}

عن قيد الثقافة الماضوية وعن إيماننا بالنصر

منذر بدر حلوم منذر بدر حلوم 10 سبتمبر 2024
آراء عن قيد الثقافة الماضوية وعن إيماننا بالنصر
"إصرار الذاكرة" لسلفادور دالي

جميل أن نصل إلى يقين أننا منتصرون في قضايانا المصيرية، وعلى رأسها تحرير فلسطين وتحرّرنا من حكّامنا- "خدّام إسرائيل"، ولكن اليقين ينبني على معرفة وإيمان، بحسب تعريف الفيلسوف الروسي أليكسي لوسيف. وفي حين أن الإيمان في الظاهر، عندنا، كثير فإن المعرفة قلما يُظهرها واقعنا المرير. الحديث هنا عن المعرفة العلمية، طبعًا، وليس ادّعاء المعرفة بالغيب ومعرفة تأويل النصوص خارج سياقاتها اللغوية- النصية والثقافية، والتاريخية-، عمومًا.
إسرائيل لم تعزّز وجودها، وتغدو قوة تدمير هائلة، فقط بخرافة حق العودة التي بنت دولتها عليها، إنما أساسًا بقوة العلم، قوة المعرفة العلمية، بالتطلّع إلى الغد. استخدمَ صانعو إسرائيل أسطورة الوعد الإلهي المزعوم، وركبوا العلم مركبًا لتحقيقها، بخلاف العرب الذين ما زالوا بمعظمهم يركبون الأساطير والخرافات لمواجهة واقع ينبني على قوة المعرفة العلمية، ولا يُواجَه إلا بها، مهما بلغ إيمانهم بالحق وقوة الحق. الحق بلا سلاح المعرفة، دائمًا يتعكّز على السماء.

امتلاكنا القوّة يقتضي امتلاكنا آليات إنتاج المعرفة العلمية، وليس منتجاتها جاهزةً، مُعلّبًة، مُعدّةً للاستخدام. ومن أجل امتلاك آليات إنتاج المعرفة العلمية نحتاج إلى أشياء كثيرة على رأسها الحرية، وليس آخرها حاضنة اجتماعية- سياسية- تعليمية- علمية، ومن أهمها تغيير نظرتنا إلى حركة الزمن التي إما نكون جزءًا منها أو تلفظنا، فإذا بنا أوابد. وبيننا من يقدّس الأوابد.

سأعود هنا إلى تأمّلات سابقة لي في علاقتنا بالزمن، أعود إليها لسببٍ بسيط هو أن الزمن يتغير ويغيّر الوجود من حولنا بسرعات فائقة، فيما نحن نُفرمله ونقول له "عُد أيها المبارك إلى الوراء. عد أيها الآبق!". للأسف، الفهم الأكثر بساطة وانتشارًا للزمن، في العقول المستريحة، يقول بحركة في اتجاه واحد، من الماضي إلى الحاضر إلى المستقبل. في حين أنّ الزمن لا يكون وظيفيًا على هذه الشاكلة، ولا هو كذلك يسير. المستقبل، وليس الماضي، هو الذي يحدّد الحاضر. فكيف ذلك؟

نحن الذين نحدّد حركة الزمن واتجاهه، بأسئلتنا، وسعينا إلى إجابات عنها. الأسئلة التي نطرحها على المستقبل، تعيد تعيين حاضرنا بمشاريع وخطط ومسارات بحثية ومناهج وأدوات، وكوادر يشغلها العلم وآليات إنتاجه، فتجعل الحاضر معملًا للمستقبل. الحاضر، بِطرحهِ أسئلةً ذات طبيعة مستقبلية- استشرافية يعيد تعيين نفسه بها، فيصبح حاضرنا الذي نعيش وليد مستقبلنا؛ وفي حين أن المستقبل، بتعيينه آليات اشتغال الحاضر وشبكته المعرفية بعناصره وأسئلته يقود إلى مزيد من المستقبل، ويعزّز حركة الزمن التقدمية، نجد الحاضر في اشتغاله على مسائل ماضوية يتعين بأسئلة الماضي ووسائله وآلياته وأدواته ونظرته إلى الأشياء. العملية البحثية- المعرفية من طبيعة المبحث، وهي من طبيعة المستقبل في الحالة الأولى وتقود إليه، ومن طبيعة الماضي في الحالة الثانية وتشد إليه؛ إنما ستجد من يقول: ولكنْ ثمة في الماضي مستقبلٌ كامنٌ لم تُتِح له الظروف في حينه أن يتحقّق. فهل يصلح بعض المستقبل المتخلف في الماضي لأن يكون مستقبلًا لأبناء الحاضر والغد؟

