}

عن العنوان وعتبات أخرى في "العشيق السري لفراو ميركل"

سوسن جميل حسن سوسن جميل حسن 16 أبريل 2024



ربما من أكثر المقولات الشعبية تردادًا: "المكتوب مقروء من عنوانه"، مع التحفظ على الاختلاف بين عنوان المكتوب وعنوان الرواية، وبين الرواية والمكتوب.

لكن العنوان مهم جدًا في الحالتين، ما دام أنه جسر يوصل بين المرسل والمتلقي. ولم يكن عنوان الكتاب بشكل عام، وفي الكتب الأدبية بشكل خاص، يلقى الاهتمام المطلوب في السابق، ربما في التاريخ الأوروبي تزايد الاهتمام به في عصر النهضة، مع ظهور الطباعة فكانت وظيفة العنوان، من حيث جاذبيته، مهمة في ظل ظهور المنافسة بين المنتجات المطبوعة، أما في ثقافتنا العربية فلقد درجت العناوين ذات السجع والطويلة إلى حد ما، ولم يكن يلتفت إلى العنوان إلا في العقود الأخيرة.

كذلك فإن عنوان الرواية مهم بما أنه أوّل تجليات الخطاب الذي يتلقاه القارئ، فإما أن يدفعه إلى اقتناء الكتاب أو البحث عنه لقراءته، أو لا يأبه به ولا يرى فيه ما يثير فضول القراءة، قد لا تكون هذه الحالة معممة، ولكن لا يمكن تجاهلها، فالعنوان دال على مدلول، يتردد صداه في المتن، أو يتردد صدى المتن فيه. واختيار العنوان يعد من أصعب المهمات بالنسبة إلى الكاتب أحيانًا، ويتنوع الكتّاب في نظام كتابتهم، فمنهم من يترك العنوان إلى النهاية، ومنهم من يبتكره مع شروعه في كتابة النص، وربما قبله مباشرة، ومنهم من يضع مروحة من العناوين يختار من بينها واحدًا، وأحيانًا يقدح عنوان في بال الكاتب فلا يبحث بعده عن عنوان آخر. وقد لا يقع اختيار عنوان الكتاب على عاتق المؤلف، بل على عاتق الناشرين الذين يطورون سلسلة من الصيغ أكثر جذبًا للقراء. ولا بد من الإشارة هنا إلى أن هناك كتابًا/ كاتبات بارعون في رسم العناوين، بينما لا يكون النص بمستوى العنوان.

تحمل رواية الكاتبة المغربية ريم نجمي الصادرة حديثًا عن الدار المصرية اللبنانية، عنوانًا لافتًا وجاذبًا ومثيرًا: "العشيق السري لفراو ميركل"، وهي روايتها الثانية بعد رواية "تشريح الرغبة".

يعزز تعيين الرواية غلافها الذي تتوزع فيه صور للمستشارة الألمانية السابقة أنجيلا ميركل، فلا يبقى مجال للّبس والتأويل، فالمقصودة هنا هي المستشارة ذاتها. وفي الجزء السفلي صورة من الخلف لشاب يرفع يديه في محاولة لصنع إشارة تقابل تلك الحركة التي اشتهرت بها المستشارة بمقابلة كفيها مقابل بعضهما بعضًا، فيشارك الغلاف أيضًا كعتبة مهمة في تعيين الكتاب ولفت نظر القارئ إليه.

تخلق العناوين التوقعات وتثير الاهتمام

عنوان جاذب بقوة، وإذا كان العنوان مفتاحًا رئيسًا للنص الأدبي، والحد الفاصل بينه وبين العالم، وأول دليل على كينونته، فكم يثير فضول ومخيلة القارئ عنوان كهذا، خاصة وأن السيدة ميركل شخصية مشهورة على مستوى العالم؟

لو فككنا العنوان إلى عناصره، لرأينا أنه يتضمن ثلاث كلمات مفتاحية: العشيق، السري، وفراو ميركل، ولكل منها صداها في نفس المتلقي/ القارئ المفترض، قبل أن يلج إلى النص من هذه العتبة الأساس.

وأول سؤال سيثيره العنوان وفضول المعرفة هو: هل فعلًا هناك عشيق للسيدة ميركل؟ خاصة وأن كلمة "عشيق" في المخيال الشعبي توحي بقبول الطرف الآخر، والجواب نعم، فالرواية تقوم على وجود عشيق، وسري أيضًا، فليس من المألوف أن يكون العشيق علنيًّا إلّا في ما ندر، فكيف بامرأة بهذه الشهرة والمكانة الرفيعة والأهمية؟ إنما السرية هنا كانت بالنسبة إلى الشخصية الروائية فحسب، قبل أن تفصح حالته المرضية عن نفسها ويبوح بهوسه بها، واقتبسته الكاتبة من مقتطف من نشرة إخبارية لإذاعة ألمانية محلية بتاريخ 13 أيلول/ سبتمبر 2019، أنهت به الرواية.

