}

محمد شكري كاشف العار

محمود عبد الغني محمود عبد الغني 30 يوليه 2024

"محمد شكري اللاأخلاقي"... هل دخل الوسط الثقافي في المغرب طور سوء الفهم للأديب محمد شكري، الأديب المغربي الأكثر شهرة في العالم، والأوفر حظًا في الترجمة والنقد والتلقّي؟. وجاء سوء الفهم من خلال التركيز على مفهوم "الأخلاق"، التي لم تكن في يوم ما هدفًا لشكري، لا من حيث تكريسها والدفاع عنها أو من حيث اختراقها وافتضاضها. فهل يعي ذلك القيّمون على تنظيم الملتقى الـ 16 لتخليد ذكرى صاحب "الخبز الحافي"؟ في ندوة ضمّت أربعة مشاركين فقط، لا تربط بين أغلبهم تلك العلاقة الأدبية القوية بشكري وأدبه، مع استثناء الروائي المغربي محمد عز الدين التازي، والناقد العراقي عبد الله إبراهيم (الذي أكّد في مداخلته أن شكري كشف تقريبًا عن كل شيء في حياته بدون حجاب أو تحفّظ أو محاولة إخفاء)، ومنظّم الندوة عبد اللطيف بنيحيى، الذي ربط بين الندوة ورواية أندريه جيد "اللاأخلاقي".

ما الذي حدث لمحمد شكري؟ لقد أصبح أسطورة تحوم حوله وفرة من الأخبار والنوادر، وزُجَّ به في عالم غامض من التفاهة حيث النادرة والخرافة والنكتة، عوض عالم الدراسة الأدبية التي هي الوحيدة القادرة على استعادة اعتباره. لقد أصبح بمستطاع كل من جالسه أو جمعته معه سهرة أن يقول ما يشاء عنه. ولعل هؤلاء الهازلون هم مصدر خطر لكل أديب. لا بدّ أن نتذكر المصير المأساوي الذي لقيه شاعر الحمراء محمد بن إبراهيم (1897-1955) بسبب مثل هؤلاء الذين يختزلون الأدباء في مجرّد مجموعة من الأخبار والنوادر، فلا يُذكر إلا على سبيل الهزل والتندّر.

تعود أسطورية محمد شكري إلى تفرّد حياته، خصوصية رواياته وقصصه وحواراته، تميّز مضامين أدبه الذي أهله لأن يكون بمنزلة كاشف العار، تعدّد جلساته الخمرية في الفنادق والحانات والمطاعم والمواخير. فيساورنا الشكّ ونتساءل: هل أسطوريته تعود إلى نوادره أم إلى أدبه؟ واليوم نتأكّد من أن محمد شكري هو ضحية أصدقائه وخلّانه أكثر من خصومه، بالضبط كما هي حالة الشاعر محمد بن إبراهيم الذي لم يكن له خصوم، لأنهم تركوا الجانب الفني والإبداعي، واتجهوا إلى حياته الخاصة وجعلوا منها أسطورة الأساطير، وغابت رواياته "الأخلاقية" و"اللاأخلاقية" معًا. وبذلك سيغيب النقد والتحليل، وسيتخلّف النقاد والباحثون عن أداء واجبهم تجاه كاتب موهوب وثائر.

