}

السجون مدخلًا إلى سورية الواقع

سميرة المسالمة سميرة المسالمة 26 يوليه 2024
آراء السجون مدخلًا إلى سورية الواقع
مكسيم خليل في "ابتسم أيها الجنرال"
يفتح الكاتب سامر رضوان أبواب الذاكرة السورية الأليمة على مصراعيها، وذلك بعد إعلانه عن جاهزية نص عمله الدرامي القادم "الخروج إلى البئر"، والذي تدور مادته الأساسية حول استعصاء سجن صيدنايا الأول في 23 آذار/ مارس 2008، والثاني في 5 تموز/ يوليو حتى 4 كانون الأول/ ديسمبر من العام ذاته، والذي يعد واحداً من أطول فترات تمرد المساجين في العالم، حيث استمرّ قرابة عشر أشهر، وحصد كثيرًا من الضحايا لا تزال بعض أسمائهم مجهولة حتى اليوم، كما هو حال عددهم، ما يعني أن الكاتب سيعيد نبش تلك الحقبة القريبة والحاضرة في حياة عائلات المعتقلين، والتي لا تختلف تفاصيلها عما تخبرنا به صور قيصر المسربة من المعتقلات السورية بعد عام 2011.
تعد السجون إحدى الساحات الرئيسة في أعمال درامية عالمية، من مثل فيلم "الهروب العظيم" الذي أنتج عام 1963، وهو يروي تفاصيل عملية هروب أسرى وهم من ضباط التحالف في الحرب العالمية الثانية من أحد سجون النازية، وكذلك فيلم "باسم الأب" إنتاج عام 1993، والذي كتبه بطل الأحداث الحقيقي الأيرلندي جيري كونلون بعد خروجه من السجن، حيث اعتقل بعد وصوله إلى لندن بحثاً عن فرصة نجاة من حياة الفقر، بتهمة مسؤوليته عن سلسلة تفجيرات حدثت في المدينة. وكثير من هذه الأفلام التي وجدت طريقها إلى العالمية أخذت من السجون مكانًا حيويًا للتعبير عن قضايا كبرى، منها العبودية والحريات والديكتاتورية والفساد والإجرام، وهذه الأفلام تناولت القضايا من زوايا المتهم المجرم، أو المتهم البريء، وفي ظل حكومات متنوعة، وقضاء محكوم فاسد، أو حر نزيه.
ولم تخل الدراما العربية من المواضيع والاهتمامات ذاتها، وهي رغم ضيق صدور السلطات الحاكمة بها، وإحكام الرقابة عليها، إلا أن بعض الأعمال شكلت نقاط علام بارزة في أعمال سينمائية عربية، وبخاصة مصرية، تناولت واقع الاعتقالات الأمنية لأسباب أيديولوجية وسياسية، وبطرق غالباً ما كانت غير قانونية، أو من دون أدلة تستوجب الإدانة، أو حتى الاشتباه، ومنها على سبيل المثال فيلم "البريء" للكاتب وحيد حامد، الذي أنتج عام 1986، وسمح بعرضه بعد 19 عامًا، وقد أهداه كاتبه إلى كل عشاق الحرية والعدالة في كل مكان، حيث يستيقظ بطله "المجند" البسيط من خديعة النظام في أن "كل المعتقلين هم أعداء الوطن" حين يشاهد ابن قريته المسالم والمحب لوطنه بينهم، فيثور ضد الضباط ليحميه. وكذلك فيلم "احنا بتوع الأتوبيس" (إنتاج 1979)، من بطولة عادل إمام، وعبد المنعم مدبولي، وتدور أحداثه قبل حرب حزيران/ يونيو 1967 في عهد الرئيس جمال عبد الناصر، حيث تحدث مشاجرة بين البطلين ومحصل النقود في حافلة النقل العام "الأتوبيس"، الذي يلجأ إلى قسم الشرطة، لتبدأ قصة الاعتقال التعسفي بتهمة مزورة، وهي معاداة النظام الحاكم، التي استخدمها الضباط وسيلة للتدليل على أهمية وجودهم الأمني في المناخ العام.




