}

مسلسل "البراعم الحمراء": العلمانية التركية والدين وجهًا لوجه

سلام محمد سلام محمد 8 مارس 2024
آراء مسلسل "البراعم الحمراء": العلمانية التركية والدين وجهًا لوجه
أثار المسلسل حفيظة بعض الأوساط الدينية في تركيا
حقق المسلسل التركي "البراعم الحمراء" نسب مشاهدة عالية منذ بدء عرضه على قناة فوكس المحسوبة على المعارضة التركية. المسلسل من إخراج أومور أتاي، وبدأ عرضه في ديسمبر/ كانون الأول الماضي، ليحدث جدلًا كبيرًا على منصات التواصل الاجتماعي، ويحقق نسب مشاهدات مثيرة، منذ عرض حلقاته السبع الأولى. وبحسب بوكس أوفيس تركيا، فإن الحلقة الثانية فقط من هذا المسلسل حققت 7 ملايين مشاهدة خلال ساعة من عرضها، ناهيك عن تصدر شخصية "جنيد" في المسلسل لأكبر هاشتاغ في تركيا على منصة إكس في الأيام الماضية.

لون البراعم
تقول فكرة المسلسل، حسب عنوانه، إن براعم النباتات جميعًا تميل إلى اللون الأحمر داخل لبوسها الأخضر، لكنها تتمايز لاحقًا إلى ما لا يحصى من الورود والأزهار والثمار. إذًا، الفكرة تقول إن هذه البراعم متساوية في بدء حياتها، لكنها تفترق كثيرًا، أو قليلًا، في ما بعد. العلماني سيقول إن التربية والمجتمع والضبط هو ما يحكم حياة البراعم ومصيرها، بالطبع المقصود هنا "براعم الإنسان"، بينما يقول المتدين إن التقدير الإلهي هو ما يحكم حياة كل نبات، وحيوان، بل حتى الجماد.
هي موضوعة جان جاك روسو ذاتها، التي تقول إن الإنسان طيب بطبعه، نقي أو وحشي، إذا عاش منفردًا، لكن المجتمع والظروف المحيطة به قد تقوده إلى أن يكون شريرًا، أو طيبًا.
صناع المسلسل نجحوا في مسعاهم، وهو تقديم دراما تركية مغايرة عن السائد، جعلت من المسلسل مرآة للمجتمع بكل أزماته السياسية والاقتصادية والاجتماعية، وعلى وجه الخصوص الانقسام الذي تعيشه تركيا اليوم بين فكر إسلامي متشدد وآخر علماني. فالعمل يصوّر تصادم العلمانية التركية مع التشدد الإسلامي عبر بطلي العمل، الدكتور ليفانت (أوزجان دينيز) المنحدر من بيئة علمانية بالمطلق تتعامل مع مبادئ أتاتورك كدستور مقدس، وبين مريم (أوزغو نامال) المنتمية إلى جماعة دينية متشددة أطلق عليها المؤلف نجاتي شاهين مجازًا اسم: الفانون.
الغريب أن هذا التصادم في الحلقات السبع الأولى على الأقل ليس عنيفًا، كما كنا نتوقع، إنما هو تصادم إيجابي، إن صح التعبير، قد يقود بطلينا في النهاية إلى الإعجاب، أو الحب. فالطبيب ليفانت يحاول مع والده عالم الفيزياء، العلماني حتى النخاع، مساعدة مريم التي قادتها سيناريوهات الحياة للعمل في بيتهم. مريم التي تحاول الفرار بابنتها زينب (14 عامًا) من زواج مبكر يباركه سيد الجماعة، ويتمناه والدها المتعصب، تستعين بليفانت ووالده، الذي يكتشف عبقرية الفتاة في الرياضيات، ويسعى عبر علاقاته مع علماء فرنسيين لإرسالها إلى فرنسا كي تدرس الرياضيات في مدرسة مخصصة للطلاب الفائقي الذكاء.
تتصاعد الأحداث خلال الحلقات السبع الأولى بشكل مثير ومتقن دراميًا. ولا شك في أن علاقة مريم بليفانت ستأخذ منحى آخر خاصة بعد اتهام مريم بالزنا من قبل إحدى نساء الجماعة لمجرد ترددها على بيت ليفانت.
يقدم الكاتب مريم كامرأة ذكية وقوية، رغم تزويجها في سن مبكرة (14 عامًا) من نعيم (مارك توراك)، الذي ينتمي لجماعة الفانين. الجماعة تقدم صورة من التعصب الديني المترافق مع الولاء المطلق لمرشد هذه الجماعة، الذي يظهر أثره ولا تظهر صورته.




