}

من سولجينتسين إلى باسترناك: الصهيونية لا تقبل الأسئلة

منذر بدر حلوم منذر بدر حلوم 24 يونيو 2024
استعادات من سولجينتسين إلى باسترناك: الصهيونية لا تقبل الأسئلة
سولجينتسين وباسترناك

لماذا اليهود الروس في فلسطين المحتلة من أكثر الصهاينة عنصرية وتطرفًا ومغالاة في العنف ضد الفلسطينيين، وتفننًا في أساليب سحقهم وإلغاء وجودهم، إن لم يكونوا الأشد إيغالًا في ذلك على الإطلاق؟
اليهود الروس يعدّون إسرائيل بيتَهم، ومن هنا جاء اسم حزب "إسرائيل بيتنا"، بل يتفاخرون بأنهم هم من بنوا هذا البيت، ومستعدون للموت في سبيله. ما زلت أذكر الدموع التي رأيتها على شرفات عيون معارف روس غير يهود وهم يتابعون مقابلة مع أرييل شارون في مزرعته في فلسطين المحتلة، وقد تحدث حينها بالروسية "فبات شارونهم"، وقد صوره البرنامج ببراعة مزارعًا طيبًا. هل هذا غريب؟ لا.

نحو إسرائيل الثالثة
لفهم ما يصعب تقبّله، من المفيد العودة إلى تاريخ نشأة الصهيونية ــ التأسيس الأول، ثم إلى تأسيس إسرائيل الثانية، في تسعينيات القرن الماضي، على موجة الهجرة الهائلة من الاتحاد السوفياتي. ما أريد التوقف عنده هو طبيعة مهاجري التسعينيات، بخلاف جيل المؤسسين، ليس نحو الرحمة إنما العكس: نشأ مؤسسو إسرائيل "بيتهم" في حاضنة الاستبداد، واستسهال القتل، وبساطة إيجاد مسوغات لإلغاء الآخر، معنويًا ثم جسديًا، بمجرد تحويله إلى عدو! ألم يعيشوا في الحاضنة التي كان الناس فيها يقبلون وصم المعارضين بـ"أعداء الشعب"، وعائلاتهم بعائلات أعداء الشعب؟ أجل، نشأوا في هذه الحاضنة، واشتغلوا في إنتاجها، كغيرهم، أدواتٍ بدرجاتٍ مختلفة من الفاعلية. ولذلك، يسهل عليهم تحويل كل من يخالفهم الرأي، أو الأهداف، إلى عدو للشعب، اليهودي طبعًا، والسلسلة لا تنقطع عند الجيل الأول، جريًا على الغريزة!
وهكذا، فقد انبنى تأسيس إسرائيل الثانية على هجرة عدد كبير من اليهود السوفيات، المستعدين من أجل توكيد ذواتهم وتميّزهم عن القطيع السوفياتي الذي كانوا جزءًا منه، بل ومن إنتاجه، وسَوقه، إلى تحويل كل من هو أضعف منهم، ممن يسهل استعراض القوة ضده والانتصار عليه، إلى عدو للشعب ــ شعبهم.
ومَنْ أعرف من الفلسطينيين بما فعل هؤلاء، ويفعلونه بأشد أشكاله غلواء، مع اكتسابهم القدرة على الفعل؟ لقد وُضعتْ في أيدي مؤسسي إسرائيل الثانية (ستجد هنا من يحتج، فيقول: بل هي إسرائيل الثالثة، بعد إسرائيل التوراتية، وإسرائيل الأمم المتحدة!) أسبابُ القوة وحقُ التصرف بهذه القوة بلا حساب. وها نحن، الآن، أمام محاولة تأسيس إسرائيل الثالثة، التي إذا لم نُسقطها فلن يبقى شيء من فلسطين سوى ما يبقى عادة في الذاكرة الثقافية والبكائيات.
اليهود الروس يرون أنهم هم من صنعوا إسرائيل الأولى والثانية، وهم من يجب أن ينجزوا إسرائيل الثالثة. على أي أرضية يقوم استنتاجي هذا؟

