بعد انهيار جدار برلين، وسقوط ما كان يسمى بـ "المعسكر الإشتراكي" بزعامة موسكو، شهدت أوروبا تحولات وتغيّرات هائلة على جميع المستويات، وضّحها المؤرخ البريطاني إيريك. ج. هوبسبافن على النحو التالي: "إن إنهيار الأنظمة الشيوعيّة من إيستري إلى فلاديفوستوك، لم يُوَلّد فقط منطقة ريْب وشك وتخوّف، وعدم استقرار، وفوضى وحروب أهلية، بل حطّم أيضا النظام العالمي الذي كان يؤمّنُ الاستقرار للعلاقات الدولية منذ أربعين سنة. كما أنه أبرز هشاشة النظم السياسية الداخلية التي كانت تستند في واقع الحال إلى هذا الاستقرار. والأزمات التي ضربت النظم الاقتصادية التي تواجه صعوبات، دمّرَت النظم السياسية في الديمقراطية الليبرالية، والبرلمانية، والرئاسية التي كانت في وضع جيّد منذ الحرب الكونية الثانية. كما أنها لغّمت كل النظم السياسية في بلدان العالم الثالث". وربما لهذا السبب عادت من جديد النزعات والنظريات المتشائمة والمنتقدة بحدة للنظم الرأسمالية الغربية، ولأنظمتها السياسية، ولنواميسها ومبادئها الأخلاقية كما فعل من قبل المفكر الألماني أوزوالد شبينغلر في كتابه الشهير "تدهور الحضارة الغربية" الصادر بعد الحرب الكونية الأولى...
وخلال العقدين الأخيرين صدر في أوروبا وفي الولايات المتحدة الأميركية عدد من الكتب المنذرة بتدهور الغرب وسقوطه الحضاري والأخلاقي، بعد أن كان سيّد العالم، به تقتدي كل الشّعوب الأخرى، ومنه تخاف. يتساوى في ذلك الصّينيّون، واليابانيّون، والهنود، والعرب، والأفارقة، وغيرهم من الشعوب. وجميع هذه الشّعوب سعت، ولا تزال تسعى، إلى الاقتداء به، خصوصًا على المستوى العلمي، والتّكنولوجي الذي بلغ فيه درجات مُدهشة. وأغلب الثورات التي اندلعت في الفضاءات التي لا تنتمي الى الغرب استلهمت شرعيّتها من فلسفة الأنوار، ومن الثّورة الفرنسيّة. وعندما شعر الغرب أنه أصبح متفوّقا على بقيّة الشّعوب الأخرى، بسط نفوذه على القارّتين الآسيويّة، والأفريقيّة، مُبيحًا لنفسه استغلال ثرواتهما بشكل فاحش، ومنكّلًا بشعوبهما، دائسًا على القيم الحضاريّة والإنسانيّة التي كان يتبجّح بها، وزاعمًا أنه حارسها الأمين. غير أن الإحتلال لم يمنع نخب البلدان المستعمَرة من أن تتأثّر بالجوانب التنويريّة في الفكر الغربي، وبالدساتير الحامية لحقوق الإنسان ولحرية الشّعوب في تقرير مصيرها، لتقود الثورات والنضالات المريرة من أجل الاستقلال. ولم يكن الزّعماء الوطنيّون الكبار في الهند، من أمثال غاندي ونهرو، والأفارقة مثل سنغور، وهوفوات بوانيي، وكوامي نكرومه، والعرب من أمثال بورقيبة، والبعض من قادة الثورة الجزائريّة، والرئيس المصري الراحل عبد الناصر، يخفون انبهارهم بالغرب، وبحضارته، وبتقدّمه الصّناعي، والتّكنولوجي. إلاّ أنّ انبهارهم ذاك لم يمنعهم من التّنديد بالجوانب المظلمة والسّيّئة في سياسة الغرب تجاه الشّعوب المولّى عليها. ولم تتمكّن الثّورة البلشفيّة التي اندلعت في روسيا ليمتدّ لهيبها إلى الصيّن، وإلى بلدان أوروبا الشرقيّة، وإلى بلدان أميركا اللاتينيّة