}

أمام صورة غوستاف هيرتز: ما ذنب العقل بصناعة الشرّ؟

سوسن جميل حسن سوسن جميل حسن 18 مارس 2024
آراء أمام صورة غوستاف هيرتز: ما ذنب العقل بصناعة الشرّ؟
الفيزيائي غوستاف هيرتز (1925/Getty)

هل كان السوفيات مضطرين إلى السرقة من البرنامج الذري الألماني، وهذا من ضمن الاتهامات التي وجهت إليهم، بعد أن انتهت الحرب العالمية الثانية إلى هزيمة ألمانيا، وتقسيمها إلى شطرين، دولتين، إحداهما تابعة إلى النظام السوفياتي بالكامل؟
طرحت هذا السؤال على نفسي، عندما كنت مدعوة منذ مدة إلى بيت عائلة ألمانية صديقة لي، كنت أعرف أن الزوجة، وهي طبيبة عيون، تمتُّ بصلة قرابة إلى العالم الفيزيائي هاينريش رودولف هيرتز، مكتشف أمواج الراديو، والذي سميت وحدة ترددات الموجة باسمه، "هيرتز"، هذه الكلمة التي طالما سمعناها بصوت المذيعين، تعيدنا اليوم إلى ذلك الزمن الذي يدغدغ وجداننا وحنيننا فنسميه "الزمن الجميل".
لكن صورة بالأبيض والأسود في بيت الصديقة الألمانية لعائلة يظهر فيها جد وجدّة مع امرأة شابة على حضنها طفلة صغيرة، لفتتني، فقد كانت صديقتي تشبه الجدّ الموجود في الصورة. قلت لها إنها تشبه ذلك الرجل الكبير في الصورة، فأخبرتني أنه جدّها غوستاف هيرتز، وأنها هي الطفلة الصغيرة. بدا عليّ الاستغراب لوهلة عندما اختلط عليّ الاسم، وظننتُ أنها تقصد هاينريش هيرتز، الذي كانت حدثتني عنه في ما مضى، بفطنتها قرأتْ السؤال على وجهي، فأخبرتني أن هاينريش هيرتز هو عمّ جدّها غوستاف هيرتز الذي في الصورة، وأن جدّها هو عالم الفيزياء الذي حصل على جائزة نوبل عام 1925.
أثارت فضولي الحكاية، فرحت أستقصي وأبحث عن حكاية هذا العالِم التي قفزت من التاريخ الحديث، من فترة كان العالَم يعيش على وقع حرب أخرى تبدو رحيمة قياسًا بحروب اليوم على الرغم من وحشيتها وما حصدت من أرواح، خاصّة وأنه الوحيد الذي فاز بجائزة نوبل من جمهورية ألمانيا الديمقراطية. صحيح أن فوزه كان قبل قيام هذه الجمهورية بتقسيم ألمانيا إلى دولتين بعد الحرب العالمية الثانية بأربعة وعشرين عامًا، لكنه بقي فيها، وعاش حتى وفاته في 30 أكتوبر/ تشرين الأول من عام 1975، تخلّل هذه المدة سنوات عمل في الاتحاد السوفياتي.
باكرًا، بدأ نبوغه يعبّر عن نفسه، فبعد تخرجه في مدرسة يوهانيوم الثانوية في هامبورغ، درس هيرتز الرياضيات والفيزياء في غوتنغن، وميونيخ، وأخيرًا برلين، حيث حصل على الدكتوراه عام 1911. كان يتمتع بمواهب متميزة، سواء في الميدان النظري، أو التجريبي، وتم منحه منصب مساعد في معهد جامعة برلين للفيزياء، حيث تعرّف على جيمس فرانك، الذي أجرى معه تجربة "فرانك ـ هيرتز" الشهيرة عام 1913، التي أوصلتهما إلى جائزة نوبل عن هذه العملية التجريبية لتصادم الإلكترونات، والتي أكّدت الافتراض الأساسي لنظرية نيلزبور لنموذج الذرات. ومن هنا بدأ نبوغه يرسم له مسيرة حياته، فهل كان هذا المسار طوعيًّا، أم أجبر، هو وغيره، على تسخير نبوغه ونظرياته، أو اكتشافاته، لصالح السياسة؟ في التاريخ أمثلة كثيرة، ليس أولها ولا آخرها السويدي ألفرد نوبل مخترع الديناميت، الذي حاول التكفير عما لحق بالبشرية من اختراعه الذي لم يكن يخطط لاستخدامه كما استخدمه السياسيون في حروبهم، فأنشأ جائزته الشهيرة "نوبل". بل الأخطر من هذا أن التقدم العلمي في عصرنا الحالي، والقفزات التي تكاد تخرج عن سيطرة الإنسان في مداها، جعل تلقف المبتكرات البشرية من قبل القوى المتصارعة على العالم واستخدامها أمرًا يحدث خارج كل الأقواس، أو الاستثناءات، ولم تعد خاضعة لإرادة الإنسان، وها هي الحروب العلنية أكبر مثال، عدا المبتكرات المخربة بطريقة مخاتلة.