ولادة الصهيونية
أدعوكم إلى التوقف مع مقتطفات من فصل "ولادة الصهيونية" في كتاب "مئتا عام معًا 1795 ــ 1995" الصادر في مجلدين 2001 ــ 2002، لمؤلَّفه الكاتب الروسي حائز نوبل للآداب ألكسندر سولجينتسين. ففي "ولادة الصهيونية"، كتب سولجينتسين، بعد عرضٍ تاريخي موثّق بالأسماء والأحداث والتواريخ: "الصهيونية ولدت في أوروبا متأخرة عشر سنوات عن ولادتها في روسيا". وقد استشهد، لتأكيد أن أوروبا الشرقية، ويهود روسيا، هم من أنقذوا فكرة هرتزل، بما خطه الكاتب النمساوي ستيفان تسفايغ: "كُتيّب هرتزل (الدولة اليهودية) تسبب بقلق وانزعاج في أوساط البرجوازية اليهودية النمساوية، (فقالوا) أي شيطان حلّ في رأس هذا الصحافي حاد الذكاء، الموهوب، والمثقّف؟ ما هذه الحماقة التي يكتب عنها؟ ما الذي يجعل من واجبنا التوجه إلى فلسطين؟ فلغتنا الأم هي الألمانية وليست العبرية، ووطننا هو النمسا الرائعة". وها هو هرتزل يقدّم "لأعدائنا مسوغات الوقوف ضدنا، ويحاول عزلنا".




وفي النتيجة، "خذلته فيينا، بل سخرت منه". ثم ما لبثت أن جاءت الاستجابة العاطفية الجماعية، هادرةً كالرعد، إلى درجة كاد معها دفقُ الحياة المتنامية الهائلُ الذي بعثه كُتيّب هرتزل الصغير يرعب مؤلفه. والواقع أن هذه الحركة "وُلدت بين جموع يهود أوروبا الشرقية الضخمة. فلقد أشعل هرتزل، بكتيّبه، شرارة اليهودية الخامدة تحت رماد الغربة"، بعد أن كان الأمر قد وصل بهرتزل ــ كما كتب تسفايغ ــ إلى تبنّي خطة للمجيء باليهود النمساويين إلى الكنيسة وإخضاعهم لتعميد جماعي، وبالتالي "حل المسألة اليهودية دفعة واحدة، إلى الأبد، عن طريق دمج اليهودية بالمسيحية".
وأضاف سولجينتسين، في غير مكان من "ولادة الصهيونية": "في المؤتمر الصهيوني الأول، شكّل ممثلو الصهيونية الروسية ثلث عدد المشاركين الكلي: 66 من أصل 197 مندوبًا، رغم أن مشاركتهم كان يمكن أن تعدّ خطوةً معارضةً للحكومة الروسية. وقد انضم إلى الصهيونية جميع أعضاء (محبي صهيون) الروس مهيّئين بذلك لقيام الحركة الصهيونية العالمية". وأضاف سولجينتسين: "ومن روسيا بالذات، خرج معظم مؤسسي دولة إسرائيل وبانييها الطليعيين"، بل إن "أفضل نماذج النصوص الصهيونية كُتبت باللغة الروسية". واللافت أن الصهاينة الروس ــ الذين يخيّل للمرء أنهم الأكثر حاجة بين يهود العالم إلى ملجأ سريع- كانوا أكثر حدة في مواقفهم من الجميع، ضد مشروع إنشاء دولة يهودية في أوغندا، الذي اقترحته الحكومة البريطانية سنة 1903.

"الصهيونية هي اليهودية ذاتها"...

بين عامي 1989 و2006 هاجر من روسيا حوالي 1.6 مليون يهودي، اختار 979 ألفًا الهجرة إلى إسرائيل، وفضل 325 ألفًا الهجرة إلى الولايات المتحدة، و219 ألفًا الهجرة إلى ألمانيا


بالعودة إلى ما نقله سولجينتسين عن تسفايغ، نجد هرتزل قد "برع... في جعل كل من ينتقد أهدافه أو يشكّك بشيء من خطواته عدوًا ليس فقط للصهيونية، بل وللشعب اليهودي برمته". ووصل الأمر بنورداو، رفيق هرتزل، إلى القول "الصهيونية ليست حزبًا، إنما هي اليهودية ذاتها". وربما، من المفيد هنا ذكر تأكيد وزير داخلية القيصر نيقولاي الثاني الذي رتّب لقاء هرتزل مع القيصر، وقال لمؤسس الصهيونية، حسب سولجينيتسن: "سيكون تأسيس دولة يهودية [تضم] عدة ملايين من اليهود مرغوبًا جدًا لنا. ولكن هذا لا يعني أننا نريد فقدان جميع يهودنا. فنحن نتمنى لو تبقى لدينا العناصر المثقفة والغنية القادرة على الاندماج، أمّا الفقراء والأقل ثقافة فسيسرنا التخلّي عنهم".