من أن تقلّص القدرات الهائلة التي يمتلكها الغرب الرأسمالي لإبهار الشّعوب الأخرى. وعندما انهار جدار برلين عام 1989، والذي أعقبه تفتّت ما كان يسمّى بالاتحاد السوفياتي ليذوب جليد "الحرب الباردة" بين المعسكر الاشتراكي، والمعسكر الرأسمالي، شعر الغرب بقيادة الولايات المتحدة الأميركيّة أنه أصبح من جديد سيّد العالم. وقد اتضح بالدليل القاطع أن الشعوب التي عاشت عقودًا طويلة في ظلّ أنظمة شيوعيّة، لم تتأثّر بالقيم الإشتراكية، بل كانت في جلّها تتطلّع إلى حياة لا تكاد تختلف في شيء عن نمط الحياة في البلدان الرأسماليّة. وعلينا ألاّ ننكر أن الرأسماليّة الغربيّة لا تزال تبهر كلّ شعوب الأرض، ولا تزال الحداثة بحسب النمط الغربي تفتن النّخب حتى في البلدان التي لا تزال تعيش التخلّف، والاستبداد. وفي العالم الإسلامي، تشنّ الحركات الأصوليّة معارك ضارية ضدّ "الغرب الكافر"، وتقترف عددًا من أعمال العنف بهدف زعزعة استقراره، إلاّ أن ذلك لا يمنعها من إظهار رغباتها الجامحة في امتلاك ما يُنجزه الغرب في المجال العلمي والتكنولوجي.
لكن كيف نفسّر موجات العنف والغضب ضدّ الغرب، والتي تبرز بين وقت وآخر في كلّ من أفريقيا، وآسيا، وفي مناطق أخرى من العالم؟ ذلك هو السؤال الذي طرحه مؤخّرًا المفكّر الفرنسي كلود غيبو. وهو يجيب على هذا السؤال قائلًا بأنّ انتفاضات الغضب والعنف التي تنفجر ضدّ الغرب تعود إلى أن كثيرًا من الشعوب اكتشفت، أو هي بدأت تكتشف الجوانب المعتمة والسلبيّة في الغرب وفي حضارته، وسياساته. والغرب بالنّسبة لهذه الشعوب كائن مغرور، وأناني يريد أن تكون الحريّة، والديمقراطيّة، والرفاهيّة الإقتصادية له وحده، حارمًا الشعوب الأخرى من هذه النّعم. وهذا ما يفسّر تدخّله الّسافر في الشؤون الداخليّة لعدد من البلدان حين يشعر أن مصالحه فيها، أو في البلدان المجاورة لها باتت مهدّدة. ويرى كلود غيبو أن الغرب، بسبب شعوره المتعاظم بالقوة، واعتداده بنفسه، أصبح شديد الغطرسة بحيث لم يعد قادرًا على تلمّس حقائق الواقع. وهذا ما أبرزته الولايات المتحدة في تدخّلها العسكري في العديد من البلدان. وتقول حقائق الواقع العالمي الجديد بحسب غيبو أن الحداثة الغربيّة أصبحت تحوّل كلّ من يعارضها، أو يسعى إلى مقاومتها، إلى "شيطان شرّير" يتحتّم القضاء عليه. كما أنها تتجاهل الأسئلة الخطيرة التي تعرّي سطحيّتها، وخواءها. ويعتقد كلود غيبو أن الغرب بات "متعبًا"، وعاجزًا على أن "يشعّ" لكي يكون نموذجًا يحتذى به مثلما كانت حاله من قبل. ويضيف كلود غيبو قائلًا: "إذا ما كان الغرب يعاني من أزمة في الوقت الرّاهن، فلأنه كفّ عن أن تكون له القدرة على النقد الذّاتي التي كان يمتلكها في السابق". كما أنّ الغرب بحسب رأيه، قطع مع الفكر الغربيّ النقدي الكانطي (نسبة إلى كانط)، مُغلقًا بذلك على نفسه الأبواب، والنوافذ ليعيش التّذبذب، والتردّد، والحيرة أمام ما يستجدّ في العالم من أحداث. ولعلّ ذلك يساعدنا على تفسير مواقفه المتناقضة والمتغيّرة تجاه ما يستجدّ في العالم راهنًا.