في الحرب العالمية الأولى
شارك هيرتز في الحرب العالمية الأولى كضابط، وفي عام 1915 تم انتدابه إلى القوة الخاصة لحرب الغاز، ما يسمى بفوج الرواد 35. في 7 يوليو/ تموز 1915، أصيب بجروح خطيرة في هجوم بالغاز على القوات الروسية في بولندا، لأن اتجاه الرياح تغير في أثناء الهجوم، وتعرض هيرتز نفسه للغاز. وبعد أن قضى أشهرًا عدة في المستشفى، خرج من الجيش، ليكمل تأهيله بأطروحة حول تبادل الطاقة في الاصطدامات بين الإلكترونات البطيئة وجزيئات الغاز، وكان حينها محاضرًا خاصًّا بالفيزياء في جامعة برلين.




أصبح أستاذًا متفرّغًا للفيزياء، ورئيسًا لمعهد الفيزياء المُنشأ حديثًا. ثم جرى انتخابه عضوًا مناظرًا في أكاديمية غوتنغن للعلوم. تظهر هذه المفاصل الرئيسية في حياته أنه كان جديرًا بكل المواقع العلمية والأكاديمية التي شغلها، كما عرف عنه أنه كان مدرّسًا متميّزًا، وكان حريصًا على تعليم طلابه كيفية مقاومة إغراء تجاهل القضايا الفكرية الصعبة، بمعنى أنه علّمهم التحدّي، وأن هنالك دائمًا سبلًا للتطور والوصول، أما الرهان فعلى الإرادة. لكن، هل كانت حياته تسير كما يحلم؟ وكيف كان على الصعيد الإنساني وفي حياته الخاصة؟ لا يمكن سؤال الصورة التي كان لها في حين التقاطها معايير يحرص المصوّرون على توفّرها، إذ كانت تطغى على الصور ملامح التركيز في الكاميرا، والجدّية، كما لو أن الشخص أمام امتحان حقيقي. سؤال يخطر في البال دائمًا في ما يخص المشاهير، فكيف بواحد منهم كان له، أراد أم لم يرد، دور في أهم وأخطر الابتكارات البشرية؟

اضطهاده في العهد النازي
يُعرف عنه أنه رفض أداء قسم هتلر في عام 1934، فتم إلغاء حقه في إجراء الامتحانات بحجة أن أحد ذويه لهم أسلاف من الطائفة اليهودية، وعندها تخلى عن منصبه التدريسي على الرغم من أنه بقي أستاذًا فخريًّا، عمل في مختبر الأبحاث على أنظمة انشطار النظائر الخفيفة، والتي أثبتت لاحقًا أنها تقنية مركزية في نظام تطوير قنبلة اليورانيوم.
رفضه أداء القسم يعيد إلى الأذهان قضية أساسية ما زالت تشغل الوسط الثقافي في ألمانيا، قضية قراءة التاريخ بشفافية وبالنقد الذاتي في الدرجة الأولى، و"صمت المثقفين" عن ماضيهم النازي بشكل خاص. يحضرني قول لأحدهم في المنفى، لم أعد أذكر اسمه، كثّف النزعة المناهضة لديكتاتورية هتلر ومحاصرته النخب في ألمانيا، ودور المثقفين "أردنا أن نوضح أن هتلر ليس ألمانيا، وأن هناك ألمانيا ثقافية، وأنها ستستمر في الوجود في ألمانيا". و"المستقبل لا بد منه". فهل يمكن طرح السؤال حول العلماء بالطريقة نفسها؟ وهل كان للعلماء أن يختاروا بين موقفين لا غير، إما الرفض وما يجرّ عليهم من ملاحقة أو تهجير، أو الاستمرار والبقاء في البلد تحت ظل أنظمة ديكتاتورية، إن كان وقت هتلر أم زمن الديكتاتورية الاشتراكية، زمن ألمانيا الديمقراطية وخصوصيتها لناحية نظامها الديكتاتوري وتبعيتها للنظام السوفياتي؟

المرحلة السوفياتية

تجربة نووية أميركية لقنبلة بحجم 23 كيلو طن على عمق 90 قدمًا تحت الماء في جزيرة بيكيني في المحيط الهادئ تُظهر ضخامة الفطر النووي (Getty)


