}

في ضرورة العودة إلى الفلاسفة الإغريق

حسونة المصباحي 1 سبتمبر 2024
آراء في ضرورة العودة إلى الفلاسفة الإغريق
لوحة "موت سقراط" للرسام تشارلز ألفونس دوفريسنوي (Getty)
حين بدأت عظامه تبرد، وأخذ عقله الجبّار يتفتّت تحت وقْع الكوابيس والهواجس المرعبة التي سوف تقوده في ما بعد إلى ليل الجنون، قطع نيتشه صلته بريتشارد فاغنر، وببروسيا الرمادية الصارمة، ليشرع في القيام برحلة استكشافية لبلاد الشرق قادته إلى شعراء "التروبادور"، وإلى سمفونيات "بيزي"، خصوصًا سمفونية "كارمن"، وإلى شواطئ المتوسط. ولم يكن هدف نيتشه من خلال رحلته تلك البحث فقط عن النور والدفء، وإنما كان أيضًا من أجل الاقتراب من الينابيع الأولى للفلسفة، والتي هي بالنسبة له، سقراط، وأفلاطون، وأرسطو، وهيراقليطس، وبارمينيدس، وغيرهم من فلاسفة الإغريق القدماء.
وقد بدأ عشق نيتشه لفلاسفة الإغريق، ولحضارتهم الشمسيّة، قبل رحلته الاستكشافية المذكورة، وتحديدًا عندما درّس فقه اللغة والنصوص اليونانية القديمة في جامعة بازل السويسرية. وبعد تخرجه من الجامعة، تعمّق نيتشه في دراسة الفلسفة اليونانية، مطوّرًا نظريّته التي اشتهر بها في ما بعد، والتي تقوم على أساس التعارض بين "أبولون" الذي يجسّد النظام والوضوح، وبين "ديونيزوس" الذي يرمز إلى الجنون والغرابة. ومن المؤكد أن هذا العشق للفلاسفة الإغريق، أوحى له بكتابة آثاره الخالدة مثل: "هكذا تكلّم زرادشت"، و"المعرفة المرحة"، و"ولادة التراجيديا".
ولم يكن نيتشه الوحيد الذي هام بالإغريق، وبفلاسفتهم. بل يمكن القول إن جميع الفلاسفة والمفكرين الغربيين الذين بفضلهم حقّقت أوروبا نهضتها الحضارية، استندوا في أعمالهم إلى الفلاسفة الإغريق. وفي ساعات الضيق والشدة وفقدان التوازن، دأبوا على العودة إلى سقراط وأرسطو وأفلاطون وبارمينيدس وغيرهم، ومنهم ومن أفكارهم استوحوا ما يمكن أن يبدّد العتمة من حولهم. وكان هايدغر يعتبر العودة إلى فلاسفة اليونان أمرًا حتميًّا. لذلك افتتح مؤلفه الشهير "الكينونة والوجود" بجملة لأفلاطون وكأنه يرغب في التأكيد على أن قضايا الكينونة والزمن كانت قد طرحت بعمق من قبل فلاسفة اليونان القدماء. وعن السؤال التالي: "لماذا هذه العودة الدائمة إلى الإغريق في فلسفة هايدغر؟"، أجاب الفرنسي جان بوفري قائلًا: "لأن الإغريق كانوا من دون علم منهم المهندسين الأوائل لفلسفة الوجود".