وفي مطلع القرن الواحد والعشرين، عاش العالم تقلبات واضطرابات وأعاصير رهيبة سياسية ودينية شبيهة بتلك التي هزته في بداية القرن العشرين. وجاءت ضربة 11 سبتمبر/ أيلول 2001 لتزيد في تأجيج مشاعر الخوف والغضب المهيمنة على العلاقات بين الشرق والغرب. ولأن الولايات المتحدة الأميركية لم تحتمل المهانة التي ألحقتها بها الضربة المذكورة، فإنها سارعت لإشعال حرب بهدف الإطاحة بنظام طالبان. وكانت تلك الحرب لا تزال مشتعلة، عندما قام الجيش الأميركي بغزو العراق للقضاء على نظام صدام حسين. وقد ظنّت الإدارة الأميركية التي كان يسيطر عليها المحافظون الجدد أن حرب العراق سوف تساعدها على فرض الديمقراطية، وسوف تزيد في تعزيز نفوذها السياسي والأيديولوجي في العالم العربي ـ الإسلامي. إلاّ أن الأيام سرعان ما أثبتت فشل هذا المخطط.
وخلال العقد الثاني من القرن الواحد والعشرين، غرق العالم برمته في فوضى مخيفة على جميع المستويات. وبسبب عدم وضوح الرؤية، أصبح قادة الدول الكبيرة يتصرفون أحيانًا وكأنهم فاقدون للبوصلة أمام تفاقم المخاطر المهددة للبيئة، وانتشار الإرهاب الأصولي، واشتعال حروب عرقية ودينية. ولأول مرة منذ الحرب الكونية الثانية، تعرضت أعتى الديمقراطيات الغربية لأزمات خطيرة أتاحت للأحزاب الشوفينية واليمينية المتطرفة التحكم في اللعبة السياسية، مزيحة القوى اليسارية والتقدمية. وأما الفلاسفة والمفكرون فقد أظهروا هم أيضًا عجزهم عن تقديم قراءة دقيقة للواقع وللأحداث التي يعيشها العالم راهنًا. وربما لهذا السبب، ظهرت في العواصم الغربية الكبيرة مثل فيينا، وروما، وبرلين، وباريس مجموعات تطالب بإعادة الاعتبار للفلسفة. وفي المقاهي تجتمع هذه المجموعات للتحاور حول القضايا الفكرية والسياسية اعتمادا على أفكار وآراء الفلاسفة القدماء، أمثال أرسطو، وأفلاطون، وديكارت، وسبينوزا، وماركس، وهيغل، وكيركوغارد، وشوبنهاور، وغيرهم. كما أن دور النشر في البلدان الغربية أقبلت على نشر أعمال هؤلاء الفلاسفة في كتب الجيب لتوفر للقراء فرصة اكتشافها وقراءتها. إلاّ أن هذه المحاولات تبدو من دون جدوى أمام الانتشار المخيف للتكنولوجيات الحديثة التي تهدد بتقويض أسس الثقافة في معناها القديم، خصوصًا الكتاب.
وبسبب ذلك نحن نعاين أن أبناء الأجيال الجديدة يقضون جل أوقاتهم مع هواتفهم الذكية، ومع وسائل الاتصال الجديدة، بحيث لا يوفرون لأنفسهم فرصة قراءة كتاب، أو حتى مقال فكري، أو فلسفي. بل قد لا يعني لهم ذلك شيئًا. وظني أن الأوضاع سوف تزداد سوءًا مع هذا الانجذاب الجنوني للذكاء الصناعي الذي يهدد الإنسان بفقدان كثير من أدواره ليصبح كائنًا ثانويًا يعيش مضطربًا ومرتبكًا وقلقًا ومهمومًا وسط غابة التكنولوجيا الحديثة التي توهمه بأنها قادرة على أن توفر له حياة أفضل من حياته السابقة، وأن تجعل العالم أقل اضطرابًا وفوضى من ذي قبل. لكن الواقع يُثبت عكس كل هذا، مُثبتًا بأدلة قاطعة أن التكنولوجيا الحديثة "تغولت" بشكل مرعب لتزيد في تعميق اغتراب الإنسان، وفي عجزه عن إثبات وجوده، وعن إدراك مصيره.