لكن في تسعينيات القرن العشرين غادر إلى إسرائيل اليهودُ الأكثر ثقافة مع موجة الهجرة، وباتت إسرائيل ملاذًا آمنًا للمال اليهودي والروسي الفاسد، وللهاربين من العدالة، أو من التصفيات في أوساط نخب اللصوص التي وصلت إلى السلطة في روسيا وريثة الإمبراطورية المنهارة، ثم جاءت موجة هجرة أقلّ عددًا، ولكن أرفع ثقافة ومكانة سياسية وأكثر مالًا، مع بدء "العملية العسكرية الروسية الخاصة" في أوكرانيا في سنة 2022.
ومنذ التسعينيات، بات في الإمكان فهم لماذا يقول محبو إسرائيل بين الروس غير اليهود: "إسرائيل روسية"، كما تباهى حاكم عربي، ذات يوم، بأن لديه جالية كبيرة في إسرائيل، وإذا لم تغدرهم قوة الحق وإرادة الحرية، ستجد بيننا من يتباهون بأنهم كانوا أول المطبّعين، أو السباقين إلى التعامل مع أولاد العم الساميين، مع أنك لو شتمتهم ألف مرة في اليوم، أو رجمتهم، فلن تطاولك مقولة معاداة السامية.

هل لروسيا سلطة على إسرائيل الروسية أم العكس؟
"أنتم أول المسيحيين في العالم وأفضلهم"، قال الشاعر والكاتب الروسي حائز نوبل للآداب، بوريس باسترناك، مخاطبًا بألمٍ وعدم تصديق أبناء جلدته اليهود، ملمّحًا إلى أن لهم يدًا فيما عانوه من اضطهاد في زمن ما. وسنرى كيف ذلك، بعد قليل.
من أجل ذلك، دعونا نتوقف قليلًا عند مؤلف رواية "الدكتور جيفاغو"، وتحديدًا عند اختلافه مع أبيه حول الموقف من إسرائيل. بوريس يهودي بحكم الولادة، ولكنه لم يكن صهيونيًا، بل كان يرى في الصهيونية وبالًا على اليهود، بينما أبوه الرسام والموسيقي ليونيد كان نصيرًا للاستيطان الصهيوني في فلسطين، وقد زار فلسطين ضمن وفد سنة 1924. وقف بوريس ضد الفكرة الصهيونية، ودعا إلى اندماج اليهود الروس في مجتمعهم الروسي، بل وكان يعدّ نفسه وطنيًا روسيًا بعمق، ما استدعى غضب أول رئيس لحكومة إسرائيل، ديفيد بن غوريون. وقد قادني البحث عن باسترناك الأب إلى مقال جاء فيه: في روسيا، تذكّر ي. أفيرينتسيف، في تشرين الثاني/ نوفمبر من العام 1988، كلمات أول رئيس وزراء إسرائيلي. قال أفيرينتسيف، في 16/ 11/ 1988: "من المرجح أن مسألة ما إذا كان (بوريس) باسترناك روسيًا قد حُلّت عمليًا. ولكن إذا كان هناك من وبخ باسترناك لسبب حقيقي، فهو بن غوريون: (وبّخه) لخيانته اليهودية"(1).
كان بوريس باسترناك مقتنعًا بأن الحل الوحيد للمسألة اليهودية هو الاندماج الكامل. ويختتم باسترناك وصفه لمشهد المذبحة اليهودية الدموي، خلال الحرب الأهلية، بالحكمة التالية: "من المستفيد من هذه العذابات... من يحتاج إلى هذا العدد الكبير من الرجال والنساء والأطفال الأبرياء، الأقدر على فعل الخير، وعلى التواصل الإنساني القلبي... لماذا لم يَقُل حُكّام هذا الشعب؟ تعقّلوا. يكفي. توقّفوا... لا تتجمعوا، تفرقوا. كونوا مع الجميع. أنتم أول المسيحيين في العالم وأفضلهم. أنتم بالضبط أولئك الذين عارضكم الأسوأ والأضعف بينكم".
لقد أثارت وجهة نظر باسترناك هذه، بشأن المسألة اليهودية، انتقادات حادة من رئيس الوزراء الإسرائيلي آنذاك ديفيد بن غوريون، كما تشير صحيفة فوروارد. ففي مقابلة أجرتها معه سنة 1959 وكالة التلغراف اليهودية، قال بن غوريون: "جيفاغو أحد أكثر الكتب التي أحتقرها، فهو كتاب ألّفه عن اليهود كاتب من أصل يهودي. وهذا أمر مؤسف للغاية، لأن الرواية كتبها رجل لديه الشجاعة الكافية لمعارضة حكومته". لم تعجب رئيس الوزراء الإسرائيلي بشكل خاص صورة ميشا غوردون، صديق يوري جيفاغو، الذي يتساءل لماذا لا يزال اليهود غير قادرين على الاندماج؟.
وفي المقال نفسه، نقرأ: "لقد فوجئ العديد من المعاصرين بوطنية باسترناك الروسية الحماسية، وإحجامه عن تذكّر جذوره". وعلى وجه الخصوص، كتب المفكر الإنكليزي الشهير من أصل يهودي روسي، أشعيا برلين، الذي خدم في السفارة البريطانية في موسكو عام 1945، عن ذلك، التالي: "عَدّ باسترناك نفسَه وطنيًا حقيقيًا. بالنسبة له، بلا شك، كان من المهم أن يشعر بالارتباط مع البلاد ويشاركها (أحداثها) التاريخية... تجلّت رغبة باسترناك العاطفية والمؤلمة تقريبًا في أن يُطلق عليه اسم كاتب روسي حقيقي، روسي الروح، في موقف سلبي تجاه جذوره اليهودية... يعتقد باسترناك بأن اليهود يجب أن يندمجوا ويختفوا كشعب. لقد تحدث معي من موقف المؤمن المسيحي المقتنع... ولكن حين يُطرح موضوع اليهود الفلسطينيين في الحديث مع (بوريس) باسترناك، يظهر على وجهه تعبير أسف حقيقي. وعلى حد علمي فإن والد الشاعر والفنان لم يشارك ابنَه آراءَه"(2).