شخصية يونس "العشيق السري"

استطاعت الكاتبة أن ترسم شخصية متخيلة وتقدمها إلى القارئ فردًا مصابًا باضطراب يدعى متلازمة هوس العشق، أو متلازمة دي كليرامبو، وهو يصنف في الطب النفسي اضطراب شخصية يدعى الوهام، أو التوهم، يتميز بالشعور بالحب الشديد حدّ الهوس تجاه أشخاص آخرين. ويظن المصاب بهذا الاضطراب أن الشخص الآخر واقع في غرامه، وهذه الأوهام التي تداهم المريض ترسّخ إحساسه بأن هناك شخصًا ما يحبه بقوة، ويكون عادة شخصية مشهورة ولها معجبون كثر، ويفسر بعض أقواله وسلوكه على أنها موجهة إليه. يقع يونس في هوس عشق أنجيلا ميركل المستشارة الألمانية في مرحلة حساسة من عمره، بدأت الحالة في عمر المراهقة لتستمر وتتفاقم في مرحلة الدراسة الجامعية، وهو شاب ذكي ولماح، لكن لديه طفولة قاسية من حيث الصرامة والتربية الدينية المحافظة، والسعي إلى حشره في هوية مفارقة للمجتمع الذي ولد ونشأ فيه، وحكايات جده القيادي في الجماعة، المترعة بالعنف والثأرية والعلاقة بالآخر الذي لا يشبههم، ما ساعد في ظهور مشاكل نفسية واضطراب سلوك باكرًا في طفولته.

كان الطفل يونس صاحب خيال خلاق، لكن القسوة في التربية ومحاولة الأهل تقييده بتربية قاسية ضمن قوالب ثقافية جامدة تحت خيمة الدين، حاصرت خياله ودفعته إلى توهم علاقة من هذا النوع، يشعر معها بالدفء والطمأنينة والهوية التي يبحث عنها بعيدًا من الهوية "الثقافية" التي حاولوا زرعها فيه بقسوة، فناله التشظي الروحي والوجداني والنفسي. انتهى يونس أخيرًا إلى مستشفى الأمراض النفسية، وصار تحت رحمة العلاج النفسي والسلوكي والدوائي، انتهكته العقاقير، وصار يشعر بنفسه وكأنه في سجن لا في مصح، وغادره الشغف بأي شيء. بمتابعة هذه الشخصية المرضية وتطورها من خلال السرد الذي تتناوب عليه أصوات عديدة، نجد أنها مبنية بأمانة ودراية، وأن الكاتبة قرأت عن هذا الاضطراب بشكل واع وهادف، فشكلتها بطريقة مقنعة، فهو يستنكر على من هم حوله عدم اقتناعهم بأن ما يعيشه من حالة عشق هو حقيقة وليس أوهامًا، وجعلته في وضع خطر على نفسه، ويمكن أن يتحول إلى خطر على المجتمع، وذلك تجاه أسرته ورفاقه وخطيبته، وأنجيلا أخيرًا. وكان خلال السرد يتابع أخبار المستشارة ولقاءاتها المتلفزة ويفسر تصريحاتها وسلوكها على أنها رسائل ضمنية تعبر عن مشاعرها تجاهه، وهذا من العلامات البارزة للمتلازمة، ترقب المصاب ظهور الشخص الذي يعتقد أنه يحبه في كل مكان، ليراه أو ليتعرف إلى أخباره، ويحسب بعض أقواله أو سلوكه رسائل موجهة إليه، ويمكن أن يصل الأمر إلى أن يغار على هذا الشخص بصورة غير مبررة وضاغطة، وكانت الغيرة سمة أساسية في السرد الذي يأتي على لسان يونس، فهو يغار من زوج المستشارة، الأستاذ الجامعي يواخيم زاور، ويصفه بعبارات قاسية. كذلك يغار من كل من يقترب منها.

وتنتهي الحال بالنسبة إلى يونس بمحاولته قتل أنجيلا، بعد أن كان قد أمضى ستة وعشرين شهرًا في المصح على خلفية اقتحامه بيتها، وخرج من المستشفى ليتابع علاجه في البيت، لكن هذه الحالات تستغرق وقتًا طويلًا في العلاج، وقد لا يشفى منها إلا قلة قليلة، شعوره بأن أنجيلا خانته ولم تستجب إلى رغباته، وأنها فتحت الحدود أيضًا للاجئين الذين سيغيرون وجه ألمانيا التي يعشق قيمها متمثلة بأنجيلا، جعله يصفها بالمخادعة، وبعدها بالخائنة ثم يسرق مسدس جده المحفوظ في خزانة مقفلة في مكتب والده ويقتحم منزلها من أجل قتلها كما توعدها في رسالة سابقة.

