنة كانت منحرفة وظهرت عليها العلامات السيئة للإدمان؟ لا شيء من ذلك واضح في الرواية.

هكذا هي الروايات التي كُتبت عن المدمنين الذين يتعاطون السكر. أسرار غامضة، وانعطافات مفاجئة. يمكن تبرير وتحليل سلوك الشخص العنيف، لكن أسرار المدمن تبقى أكبر من الرواية والروائي معًا.

لا يمكن أن نمرّ دون ذكر عنوان "كحول" للشاعر الفرنسي غيوم أبولينير، وهو عنوان إحدى أكثر المجموعات الشعرية شهرة. صدرت سنة 1913. قصيدة واحدة طويلة مليئة بالرموز الميثولوجية والإحالات على الكتاب المقدّس. كانت "كحول" شعرًا دالًا على عقل جديد تمامًا، أدخل إلى القصيدة مظاهر الحياة الحديثة: المدينة الصناعية، الحياة اليومية... هذا إضافة إلى خلق صور غريبة، وحذف النقط والفواصل... وعلى هذا اعتبر "غ. أبولينير" رائد السورياليين. كان الرسم في تلك المرحلة يحدث ثورة حقيقية. وكانت لوحة السكير العجوز الأبيض الشعر تملأ تقريبًا كل حانات العالم.

 

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.