}

في حرب إسرائيل وحبّها: وجه الثقافة ومؤخرتها

منذر بدر حلوم منذر بدر حلوم 30 أبريل 2024
آراء في حرب إسرائيل وحبّها: وجه الثقافة ومؤخرتها
دينا روبينا


للثقافة وجه ودبر، الوجه لقارئ يبحث عن التسلية وربما الاستمتاع، ولا تعنيه هويات أبطال النص وانتماءاتهم القومية والدينية، وربما لا يجد معنى لربط الأحداث ومصائر الأبطال بهذه الانتماءات، ولا بفكرة العدالة، ولا يعنيه أن يخدش القشرة الأدبية الجميلة ليرى القبح الأخلاقي المتخفي تحتها، وأما الدبر فلمن يبحث عن الحقيقة، ومصير هؤلاء إلى الجحيم، أو إلى الدبر، كما تقول بطلة هذه المطالعة. فهي من أتباع مذهب "إذا لم تكن الحقيقة معنا، فلتذهب الحقيقة إلى الجحيم، ولتأخذ معها الحق والعدالة والقيم الإنسانية".

في مقال معنون بـ "دينا روبينا توضح موقفها من الحرب في إسرائيل" (1)، جاء التالي: دُعيت الكاتبة دينا روبينا (وهي، بالمناسبة، تُعرّف نفسها أكثر بأنها إسرائيلية، وحين تنال الجوائز في روسيا روسية، ودائما يهودية)، للمشاركة في حوار عبر الإنترنت مع القراء نظّمه "معهد بوشكين" بالتعاون مع جامعة لندن. وافقت الكاتبة، لكنها تلقّت فيما بعد رسالة من المنظمين يطالبونها فيها بـ "تحديد موقفها من الصراع الإسرائيلي الفلسطيني".

فقد كتبت لها نتاليا (من الجهة المنظمة): "مساء الخير دينا: أعلن معهد بوشكين عن لقائنا المقبل على وسائل التواصل الاجتماعي، فوصلته على الفور رسائل تنتقد موقفك من الصراع الفلسطيني الإسرائيلي. إنهم يرغبون في فهم موقفك من هذه القضية، قبل أن يتخذوا قرارهم. هل يمكنك صوغ موقفك وإرساله لي في أقرب وقت ممكن؟"
وجاءها رد روبينا:

"العزيزة نتاليا!

لقد كتبتم بشكل جميل عن رواياتي، وأنا آسفة جدًا على الوقت الذي أهدرتموه. يبدو أنه سيتعيّن علينا إلغاء لقائنا. فقد ألغت جامعة وارسو وجامعة تورون للتوّ محاضرات للكاتب الإسرائيلي البارز الناطق بالروسية يعكوف شيختر... انتابتني شكوك في أن هذا يمسّني أيضًا، لأن البيئة الأكاديمية اليوم هي الأرض الأكثر خصوبة لمعاداة السامية المسعورة والأكثر إثارة للاشمئزاز، والتي تتلطى وراء ما يسمى بـ "انتقاد إسرائيل". كنت أتوقع شيئًا كهذا، بل وجلستُ، ثلاث مرات، لأكتب لكِ رسالةً حول هذا الموضوع... لكنني قررت الانتظار، وكان ما توقعته.

وإليكِ ما أريد قوله لكل من ينتظر مني تقريرًا سريعًا متذللًا عن موقفي من وطني الحبيب، الذي يعيش الآن "بل دائمًا" محاصرًا بحلقة أعداء مسعورين يسعون إلى تدميره؛ عن بلدي الذي يخوض الآن حربًا وطنية عادلة ضد عدو مسعور، قاس ومخادع ومتطور: آخر مرة في حياتي قدمت اعتذارًا كانت في مكتب مدير المدرسة، في الصف التاسع. ومنذ ذلك الحين، وأنا أفعل ما أرى أنه صحيح، وأصغي إلى ضميري فحسب، وأعبّر عن فهمي... لقوانين العدالة الإنسانية.