بعد الحرب العالمية الثانية، وفي أعقاب اكتشاف الاتحاد السوفياتي أعمال الأميركيين والبريطانيين والكنديين في مشروع مانهاتن، بدأ الاتحاد السوفياتي مشروعًا لتطوير القنبلة الذرية ببرنامج بحث وتطوير بالغ السريّة. وكان الزعيم السوفياتي جوزيف ستالين قد تلقى رسالة من الفيزيائي جورجي فليروف خلال الحرب العالمية الثانية يحثه فيها على البدء في الأبحاث، بعد أن لاحظ أن العلماء الألمان والبريطانيين والأميركيين توقفوا عن نشر أبحاثهم في مجال العلوم النووية، وتكهن، وهو الضابط في الجيش حينها، أن لدى كل منهم برامج بحثية سرية، وأضاف أنه يشتبه منذ مدة طويلة أن عددًا من الحلفاء في الحرب العالمية الثانية بدأوا بالفعل العمل سرًّا على إنتاج السلاح بعد اكتشاف الانشطار النووي عام 1939، بعد أن أعلن الكيميائي الألماني أوتو هان عن اكتشافه للانشطار عن طريق تقسيم اليورانيوم بالنيترونات التي تنتج عنصر الباريوم الأخف وزنًا، فأدرك العلماء الروس والأميركان أن هذا التفاعل يمكن أن تكون له أهمية عسكرية. ومع ذلك، وبسبب الحرب الدامية مع ألمانيا النازية، لم تصل الجهود إلى المستوى المطلوب، لكن السوفيات سرّعوا برنامجهم النووي بعد الهجوم على هيروشيما وناغازاكي، ووسّعوا منشآتهم البحثية ومفاعلاتهم العسكرية، ووظفوا عددًا من العلماء للعمل فيها. لكن المشروع السوفياتي اتهم حينها بأنه جمع معلوماته الاستخباراتية من برنامج التسلح النووي الألماني، وكذلك من الجهود النووية الأميركية.





تم إحضار غوستاف هيرتز مع باحثين ذريين آخرين بواسطة وحدة خاصة من الجيش الأحمر إلى الاتحاد السوفياتي في أبريل/ نيسان من عام 1945. وهذه وقائع باتت معروفة، ومعلومات متاحة للجميع، وتحت إشراف هيرتز تمّ إنشاء مركز أبحاث في سوخومي على البحر الأسود لتخصيب اليورانيوم، عمل فيه ابن أخته هارودين بونجكلاوسن أيضًا لمدة أربع سنوات. وبعد عمله على تنفيذ واسع النطاق لعملية الانتشار لتخصيب اليورانيوم 235، حصل على جائزة ستالين عام 1951، في الاتحاد السوفياتي، كأعلى جائزة مدنية في البلاد.

العودة إلى ألمانيا الديمقراطية
كانت عودته في خريف 1954 جزءًا من استعدادات جمهورية ألمانيا الديمقراطية للعودة إلى التكنولوجيا النووية. تولّى هذه الاستعدادات، وأوكلت إليه قيادة المجلس العلمي للتطبيقات السلمية للطاقة الذرية، تم تنفيذ جميع الاستعدادات هناك، بدءًا من تجميع المعاهد المتفرقة، وحتى توسيع معهد دريسدن المركزي الجديد للأبحاث النووية (اليوم هو مركز أبحاث دريسدن ـ روسندورف).
هل كان يفكّر عند اكتشافه القوانين الفيزيائية المهمة أنها ستغيّر مصير البشرية؟ وأن العالم في لحظة ما سيقف مذهولًا أمام خطر من هذا النوع؟ ما ذنب العلماء، أو أين مسؤوليتهم إزاء استغلال السياسيين لابتكاراتهم واكتشافاتهم؟ أم إن قدر بعضهم أن يكونوا في المكان والزمان الخاطئين؟
في عام 1957، أيّد غوستاف هيرتز بيان غوتنغن الذي أصدره هايزنبرغ ضد خطط الأسلحة الذرية. وهو بيان وقّعه 18 عالمًا في ألمانيا الغربية مشيرين إلى قلقهم بشأن خطط تزويد الجيش بالأسلحة النووية. وهذا موقف أخلاقي يحسب له، كما يحسب له رفضه أداء القسم لهتلر، كما يستحق أن تُقرأ حياته المهنية بعيون أخرى، فذهابه إلى الاتحاد السوفياتي لم يكن اختياريًّا وبإرادة حرّة على ما يمكن استقراؤه من خلال ما كتب عنه، ومثل هذه القضايا مهمة في تاريخ البشرية، ألم يُستغل اكتشاف ألفريد نوبل البارود في إدارة الصراعات والأعمال الشريرة بحق البشرية؟
كلما قرأنا عن عالم ما، أو مبتكر، أو مخترع، وأمعنا النظر في واقع اليوم، واقع البشرية المهددة في وجودها، من الحروب إلى المجاعات إلى انتهاك الكوكب والبيئة والتغيرات المناخية، يعود السؤال المستحيل إلى البال: ما ذنب المخترعين؟ ما ذنب العقل البشري إذا ما استخدم إبداعه في صناعة الشرور؟ وهل يمكن كبح الخيال البشري وتقييد العقل؟ أم أن على البشرية أن تقلب الطاولة بما حملت، وتسعى إلى ترتيب حياتها في المستقبل بنظام عالمي جديد يلجم جموح القتل والحروب والسيطرة؟
بقي أن نذكر أنه في عام 2007 سُمّي الكويكب (160512) باسم "فرانك ـ هيرتز" الحاصلين معًا على جائزة نوبل. وأن ألمانيا اليوم فككت كل مفاعلاتها النووية التي كانت تستخدمها لإنتاج الطاقة.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.