ريم نجمي  


فراو ميركل

أمّا شخصية فراو ميركل، التي هي المستشارة الألمانية السابقة، فقد رسمتها الكاتبة بإتقان، امرأة عادية وإنسانة وقائدة وسياسية، من خلال السرد الذي جرى على لسانها، وعلى لسان يونس الواقع في عشقها، متتبعًا مسيرتها وأخبارها، مقتفيًا أثرها منذ طفولتها إلى لحظة السرد الراهنة، الممتدة من عام 2010 حتى عام 2017، عندما بلغ السابعة والعشرين. فالرواية متعددة الأصوات، موضوعها الأساس هو هذه العلاقة المتخيلة. سخّرت الكاتبة ما جمعت من أخبار ومعلومات عن السيدة ميركل، عن نشأتها في ألمانيا الشرقية وما ترك في شخصيتها لناحية الاقتصاد في الكلام ووزنه قبل التفوه به، علاقتها بوالدها رجل الدين والتأسيس لفكرة الأخلاق والسياسة، مسيرتها الحزبية والسياسية منذ تكليفها وزيرة لشؤون الشباب، علاقتها بالمستشار السابق هيلموت كول، صورة السياسي/ة كما رسمتها لنفسها ومارستها، لترسم هذه الصورة الواقعية عنها، من دون أن ترمي الرواية إلى إظهار جانب مخفي عن الجمهور من حياتها وشخصيتها، كما في أدب الباباراتزي الذي يلاحق المشاهير خلسة ليلتقط حياة موازية لهم غير تلك التي تشهر للناس، فالسيدة ميركل امرأة رصينة متزنة لديها قواعدها وخطوطها الحمراء، خاصة بما يتعلق بحياتها الخاصة، وتجربتها في السياسة وقيادة ألمانيا لأربع دورات متتالية جديرة بالاهتمام، وإظهار الجوانب الإنسانية في شخصيتها، وطرائق سياستها، والتحديات التي واجهتها منذ دخولها معترك الحياة السياسية، كما أظهرتها إنسانة عادية لم تغير فيها السلطة شيئًا، فهي تمارس حياتها اليومية كأي امرأة، زيادة على أعبائها الكبيرة كمستشارة. من خلال رسم شخصيتها على لسانها ولسان يونس، الذي أوكلت إليه الكاتبة مهمة تسريد جزء كبير من جهودها في البحث والتوثيق، سلطت الرواية الضوء على قضايا عديدة وكبيرة، أهمها قضية اللاجئين، والمهاجرين عمومًا، وصدى السياسة التي اتبعتها المستشارة عندما ألغت اتفاقية دبلن وفتحت الحدود، والمعارضة التي لاقتها حينها، أما القضية الأهم فهي مفهوم الهوية، وتشظيها لدى شريحة من المهاجرين، خاصة بالنسبة إلى يونس، الشخصية المحورية في الرواية، فهو يمثل الجيل الثاني بين المهاجرين، ولد ونما وكبر في المدارس الألمانية والمجتمع الألماني، بينما بيئته المنزلية والجو الذي أصر والده على حصره ضمن قيوده وزرع أفكاره وثقافته فيه هي بيئة دينية محافظة، ليس بالمفهوم والممارسة الشعبية للدين، إنما بربط الدين بالسياسة وتوظيفه لتحقيق أغراض سياسية، وهذا ما صورته الرواية في شخصيتين أساسيتين، غير الشخصيات الثانوية، هما والد يونس، الطبيب ماهر الخطيب، ابن القيادي في الجماعة مصطفى الخطيب، الذي غادر سورية في أول ثمانينيات القرن الماضي بعد المواجهة بين نظام حافظ الأسد وجماعة الإخوان، وصار صديقًا مقربًا للمرشد في ألمانيا، ووالد آية خطيبة يونس، والمركز الإسلامي في برلين الذي يديره الدكتور ماهر، ثم تؤول الإدارة إلى والد آية، بعد فسخ خطوبتها ليونس، وتفاقم حالة يونس المرضية. ومن خلال هذا النشاط وهاتين الشخصيتين تلج الرواية في قضية الإسلام السياسي ونشاط الجماعات الإسلامية في ألمانيا، والثورة السورية ومآلاتها. كذلك تظهر الرواية التحولات في المجتمع الألماني، خاصة في برلين في عصر العولمة، ما ظهر جليًا على الجيل الشاب في نهاية العشرية الأولى من القرن الحالي.