في الإجابة أقول: يتنافس المستقبل والماضي على مساحة الحاضر، وعلى النتاج الذهني، وبالتالي المادي. ولعلّ من يقول بمستقبلٍ ما زال حيًا في الماضي، يعني تلك المشاريع التي يرى أنها لم تكتمل، تلك المساعي التي قُمعت، تلك التيارات التي يرى أنها لو سادت لغيّرت التاريخ. وإلى ما هنالك من أشياء يستجديها، فيتبنّى المشاريع التي يرى أنها لم تأخذ حقها، ويلبس عباءة الشخصيات التي يرى أنها ظُلمت، ويشغل مقاعد المهزومين، فيتقمص بذلك كلّه روحَ الإخفاق والهزيمة، غافلًا، ربما، عن أن روحَ التاريخ روحُ تجاوز، الهزيمةُ والنصرُ بالنسبة لها سيّان. وبهذا المعنى، لا وجود لهزيمة أو نصر بالنسبة للتاريخ، بل ثمة عملية تاريخية يكونان فيها معًا، ولا تكون ما لا يكون كلاهما. وهكذا، يستنفد التاريخ (التجارب المخفقة) و(التجارب الناجحة) بالدرجة نفسها. وكل شيء بالنسبة للتاريخ (مكتمل)، فهو يكون أو لا يكون. وإذ يكون، فإنما يكون جزءًا من صيرورة عامة، لا يُعرف بالنتائج، التي يقتضي الوقوف عليها القطع والثبات، إنما بالوظائف. الأشياء الفاعلة في العملية التاريخية هي التي تصنع التاريخ. أمّا ما عداها فلا أهمية تذكر له. ولا يكفي أن تعيش الشعوب حتى تكون في التاريخ أو تكون جزءًا فاعلًا من التاريخ. فكما أن التاريخ ليس حجارة ومدونات ورُقُم، مع أن وجودها يدل على عبور التاريخ، كذلك فإن التاريخ ليس هو الشعوب. أهميتنا، بهذا المعنى، نحن العرب اليوم، لا تتجاوز أهمية الأوابد، إذ أننا مثلها ندلّ على أن التاريخ قد مرّ من هنا، فنكون بذلك أشبه بمُدوّنات أو رُقُم بيولوجية تدل على مرور التاريخ. وهكذا يكون الماضي الذي يعيّنه الحاضر مستَنفدًا، بصرف النظر عن رغبات الحاضر وعواطف المقيَّدين أحياءً فيه.
معلوم أننا حين نختار شيئًا نخسر كل الأشياء الأخرى التي لم نقم باختيارها. ولا طريق آخر. اختيار كل شيء، يعني عدم اختيار أي شيء، أي عدم القيام بعملية الاختيار ذاتها. واكتشافنا خطأ اختيارنا لاحقًا لا يعني إمكانية عودتنا إلى خيار آخر (صائب). ولو افترضنا أن العودة إلى الخطوة السابقة ممكنة فلن تؤدي عودتنا إلى النتيجة المرجوة، لأن الحالة تكون قد صارت إلى أخرى بعناصرها المختلفة وتفاعل هذه العناصر، والخيار الذي نعود إليه يكون قد تغيّر. العودة عن خيارٍ ما، إلى ما سبق أن أهملناه، لو كان ممكنًا وهو غير ممكن، تعني إعادة كل العناصر إلى ما كانت عليه. والإيمان بإمكانية العودة لإحقاق حق مُفوّت، في أحسن حالاته، يقود إلى محنطات وعبادة محنطات، أو إلى أصنام وعبادة أصنام. وبالتالي، فإن المحاولات التي تستند إلى تخليد ما يمكن تسميته بـ "جنين مستقبل ما زال حيّا في الماضي" تقود إلى مومياءات تصلح للفرجة لا أكثر.
خلاف الماضي، يقوم المستقبل، من خلال الأسئلة المطروحة عليه، بتعيين الحاضر بعناصر حية متحركة، بتفاعلات، بفرضيات لم تُختبَر بعد، وليس بعناصر محنّطة ميتة، ولا بفُرص مفوّتة. وهو يقوم بذلك على مبدأ "لا وظيفة للإخفاقات سوى خدمة النجاحات". من لا يخدم التقدّم يسقط مع البقايا ونفايات التاريخ. ولا معنى لتقديس فرصة كانت ممكنة في الماضي إلا كمعنى تقديس ورقة يانصيب خاسرة لأنها كان يمكن أن تربح. من الواضح أن وظيفة أوراق اليانصيب الخاسرة خدمة الأوراق الرابحة (تسديد قيمة الجوائز، وخدمة مؤسسة اليانصيب). بل، لو سايرنا مثالنا وتصورنا أن يقوم أحدٌ ما بتجميع أوراق الماضي الخاسرة، لإعادة السحب، فإلامَ سيؤدي ذلك؟ أولًا، سوف تستمر عمليات إعادة السحب إلى ما لانهاية، لأن هناك مزيدًا من الأوراق الخاسرة كل مرة؛ وثانيًا، من سيدفع قيمة الأوراق المأخوذة من الماضي؟ هل مؤسسة اليانصيب؟ ولكن ذلك سيؤدي إلى إفلاسها، أي إلى إفلاس الحاضر الذي يعمل في خدمة الماضي.