تابو الصهيونية
إذا كان مؤلف "مئتا عام معًا" لم ينج من تهمة معاداة السامية؟ وبوريس باسترناك الذي أريد له أن يكون يهوديًا بحكم الولادة فاختار أن يكون مسيحيًا، وأسف لحال أبيه، فلماذا نتوقع أن تنجو الصحافية الحرة الشجاعة نديجدا كيفوركوفا من أنشوطة الصهيونية، وأذرع إسرائيل التي تلاحق كل من يناصر فلسطين الضحية؟ يغدو مفهومًا تساؤل الصحافي مكسيم شيفتشينكو عن طبيعة اعتقال قرينته السابقة كيفوركوفا، المهددة اليوم بالسجن سبع سنوات، فقد قررت محكمة موسكوفية حبسها على ذمة التحقيق لمدة شهرين، وإذا أدينت بتهمة "تسويغ إرهاب طالبان" فستخرج، إن بقيت على قيد الحياة، في الثالثة والسبعين من عمرها. كتب مكسيم، في 6 مايو/ أيار على قناته المسماة "مكسيم يهاجم" في تيليغرام(3): "... لا أريد أن أفكر بأن هذا انتقام البعض، للأسف بين القوى المؤثرة جدًا في روسيا، من موقف ناديجدا كيفوركوفا الصريح المؤيد للفلسطينيين. ولكن، كما يتضح، إدانة الإبادة الجماعية في غزة وانتقاد إسرائيل قد يكون لها عواقب سلبية في روسيا، بينما دعم الإبادة الجماعية للشعب الفلسطيني، لا؟"...

هوامش:
(1) https://berkovich-zametki.com/2014/Starina/Nomer3/Gass1.php
(2) https://jewish.ru/ru/stories/reviews/1781/?ysclid=lvtkqnxaim280934161
(3) https://t.me/shevchenkomax_1

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.