يمكن أن نحمّل محمد شكري نفسه جزءًا يسيرًا من المسؤولية، لأنه كان يستقبل في بيته، ويدعو إلى مائدته، العديد من الناس التافهين الذين لا يعرفون عن أدبه شيئًا، ولا يهمّهم ذلك طالما يلهون حول مائدة أديب كبير فاقت شهرته أي تصوّر. وهكذا، انطلقت صورة هذا الأديب من المجالس أو من رؤية قديمة للأدب تعتبره مجرّد قصائد أو قصص أو حكايات أو نوادر تُروى في المجالس والسهرات. والغريب أن محمد شكري كان يندفع اندفاعًا نحو تلك المجالس، ويروي حكايات أو معاني طريفة أو نكتة أو مستملحة أو سخرية من شخص أو حيوان (كما كان يفعل بكلبه الكهل "هيدور") أو يمثّل أدوارًا، ويقوم بحركات بهلوانية، هي كل ما ورثه من طفولته المليئة بالتسكّع والشغب. فكان ندماؤه وروّاد مجالسه يحفظون ما كان يرويه أو يقوم به. وفي الصباح، أو في أقرب مناسبة، يروونها مع زيادة في التفاصيل. وبذلك دخلت الحكاية والنادرة في حياة محمد شكري وأدبه العظيم الثائر. أذكر أن الشاعر العراقي سركون بولص حكى تفاصيل ليلة قضاها مع شكري في بيته، لم يقل شيئًا عن شكري الأديب، بل كل ما رواه لي عن شطارية شكري وجنونه حين يجن الليل وتلعب الكؤوس بالعقول. لكن، بخلاف ذلك، يمزج صديقه الشاعر والإعلامي عبد اللطيف بنيحيى (وهو من اللجنة المنظمة للندوة) تفاصيل حياتية، وتفاصيل أخرى عن مخطوطات روايته التي كان يمنحها له قصد الاطّلاع وإبداء الرأي.

من أين أتت صفة "اللاأخلاقي" هذه؟ جاء في كلمة نشرها بنيحيى أن هذه الصفة مقتبسة من كتاب لأندريه جيد عنوانه "اللاأخلاقي" (1902). وقد خصّص له إدوارد سعيد صفحات قليلة في كتابه "الثقافة والإمبريالية" (1993) لتأكيد الازدراء الغربي الذي يميّز الاستشراق. واعتبر إ. سعيد أن هذه الرواية التي نشرها أ. جيد في عام 1902 هي جزء من سياق اجتماعي وأيديولوجي يخفّف إلى حدّ ما القيود التي تثقل كاهل تمثيل الشرق. هذا إضافة إلى تناولها لـ "العرق" و"الطبقة الاجتماعية" و"الجنس" من أجل فهم التوازن الجمالي الدقيق الذي تشهد عليه رواية جيد وتعقيد العلاقات الإنسانية التي تصورها.

تلك الصفحات القليلة التي خصّصها سعيد لـ "اللاأخلاقي" تؤكّد أن رواية أ. جيد تشارك بشكل كامل، في نظره، في الازدراء الغربي الذي يميّز الاستشراق


تلك الصفحات القليلة التي خصّصها سعيد لـ "غير الأخلاقي"، أو "اللاأخلاقي" تؤكّد أن رواية أ. جيد تشارك بشكل كامل، في نظره، في الازدراء الغربي الذي يميّز الاستشراق. شخصية ميشيل- والمؤلف الذي يقف وراءه- يتصرف مع الشباب العرب الذين يلتقي بهم في شمال أفريقيا كما لو أن السكان الأصليين كانوا مجرد "تهديدات سريعة الزوال، وفرص لإظهار السلطة".

ويتابع إ. سعيد عن الرواية: "الأفارقة، وخاصة هؤلاء العرب، موجودون هناك، لا أكثر. […] أن تكون بين هؤلاء الناس أمر ممتع، لكن عليك أن تقبل المخاطر (الحشرات، على سبيل المثال)". ومن المؤكد أن الأمر لا يتعلّق بالادّعاء بأن رواية "اللاأخلاقي" هي رواية غريبة تمامًا عن الخطاب الاستشراقي أو، من باب أَوْلى، رواية مناهضة للاستعمار. حتى القصتان اللتان كتبهما أ. جيد لاحقًا: "رحلة إلى الكونغو" (1927) و"العودة من تشاد" (1928)، ليستا من هذا النوع فهما يقدّمان انتقادات ضد تجاوزات الاستعمار دون التشكيك في مبدئه الحضاري.