يطمح نعيم عبر تزويج ابنته من حفيد مرشد الجماعة، جنيد (مارت يازجي أوغلو) إلى الحصول على المال والجاه، وبعض المكانة في الجماعة. نعيم الذي فر من زلزال 2023 المدمر في جنوب شرق الأناضول يتجه بعائلته إلى إسطنبول، ويقدم ولاءه للسيد سعدي هداية (إركان آفجي) ويطلب منه مكانًا للسكن، وعملًا يعتاش منه. وهنا يتكشف أمام المشاهد مجتمع الوقف الذي سيكون بطل الحكاية، بكل أفراده، حكاياتهم وصراعاتهم.

تركيا في مرآتين
الوقف هو مدرسة دينية خاصة بالفانين تقام فيه محاضرات دينية يوميًا، ويحتوي أيضًا على شقق صغيرة للسكن. يبدو الوقف كمكان محكوم بقبضة حديدية من السيد سعدي هداية، ابن مرشد الجماعة. يعمل نعيم كموزع لمساعدات الوقف على الفقراء، بينما تعمل مريم في مخبز للفطائر تابع للوقف، ولا يسمح لزينب بالالتحاق بالمدرسة، إنما تجبر على الدراسة في كتّاب الوقف الذي تدرس فيه الفتيات القرآن وعلوم الحديث على يد ابنة سعدي هداية (فايزة).
تتغير حياة مريم بمجرد دخولها لبيت الطبيب ليفانت لمساعدة والده المريض. هناك، تتعرف على عالم آخر، عالم مخيف ومليء بالتابوهات، لكنها بذكائها وصبرها تستطيع أن تترك بصمتها لدى الجميع، وأن تدخل قلب الطبيب وقلب والده، اللذين يصران على تغيير قدر مريم وزينب بمساعدتهما في سفر ابنتها زينب إلى فرنسا كي تنمي الابنة قدراتها الرياضية الفذة، وتهرب من زواج مبكر سينهي كل طموحاتها.
قدم الكاتب نجاتي شاهين مجتمع الوقف بذكاء وتركيز شديدين، فهو لم يقم بإدانة أصحاب هذا الفكر. وفي المقابل لم يجعلهم عرضة للإعجاب والافتتان! إن جماعة الفانين هم بشكل أو بآخر مجموعة من مجموعات الفكر الصوفي المنتشر في تركيا، والذي قامت السلطات في 1925 بعد عامين من قيام الجمهورية التركية، بإغلاق جميع التكايا والزوايا ودور الوقف التابعة له، ومنعت ممارسة التصوف والجهر به.
يظهر مسلسل "البراعم الحمراء" الفانين كجماعة حاضرة مجتمعيًا ومؤثرة سياسيًا واقتصاديًا، رغم دعوتها للزهد والروحانيات وهجر ملذات الدنيا. وهذا ما يظهر جليًا في سلوكيات أفرادها، ونمط حياتهم اليومي، كجنيد، ونعيم، ومريم، رغم تمتع سادتها، مثل سعدي هداية، بنفوذ مالي واجتماعي وسياسي كبير.
لا بد من الإشارة هنا إلى أن الصوفية تحظى في تركيا بانتشار واسع، ويؤمن كثير من مريدي هذه الطريقة أن الصوفية هي الدرع الوحيد الذي سيحمي بلادهم ودينهم من العلمانية الغربية. وبرغم الحظر الرسمي للصوفية، كما قلنا، إلا أن كثيرًا من رجال السياسة والاقتصاد على اختلاف مشاربهم يعترفون بشيوخ هذه الطرق في مواقف حرجة وخاصة. مثلًا، خلال الانتخابات، يخطب السياسيون ود شيوخ هذه الجماعات من أجل كسب أصوات مريديهم، ومقابل الأصوات يقدم السياسيون وعودًا بمنح هذه الجماعة تسهيلات لفتح مدرسة، أو وقف، خاص بهم.