ومنذ مطلع الألفية الجديدة، شهد العالم الغربي عودة هائلة إلى التراث الفلسفي اليوناني. وقد تجسّدت هذه العودة من خلال دراسات وأبحاث شملت مؤلفات كبار الفلاسفة الإغريق. ومعلّقًا على هذه العودة، قال الكاتب الفرنسي جان- ماري روّار: "الفكر الإغريقي يسكننا شئنا ذلك أم أبينا. وهذا الفكر هو الذي شكّل طريقتنا في التفكير، وكان له تأثير على معتقداتنا، وعلى عاداتنا، وعلى مؤسساتنا، وعلى حضارتنا بشكل عام. كما أنه - أي الفكر الإغريقي - تسلّل إلى نظرتنا التي نلقيها على كل شيء". وفي فرنسا قامت دار متخصصة في كتب الجيب "بريس بوكيب" بإصدار المؤلفات الفلسفية الكلاسيكية الشهيرة. وأول كتاب أصدرته في هذا الشأن مؤلف لأرسطو تضمّن في الآن نفسه ملفًّا خاصًّا حول تعليقات الشارحين العرب القدماء، وآرائهم في فلسفة من كانوا يلقبونه بـ"المعلم". وهذا دليل آخر على اعتراف الغرب بالدور الهام الذي لعبه الفلاسفة المسلمون في التعريف بالتراث الفلسفي اليوناني، وبأعلامه لكي يصبح منطلقًا لنهضة فلسفية عظيمة شهدتها أوروبا انطلاقًا من القرن السادس عشر. وبعد العملية الإرهابية التي استهدفت جريدة "شارلي إيبدو" الساخرة في مطلع سنة 2015، تعددت الملفات في المجلات والجرائد الفرنسية عن الإسلام والثقافة العربية في ماضيها بالخصوص. ومن أهم هذه الملفات ذلك الذي خصصته الأسبوعية "لوبوان" لثلاثة من عظماء الفلاسفة المسلمين، وهم الفارابي وابن سينا وابن رشد. وفي مقدمة الملف المذكور، تمّت الإشارة إلى أن الفلاسفة المسلمين لم يكونوا يتمتعون بالحرية الفكرية بالمعنى الحقيقي للكلمة، إلا أن ذلك لم يمنعهم من أن يواجهوا التحجّر الفكري والعقائدي. وما كان يجمع بينهم هو أنهم دعوا المسلمين إلى حب المعرفة، وإلى تجنّب الدوغمائية والسفسطة البلاغية، والعمل على توفير السعادة الحقيقية على الأرض من خلال تمرين استكمال الذات، أي من خلال جعل الفكر وحده وسيلة لتقريب الإنسان من الإلهي.
وجميع الفلاسفة المسلمون كانوا يتطلعون أيضًا إلى أن تكون المدينة محكومة من قبل حكيم، مدلّلين بذلك على أنهم كانوا يرفضون الحكم بالقوة والبطش والعنف. وفي الحوار الذي أجري معه، والذي نشر ضمن الملف المذكور، أشار الفيلسوف الفرنسي جان- بابتيست بروني إلى أنه اكتشف ابن رشد في الجامعة في الفترة التي كان يعدّ فيها أطروحة عن توماس الأكويني الذي كان من المعادين الكبار له. وقد انجذب إليه لأنه كان منذ بداية مسيرته الفكرية يفضل الفلاسفة المتمردين على غيرهم من الفلاسفة. ويضيف بروني قائلًا: "هناك ابن رشد العربي، وهو شخصية معقدة في حد ذاتها. وهناك ابن رشد أو أفيرواس اللاتيني، الذي نسميه بـ'شارح أرسطو'، والذي توفي عام 1198. بعد مرور أزيد من عشرين عامًا على وفاته، تلقت أوروبا أعماله قبل أن تتلقى أعمال ابن سينا. وكانت هذه الفترة غنية ورائعة قد تكون الإنسانية غير قادرة لأمد طويل على إدراك منجزاتها العظيمة. فيها امتلك الغرب من خلال بعض الموجات خلاصة فلسفة أرسطو". ويضيف بروني قائلًا إن ابن رشد كان شارحًا عبقريًّا. ولم يكن أبدًا مجرد ببغاء تقتصر مهمته على ترديد ما يقوله معلمه.




و"أرسطوليته" بارعة وثرية. والموضوع الأساسي الذي كان يحب الخوض فيه، والذي كان شديد التعقيد عند أرسطو، هو المتعلق بمسألة روح الكائن، وخصوصًا علاقتها مع العقل. وفي مؤلفه "شرح كتاب النفس" هو بلور النظرية التي أثارت ثائرة أعدائه لذا سارعوا بتكفيره. وملخّصًا هذه النظرية، يقول جان- بابتيست بروني إنه علينا أن نعود إلى مصدر الصعوبة عند أرسطو. ففي حين نجد أن الروح والجسد عند أفلاطون منفصلان، نحن نعاين عند أرسطو أن الروح هي شكل الجسد، وهي المبدأ الذي يحركه ويجعله حيًّا. وإذًا هي - أي الروح - ليست منفصلة عن الجسد. إلا أن الإنسان ليس حيوانًا يعيش مثل بقية الحيوانات. فله روح تتميز بملكة متفوقة تسمح له بأن يفكر. وهذه الملكة هي العقل. ولكن كيف تتم عملية تأقلم هذه القوة الفكرية مع الروح الإنسانية؟ هذا أمر ظلّ غير واضح لدى أرسطو. ولعل الدافع الأساسي لابن رشد كي يبلور نظريته الشهيرة هو الإجابة عن السؤال المذكور. وتتلخص هذه النظرية في مقترحات ثلاثة تبدو كما لو أنها عمل جنوني. وسوف تصدم المقترحات الثلاثة أوروبا على مدى خمسة قرون من الزمن. المقترح الأول يقول إن العقل مادة منفصلة عن الجسد. والثاني يرى أن العقل واحد لدى الإنسانية جمعاء. أما الثالث فيؤكد على أن العقل أبديّ، وأنه لم يُخلق، وأنه يظل حيًّا بعد موت الجسد...