وفي سورية كان السجن أيضًا أحد أماكن التصوير في بعض من المسلسلات السورية للتعبير عن إرادة المجتمع في معاقبة المذنب، وليس لنقد واقع السجون وطرق محاكمة المتهمين وصولًا إلى احتجاز حرياتهم ــ إن وجدت ــ حيث يقبع آلاف منهم من دون أي أحكام قضائية حتى اليوم، كما لا يمكن أن ننسى أن  تسليط الضوء على السجون من موقع درامي كان للحديث عن السقطات الاجتماعية للأبطال، أو البطلات، التي تودي بهم إلى خلف القضبان، كما كانت الحال في مسلسل "ممرات ضيقة" (2007) للكاتب الراحل فؤاد حميرة، الذي سلط الضوء على قضايا نسائية كانت ضمن فئة الممنوع من النشر مجتمعيًا، لما كانت تمثله هذه الشريحة من حالة تهميش اجتماعي وقانوني وإنساني.
إلا أنه ومع عودة الدراما السورية إلى تفعيل دورها، بعد خفوت صوتها لنحو عامين متتاليين بعد انطلاقة الثورة في سورية عام 2011، أخذت السجون، أو المعتقلات، مكانها أمام كاميرات المخرجين، لأنها أصبحت أحد أركان الحياة اليومية للمجتمع السوري، الذي ينام على خبر اعتقال أحد أفراده، ويصحو على أخبار أو صور جثثهم.
وحيث يبحث الكتاب عن منافذ لاستعادة المشاهد السوري والعربي، كان لا بد من معالجة الحدث الساخن في سورية، سواء عبر تناوله من وجهة نظر الحكومة، أي بتنميط الثورة والثوار كفعل إرهابي، يقابله جيش وأجهزة أمنية تدافع عن الوطن ومواطنيه، من دون أن تخلو تلك الأجهزة من فاسدين يتحملون وزر الجرائم المرتكبة في حق السوريين، أي أنها ترديد لما تقوله السلطة أنها مجرد أخطاء شخصية، وليست سياسة نظام الحكم؛ أو أن بعض الكتاب لجأ إلى التلميح إلى الواقع المأساوي للسوريين جميعهم، سواء كانوا من مؤيدي النظام، أو من المعارضين له، من دون اتخاذ مواقف حادة من الثورة تضيع عليهم ملامح الصدقيّة الدرامية في معالجة القضايا الحالية، وهو ما أسهم في خلط الأوراق بين كاتب مؤيد، أو معارض، وفتح أمام هذه الأعمال شاشات الأقنية العربية، وأسواق شركات إنتاجها المحلية والمشتركة والعربية.
في حين بقيت الدراما ذات المضمون الثوري المعارض للنظام الحاكم مستبعدة من شاشات التلفزة العربية، ومقتصر عرض إنتاجها على الشاشات الصديقة للثورة السورية، كما هي الحال في مسلسل "ابتسم أيها الجنرال" للكاتب رضوان، من بطولة مكسيم خليل، وعبد الحكيم قطيفان، وغطفان غنوم، وريم علي، ومازن الناطور، وفيه قدم الكاتب رؤية عامة للواقع الأمني الاستبدادي في سورية، ولم تعرضه إلا قناة العربي2، وقناة سورية، التي تبث من تركيا، إلا أن ملامسته المباشرة للأحداث السورية على الرغم من الملاحظات الإخراجية عليه، جعله في أعلى مراتب المشاهدات، ولعل ذلك ما يشجع على إنتاج المسلسل الجديد للكاتب الذي يتناول ما لم يكن أي سوري يستطيع البوح به ولو لنفسه.
أي أن رضوان، بـ"الخروج إلى البئر"، يريد أن يعيدنا عبر سطوره الدرامية كما قال في إعلانه عن عمله إلى الواقع المؤلم بكل تفاصيله، إلى الزمن الذي يقع بين الاستعصاء الأول والثاني لسجن صيدنايا، وما بينهما كثير مما يكتب عنه، وكأنه يقول لنا: توقفوا فالحياة في سورية ليست كما تقدمها لنا المسلسلات المعربة، قصور وغرام ووجوه مرسومة بالألوان، فسورية ليست تلك البلاد الوديعة فقط، هي أيضًا "سورية الدولة المتوحشة" كما سماها الباحث ميشيل سورا الذي اغتيل عام 1986.

* كاتبة سورية.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.