مجتمع الفانين ومجتمع العلمانيين
من هنا، أثار المسلسل حفيظة بعض الأوساط الدينية في تركيا، ورافقت عرض الحلقة الثانية منه موجة كبيرة من الانتقادات، خاصة بعد تصويرها لنعيم وهو يطلب من زوجته مريم ضربه بالعصا على ظهره للتكفير عن ذنوبه، وهو ما يسمى بمبدأ التطهير!

تم فرض عقوبات قاسية على المسلسل وصلت إلى وقف عرضه لمدة أسبوعين

وهذا ما دفع مؤيديهم إلى تقديم شكاوى ضد المسلسل. وفق هيئة الإشراف على وسائل الإعلام، ووصل عدد الشكاوى في حق المسلسل إلى 32 ألف شكوى. وسرعان ما تم فرض عقوبات قاسية على المسلسل وصلت إلى وقف عرضه لمدة أسبوعين، وغرامة مالية قدرت بما يعادل 275 ألف يورو ضد قناة فوكس تي في، بتهمة انتهاك القيم الوطنية والأخلاقية، وكذلك تشويه سمعة الأشخاص ذوي الخلفيات الدينية في المسلسل.
في الجانب الآخر، صور المسلسل عائلة الطبيب ليفانت القادمة من خلفية علمانية أتاتوركية كعائلة ممزقة، فالزوجة، وهي طبيبة، تهرب من بيتها إلى ألمانيا لتعمل هناك، لأنها سئمت من الخلافات المستمرة مع زوجها، ولعجزها عن حب ابنتها المتبناة. أما الجد فيعيش حالة قطيعة مع ابنته لأكثر من 13 عامًا، والحفيدة ابنة الطبيب هي مراهقة متورطة بتعاطي المخدرات، وعلاقتها سيئة مع جدها ووالدها. وحده الطبيب ليفانت يبدو محافظًا على مبادئه من خلال تفانيه لإسعاد ابنته، وخدمة والده، وشفاء مرضاه.




إذًا، لم يسلم المسلسل، أيضًا، من انتقادات بعض الأوساط العلمانية، التي ادعت أنه يقوم بتشويه القيم العلمانية لصالح الفكر الديني المتشدد، لكنهم لم يطالبوا بوقف عرضه، لأن ذلك يهدد الحريات في تركيا، ويثبت أن هيئة الإذاعة والتلفزيون التركية تتبع خط الحكومة، والتي غالبًا ما تصدر قرارات إيقاف العرض، ثم تؤكدها المحكمة الإدارية التي تضم قضاة مقربين من الحكومة، مما يعني أن الحكومة لا تتسامح مع انتقاد الإسلام، وأن حزب العدالة والتنمية يرفض الإساءة للمتدينين والملتحين والمحجبات.
وبالرغم من أن المسلسل يظهر صورًا متباينة للمتشددين الدينيين والعلمانيين، إلا أن شركة الإنتاج تؤكد أنها "ضد إطلاق أحكام تعميمية، وأن هدفها هو إظهار عواقب الأشخاص الذين يسيئون استخدام قيمهم الخاصة، وأن في إمكان الأشخاص الطيبين والصادقين إيجاد لغة مشتركة على الرغم من اختلاف الانتماءات والأفكار". ربما يشير هذا التصريح إلى شخصية عم جنيد الشيخ سعدي هداية، الذي تفوق على نفسه في تقديم شخصية رجل الدين الواعظ، والذي يرتدي قناع الزهد والتقشف، بينما يدير في الخفاء مجموعة من الأعمال التجارية، ويرتبط بشبكة من العلاقات النفعية مع مسؤولين في كل قطاعات الدولة. وبالرغم من جمال أسلوبه، وجاذبية محاضراته الدينية، وقدرته الفذة على السيطرة على أتباعه وتوجيههم لحياة الزهد، نجده يجري وراء المتع الحسية والمالية.