وقد عارض ابن رشد في شروحاته عباقرة في الفكر اللاهوتي في أوروبا في العصور الوسطى. بينهم القديس بونافانتور، وتوماس الأكويني، وألبير لوغران. وبالنسبة لهؤلاء كانت نظرية العقل "كارثة عظمى". وباختصار هي تدمّر العقلانية الشخصية. وهي "شتيمة وسبّة" حقيقية للإنسانية وللفرد البشري. وهي "فكرة غريبة ودخيلة" إذ أن عقلًا واحدًا بالنسبة لجميع الكائنات البشرية لا يعني شيئًا آخر غير فوضى الأفكار، والتلميذ والأستاذ، والسيد والعبد، والضحية والجلاد، والمؤمن والكافر، وجميع هؤلاء يتقاسمون نفس الذكاء، وفي نفس الزمن. لذلك لم يتردد توماس الأكويني في نزع صفة "الشارح" عن ابن رشد ليصفه بـ"الفاسد" وبـ"المتفسخ". وانطلاقًا من القرن الثالث عشر، ازدادت التهجمات من قبل رجال اللاهوت في أوروبا ضد ابن رشد ليصبح مثالًا للنفاق والغش والتحيّل في المجال الفكري. وهو رجل "الحقيقة المزدوجة".

أحمد لطفي السيد

أي ذلك الذي يجعلنا نعتقد أن هناك حقيقة في مجال الفلسفة، وأخرى في مجال العقيدة من دون أن تكون هاتان الحقيقتان متناقضتين. ويرى جان- بابتيست بروني أن قوة ابن رشد تتمثل في أنه أقرّ بأن الفلسفة لا تتعارض مع الإسلام، بل أنها "إجبارية" لمن تكون لهم متاحة. غير أنه يقر أيضًا بأن للفلسفة طريقًا وللدين طريقًا آخر من دون أن يمنع كل واحد منهما من التوصل إلى نفس الحقيقة. ومعنى هذا أن ابن رشد كان فيلسوف الحقيقة الواحدة والطرق المتعددة، وليس "رجل الحقيقة المزدوجة" مثلما ادعى ذلك خصومه من رجال اللاهوت في أوروبا. ويختم بروني حديثه عن ابن رشد قائلًا: "من ناحية الشكل نقدر أن نقول إن ابن رشد يحيّر أوروبا، ويفتنها، ويصدمها ذلك أنه اعتبارًا لمدونته، ليس بربريًّا على الحدود، وإنما هو وجهها الآخر من الداخل إلى الداخل. آخر يمكن لأوروبا أن تستعمله، ومنه تستوحي قبل أن ترغب من دون أي شك في أن تمحو تراثه الفكري"...
وإذا ما كانت المعركة بين ابن رشد وخصومه الغربيين قد حسمت في النهاية لصالحه ليصبح ملهمًا لرموز الفلسفة العقلانية، إلا أنها انتهت في العالم الإسلامي بهزيمته، وبحرق كتبه، وبتكفيره. وكان أبو حامد الغزالي المنتصر الكبير إذ أنه شنّ هجومًا عنيفًا على النزعات الفلسفية التي ولدت من رحم الفلسفة اليونانية، وعلى أصحابها، ساخرًا من "تهافت عقيدتهم"، ومن "تناقض كلامهم فيما يتعلق بالإلهيّات"، ومن "غوائل مذهبهم وعورته" متّهمًا إياهم بالزندقة والكفر، ومعتبرًا آراءهم وعقائدهم متطابقة مع آراء وعقائد "العامة والدهماء". وقد عاضده في ذلك ابن تيمية الذي سيكون "المعلم الأكبر" لكل الحركات الأصولية التي اكتسحت العالم العربي- الإسلامي في العصر الحديث، إذ أنه ساند بقوة كل ما جاء في كتاب "تهافت الفلاسفة" لأبي حامد الغزالي واصفًا كل المتأثرين بالفلسفة اليونانية بأنهم "ملاحدة"، و"جهلة بالعلوم الإلهية".