أمّا الممكن الوحيد نظريًا، ونتيجته عبثية، أن تكون جائزة رقم الماضي، الذي تتوقف عنده دواليب الحظ، جميع أوراق اليانصيب الخاسرة كلّ مرة، على اعتبار أن لها قيمة افتراضية معنوية، فتكون النتيجة مزيدًا من الدوران في الماضي والغرق فيه، بما يشبه حركة الدوّامات المائية الدورانية التي تبتلع كل ما ومن يدخل حقلها وتُغرقه. 

وهكذا، تكون مقولة (من ليس له ماض ليس له حاضر) باطلة. فالصحيح (من يبحث عن المستقبل في الماضي لا حاضر له ولا مستقبل). أمّا لمن يصرّ على العودة إلى الماضي، فأضيف التالي: الماضي يكون عامًّا، دائمًا، وليس لخصوصيته أهمية، إلا بالمعنى الشخصي على سوية الأفراد، وبالمعنى البيولوجي، بالنسبة للأيديولوجيات التي تقول بنقاء العرق؛ وللعقائد التي تقول بالثبات. ماضينا نحن العرب، مهما عظُمت أهميته أو قلّ شأنه، هو ماض إنساني عام، تجاربُه الناجحة والمخفقة متاحة أمام الجميع بالدرجة نفسها، وملك للجميع، بالدرجة نفسها أيضًا. أما حاضرنا فهو حاضرنا وحدنا بكل ما فيه من عجز عن طرح الأسئلة التي تجعل للمستقبل مصلحة وحضورًا فيه، وبكل ما فيه من مرارة وذل. وهكذا، فلا أهمية تذكر للتحدّر البيولوجي والثقافي، ليس من زاوية نكران الانتماءات الثقافية، إنما من زاوية الانتماء، ثقافيًا، للتجارب المخفقة كما للتجارب الناجحة، وسطوة الإخفاق ثقافيًا، وربما تفوّقه في الحضور الفاعل على النجاح. ففي الوقت الذي يتحول فيه النجاح، غالبًا، إلى رمز، إلى أسطورة، ونادرًا، إلى واقع، يتحول الإخفاق دائمًا إلى واقع. فلكي تتحول التجارب الناجحة إلى واقع، تحتاج إلى منظومة واقعية مشابهة للمنظومة التجريبية التي اختُبرتْ فيها.
وعليه، إذا أردنا أن يكون لنا حاضر فلا بد أن نطرح الأسئلة على المستقبل، بكل الشك الذي لا عملية علمية من دونه، وبروح التجاوز وهز المسلّمات ووضع ما يسمى "حقائق" في سياقاتها وشروطها، ونترك للأسئلة أن تعيّن واقعنا بكل طاقة الحريّة الجبّارة. من دون ذلك، لا مستقبل لنا ولا حاضر؛ وإن زالت إسرائيل، لأسباب خارجة عنا، فستظهر إسرائيل أخرى في أرضنا، لأسباب فينا.

 

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.