إذا كان من الممكن اعتبار "اللاأخلاقي" بحق رواية استهلالية عن الشذوذ مكتوبة بكلمات محجّبة، فهي أيضًا رواية واقعية تصوّر بدقة شديدة السياق الاجتماعي والاستعماري لهذا التحرر من قاعدة المعايير الجنسية الغيرية.

هذه فقط بعض الإضاءات لرواية "اللاأخلاقي" لأندريه جيد التي اقتبست منها الندوة عنوانها الكبير، وهو في نظري غير مناسب تمام التناسب مع السياق الفكري والمجتمعي والشخصي والأيديولوجي الذي حاول محمد شكري الكشف عنه في أدبه وحياته.

لقد أتت الإساءة من هنا: أصدقاؤه الذين عاشروه وحوّلوه إلى أسطورة ومتن من الحكايات والنوادر، وما كان المسكين يدري أنهم سينكّلون به تنكيلًا بعد موته. لقد حوّلوا حياته إلى مجموعة من الحكايات الهزلية يروونها ويتزيّدون فيها.

وما دمنا بصدد المقارنة بين محمد بن إبراهيم ومحمد شكري، لا بد أن نذكر ما جاء على قلم الأديب عبد الكريم غلاب في كتاب خصّصه لشاعر الحمراء ساعيًا إلى تخليصه من العالم الغامض الذي أُدخل إليه، فذكر هذا الأمر الذي في غاية الخطورة: "كان أحد أصدقاء الشاعر يقرأ النكت في بعض الصحف السيارة المصرية مثلًا عن بعض الأدباء المصريين فيرويها على أنها لشاعر الحمراء، ويحاول أن يرفعه عن طريقها إلى مصاف العباقرة".

لم يكن محمد شكري "لا أخلاقيًا" بل كان أديبًا وشخصًا ثائرًا على طريقة جان جينيه، أو وليام بورّوز، أو جين بولز، أو تنيسي ويليامز...الأدباء الذين التقى بهم شكري في طنجة وكتب عنهم جميعًا واعتبر أن حياتهم الخاصة المختلفة وأدبهم العظيم نماذج للحياة والأدب معًا.

إن هذه الندوة المصغّرة حول "لا أخلاقية" محمد شكري، تدعونا للتفكير في مفهوم الأخلاق نفسه، ومن جهة أخرى تدعو نقّاد الرواية في المغرب إلى محاولة فهم ما كان على المحكّ دومًا في أدب شكري، وهي موضوعات الحرية، الأخلاق الاجتماعية، حياة وأوقات الطبقة الهشّة، وضع الطفولة في الأسر الفقيرة، دور الدولة في حماية الفرد وضمان عيشه الكريم، مغامرة الإنسان في الوجود...إلخ وإنها أسئلة حرّة، وثورية ولها عواقب كثيرة مقلقة.

إننا نسمع كثيرًا عن الأخلاق والسياسة، الأخلاق في العلاقات الدولية، الأخلاق في السوق التجارية... وهي في كثير من الأحيان لا تلتقي مع بعضها. وغالبًا ما تؤدي محاولات الجمع بينها إلى نتائج كارثية. فالسياسة القائمة على المبادئ الأخلاقية تخاطر بأن تؤدي إلى تشكيل دولة ثيوقراطية، أو دولة يتمتع فيها قضاة الأخلاق بسلطات الشرطة. والديمقراطية لا تتطلب من مواطنيها أن يكونوا فاضلين، وألا يتجاوزوا القوانين السارية فحسب، إن الأخلاق الخاضعة للمطالب السياسية في الوقت الراهن لم تعد أخلاقًا، وهذا الانحراف يعادل تشويه الفرد.

هذه نماذج معدودة من مفاهيم الأخلاق التي ستبقى مشروع فهم فلسفي وسياسي. فهل نريد من محمد شكري أن يكون خارج مشروع الأخلاق بصفة عامة، هو الفرد البسيط والكاتب الذي لم يتجاوز عدد مؤلفاته عشر روايات وقصص؟

 

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.