في فترة حركة النهضة التي بدأت في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، سعى البعض من رموز هذه الحركة إلى ردّ الاعتبار إلى الفلسفة اليونانية، وإلى المتأثرين بها من العرب والمسلمين. وكان المصري أحمد لطفي السيد، الذي لقبه العقاد بـ"أفلاطون العربي"، من أبرز هؤلاء. وكذا كانت حال د. طه حسين الذي طالب في كتابه الشهير "مستقبل الثقافة في مصر" الصادر في الثلاثينيات من القرن الماضي، بضرورة تشريك مصر في التراث الإغريقي-الروماني بحكم ارتباطها الوثيق بالحضارات والثقافات التي تعاقبت على البحر الأبيض المتوسط في مراحل مختلفة من التاريخ. وبسبب هذا الكتاب، فُصل طه حسين من الجامعة، وتعرّض لانتقادات لاذعة، وواجه تهمة التكفير والإلحاد تمامًا مثلما كانت حاله عند صدور كتابه الآخر "في الشعر الجاهلي". مع ذلك واصل طه حسين دفاعه عن فلاسفة وشعراء الإغريق في كتابه "قادة الفكر" الذي قدّم فيه تعريفات مبسّطة ومفيدة عن رموز الأدب والفلسفة في بلاد اليونان. كما تحمّس آخرون لمشروع إحياء العلاقة مع الحضارة اليونانية، وأصدروا العديد من المؤلفات القيّمة والرفيعة في هذا المجال. ومن أبرز هؤلاء يمكن أن نذكر، الدكتور لويس عوض، وزكي نجيب محمود، ود. عبد الرحمن بدوي، وغيرهم، إلا أن هذه الجهود لم تثمر، ولم يتمكن أصحابها من بلوغ الأهداف المؤمّلة والمرجوة. ويعود ذلك إلى العودة القوية للحركات الأصولية التي برزت في الثلاثينيات من القرن الماضي، والتي أحيت فقه عصور الانحطاط والتخلف لتحارب به كل مظاهر التنوير والعقلانية لا بالخطاب الديني، ولا بالفتاوى فقط، بل بالعنف وهدر دماء ورفع السلاح في وجوه كل من يخالفهم في الرأي، ومنع كتبهم من الصدور والانتشار.





لذا كان ضحاياهم من أهل الفكر والأدب يُعدّون بالعشرات في مختلف البلدان العربية. وقد لاقت هذه الحركات مساندة مباشرة وغير مباشرة من جل الأنظمة الحاكمة مشرقًا ومغربًا إذ أن هذه الأنظمة حاربت هي أيضًا أصحاب الفكر الحر، وصادرت كتبهم، ورمت بهم في السجون، أو أجبرتهم على الفرار إلى المنافي. وفي البرامج المدرسية والجامعية يتم التعامل مع مادة الفلسفة بكثير من الحذر والتحفظ، وتتدخّل الرقابة في كل مرة يسعى فيها البعض من المدرسين لها إلى تجاوز "الخطوط الحمراء". بل إن البعض من الأنظمة العربية ألغت ومنعت تدريس الفلسفة باعتبارها مادة "خطرة، مفسدة لعقول الشبيبة"... غير أن العداء للفلسفة بدأ يخفّ خلال العقود الأخيرة. ويعود ذلك إلى التنامي والانتشار الواسع والمرعب الذي تشهده الحركات الأصولية المتطرفة التي شوّهت بجرائمها الإرهابية، صورة العرب والمسلمين، وسمحت لأعداء الإسلام بإيجاد مبررات ومستندات لأفكارهم وأطروحاتهم. وفي البعض من البلدان العربية، بما في ذلك الدول الخليجية، ظهرت نوادٍ ومراكز للبحوث والدراسات الفلسفية تقوم بتنظيم ندوات يحضرها ويشارك فيها أكاديميون وباحثون يمتلكون اطلاعًا واسعًا وعميقًا على مختلف المدارس والتيارات الفكرية والفلسفية قديمًا وحديثًا. وهذه ظاهرة محمودة وإيجابية نرجو أن تتواصل وتنتشر لكي تصبح الفلسفة وسيلة ناجعة لمقاومة التزمت والتحجر والتطرف والإرهاب الذي أصبح يهدد العالم برمته. لكن يجدر بنا أن نلاحظ أن إعادة الاعتبار للفلسفة لن يكون نافعًا ومفيدًا إلا بإحياء تلك اللحظة التاريخية العظيمة التي قام فيها الفلاسفة العرب والمسلمون بربط صلة وثيقة مع الفلاسفة الإغريق ليبلوروا أفكارًا وأطروحات كان لها دور كبير في نهضة الغرب الفلسفية. ولن يتم ذلك إلا بإدراج مؤلفات هؤلاء في المناهج المدرسية والجامعية، وبمدّ مراكز البحث والترجمة بما تحتاجه من مساعدات مادية ومعنوية لإصدار تعريفات وترجمات دقيقة للمؤلفات الكبرى التي تميزت بها الفلسفة الإغريقية في زمنها الذهبي.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.