جنيد
جنيد، ابن أخ سعدي هادية، مختلف عن عمه، وأكثر نقاء وصدقًا. والمشاهد التي تجمع جنيد بطبيبه النفسي ليفانت من أجمل مشاهد العمل، فالحورات بينهما عميقة وجميلة، وطريقة استيعاب وتقبل كل منهما لفكر ومعتقدات الآخر هو ما يبني عليه المسلسل رسالته، التي يؤكد عليها صناعه بعد كل الجدل الذي رافق المسلسل؛ "التعايش والتقبل".
جنيد المتصوف والزاهد، الذي يعاني من أزمات نفسية متراكمة منذ الطفولة هو حفيد مرشد الجماعة وخليفته القادم، صاحب الكرامات الذي يستطيع التغلغل في نفوس الأشخاص المحيطين به، وفهمهم من دون أن ينبس ببنت شفة.

شخصية جنيد في مسلسل "البراعم الحمراء" تحولت إلى تريند على منصة X  في تركيا

بذكائه وحنكته، واتساع بصيرته، يقرأ جنيد الطبيب ليفانت جيدًا، ويدرك الخير في داخله، كما يحظى بإعجاب والده الذي طالما امتعض من تشدّد أصحاب هذا الفكر الديني، لكنه وجد في جنيد الواسع الثقافة والاطلاع شابًا مميزًا وجديرًا بالاهتمام. ولذلك، أثارت حوارات جنيد والطبيب ليفانت موجة كبيرة من الاستغراب والإعجاب بين متابعي العمل، فهي فلسفة صوفية تشبه ما يقوله جلال الدين الرومي، ممزوجة ببعض فلسفات علماء وشعراء وفلاسفة أوروبيين. يتحدث جنيد، القادم من بيئة مغرقة في تشددها الديني، وتقديسها لمرجعيتها الدينية، وأدبيات شيوخها، مع الطبيب ليفانت المخلص لعلمانيته وعلمه ومبادئ الليبرالية والحريات في مشاهد مصاغة إخراجيًا وفنيًا ودراميًا بطريقة احترافية مشوقة. نراهما يتحدثان عن فلسفة الموت والخلود، عن الحريات والأديان، عن موسيقى كل من بيتهوفن، وباخ، وشعر سيرانو دي برجراك، وعن تعقيدات النفس البشرية واضطراباتها في عالم متغير ومتحول. التقاء هذين القطبين، إن صح التعبير، بهذا الشكل الإيجابي هو ما يريد صناع هذا العمل قوله، وهو أننا نستطيع التفاهم وإيجاد أرضية لنلتقي عليها رغم كل الاختلافات الفكرية والأيديولوجية، ولربما كان الوطن هو المظلة التي يتساوى تحتها كل المواطنين، كما ظهر في أحد المشاهد حينما اجتمع الفرقاء من علمانيين وفانين في بيت ليفانت وترحموا على شهداء تركيا!
مسلسل "البراعم الحمراء" يثبت من جديد تفوق الدراما التركية وقدرتها على التجدّد وطرح أفكار إشكالية وخارجة عن المألوف، لتكون مرآة عاكسة للمجتمع بكل أزماته وتناقضاته ومشاكله.
لا ينكر أحد أن الدراما التركية تميزت عبر عقود من الزمن بحرفية صنعتها، من متعة بصرية وحكاية مشوقة وممثلين بارعين، واستطاعت أن تفرد لنفسها مساحات شاسعة على قنوات العرض العالمية، وجذبت ملايين المشاهدين عبر العالم. وربما كانت فرادة الحكايات التي صورتها هذه الدراما، من اجتماعية ورومانسية، أو بوليسية، أو تاريخية، هي ما جعلها سريعة الانتشار في العقدين الأخيرين من هذا القرن، لتصبح تركيا ثالث دولة على مستوى العالم في صناعة الدراما وتصديرها!

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.