العناية برسم الشخصيات

أما شخصية آية، خطيبة يونس التي تدرس الطب، وتمت خطوبتها إلى يونس بتدبير العائلتين ومباركة المرشد، فلم تكن أكثر من تدبير يراعي توجه العائلتين ومصالحهما، لكن آية التي ساعدها يونس في التحرر من قيود الأسرة وفرض هوية إسلامية محافظة عليها، ودفعها لولوج المجتمع الألماني والاندماج بثقافته، فإنها في النهاية تتمثل الثقافة الألمانية وتعيش مع شريك ألماني أحبته.

ويمكن القول إن الكاتبة أجادت أيضًا في رسم البنى النفسية للشخصيات، ليس يونس المصاب بمتلازمة دي كليرمبو فحسب، إنما والدته الحاجة فاطمة، ألمانية الأصل، التي أسلمت لتتزوج والده، فصارت تابعة له بالكامل، وتغالي في تمثل أفكاره وتنشط بين الأخوات نشاطًا دعويًا، رسمتها المؤلفة كشخصية مازوخية، ما أثر على يونس أيضًا.

عودة إلى العتبات النصية

بعد انجذاب القارئ المفترض إلى هذا العنوان، وتناوله متصفحًا إياه، سوف يقع في غواية الاستهلالات التي بدأت فيها الكاتبة فصول الكتاب، ففي الصفحة الأولى نقرأ لفتًا إلى أن أحداث الرواية وشخصياتها محض تخيلات أدبية، حتى الفصول التي وردت على لسان المستشارة، والتي اقتضتها الضرورة الإبداعية، هي من وحي الخيال.

في الصفحة الثانية اقتباس من رسالة جون هينكلي جونيور إلى الممثلة جودي فوستر قبل محاولة اغتياله الرئيس رونالد ريغان بساعات بهدف إثارة إعجاب الممثلة الواقع في هوس عشقها.

مقدمة الفصل الأول، اقتباس من موقع صحيفة "زود دوتشه تسايتونغ" بتاريخ 17/10/2010 وهو خبر عن مختل عقلي في حالة هياج كان يكتب الرسائل إلى أنجيلا ميركل لكنها لم تكن ترد عليه ونجح في اقتحام البيت الذي تمضي فيه نهاية الأسبوع في أوكمارك، وكانت موجودة فيه بالفعل.

في الفصل الثاني مقتطف من قصاصة وكالة الأنباء الألمانية بتاريخ 8/6/2011، عندما خرجت أنجيلا ميركل من الليموزين أمام البيت الأبيض وصعدت الدرج وكان الرئيس الأميركي باراك أوباما وزوجته في استقبالها لمنحها وسام الحرية، ونسيت زوجها في السيارة الذي أسرع واستدرك الموقف.

في الفصل السادس مقتطف من مقال في صحيفة "تاغسشبيغل" بتاريخ 14/12/2012، يفيد بأن رجلًا استطاع وعلى الرغم من وجود حارسين، أن يقرع جرس البيت مرة كانت ميركل في البيت، وأخرى لم يكن غير زوجها يواخيم زاور. والآن تم توقيف المتسلل وإدخاله مستشفى الأمراض النفسية.

في الفصل الرابع والأخير خبر مأخوذ من موقع فرانكفورتر "روند شاور"، يفيد بأنه تم اكتشاف جاسوس مقرب من ميركل عمل لسنوات لصالح إحدى الدول العربية، وقد فتح المدعي العام تحقيقًا بالواقعة.

أما خاتمة الرواية في الصفحة الأخيرة، فهي مقتطف من النشرة الإخبارية في إذاعة ألمانية محلية بتاريخ 13 أيلول/ سبتمبر 2013، وبحسب الخبر، شاب يحاول الوصول إلى المستشارة ولمسها، في أثناء جولتها في معرض سيارات، ورجال الأمن يجرونه جرًّا من المنصة وهو يصرخ: "دعوني وشأني أنا العشيق السري لأنجيلا ميركل"

فإذا كان العنوان وهذه المقتبسات عتبات مؤسسة في ما يسمى بحسب النقاد "النص المحيط أو المصاحب"، فإنها تؤكد في رواية ريم نجمي على أهميتها في تشكيل هوية نصها السردي وموقعه وتميزه في جنسه، وتحث القارئ على اقتنائه، بما يقدم من إشارات تدلّ على النص ومقولته.

 

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.