وهكذا: فأنا آسفة حقًا يا نتاليا على جهودك وآمالك في أن تطبخي معي طبيخًا يعجب الجميع (أن تجعلي مني لقمة سائغة للجميع)" (وتسرد هنا، بأسلوب مؤثّر، ما قامت به حماس من ممارسات في 7 تشرين الأول/ أكتوبر تصفها بأنها وحشيّة). وختمت روبينا رسالتها الطويلة بالقول: "الآن، بكل سرور، ومن دون جهد كبير في اختيار الكلمات، أرسل، بكل صدقٍ وقوةٍ روحية إلى "الدبر" جميع "المثقفين" عديمي العقل المهتمين بموقفي. قريبًا ستجدون أنفسكم هناك". (وربما صح في التعريب قول "حلّوا عن دبري"، ولكن الروس، بخلافنا نحن العرب، يدعون إلى المكان وليس عنه).

توخيًّا للعدالة

والحق يقال، كان يمكن تفهّم موقف دينا روبينا، من وجهة نظر انفعالية عاطفية، وهي الكاتبة الحساسة، أم يمكن ألا يكون الكاتب حساسًا؟!، كان يمكن تفهّم موقفها لو أنه صدر في السابع من أكتوبر/ تشرين الأول 2023 على خلفية الصدمة بما فعلته حماس بـ "وطن روبينا الحبيب"، الذي ليس هو وطن الفلسطينيين، بحال من الأحوال، أو بعده بأيام، وليس في 14 مارس/ آذار 2024، بعدما أبادت إسرائيل عشرات آلاف النساء والأطفال الفلسطينيين ودمّرت المدارس والمستشفيات ودور العبادة وقتلت الطواقم الطبية، في معسكر اعتقال كبير لا يمكن أن يسمى وطنًا حبيبًا! يبدو صحيحًا أن الوطن هو المكان الذي يوطّن الإنسان نفسه عليه، يوطّن عقله وأخلاقه، وجميع معاييره، فإذا به وطن صالح للاستعمال من قبل السياسيين الفاشيين.

"أنا لا أحب الإسلام"

محاولتي لتعليل موقف روبينا بعاطفتها وانفعالاتها وإنسانيتها لا تصمد أمام الواقع، ففي بحثي عما أرافع به عنها أمام محكمة الضمير (ألم تقل بعظمة لسانها إنها لا تصغي إلا إلى ضميرها؟) وجدت أنها، منذ عقد من الزمان، أسقطت بنفسها فرصةَ الدفاع عن موقفها. ففي 7 أغسطس/ آب، 2014 (2) حكت السيدة دينا عن أسباب عدم رغبتها في الحديث عن السياسة، ولماذا أوكرانيا، بالنسبة إليها، هي التي تعيش في إسرائيل منذ 1990، قادمة من الإمبراطورية المنهارة، لماذا أوكرانيا أقرب إلى قلبها من روسيا، رغم أن اللغة الروسية لغتها الأم وبها تعبّر عن إنسانيتها الفائقة تجاه العرب والمسلمين- أم أن إنسانية الكاتب تتأتى من إنسانـ (ـه)، أي ابن دينه وعرقه ومذهبه وقبيلته وعائلته، وليس من الإنسان، بأل التعريف!؟-، فقالت: "الحرب، أي حرب، ليست ظاهرة بالأبيض والأسود، إنما هي منظار يعرض مجموعة متنوعة من الأسباب. كل شيء معقد، بل معقد جدًا.


واليوم، من أجل القول بدقة: هذا خير، وهذا شر، يجب أن لا تكون كاتبًا، بل أن تكون مسؤولًا لديه إمكانية الوصول إلى الإحصائيات ومختلف المعلومات. أعلم أنهم في الحرب يقتلون من كلا الجانبين. ففي الصراع بين الصرب والبوسنيين، على سبيل المثال، أقف إلى جانب الصرب. أنا لا أحب الإسلام، فهو الآن دين عدواني للغاية. لكن الصرب ذبحوا أيضًا أطفالًا بوسنيين. لذلك، أنا لا أوافق على أن من الممكن فصل الخير عن الشر بهذه السهولة. نعم، في الواقع، استولت روسيا على شبه جزيرة القرم واقتطعتها. بالنسبة لي، هذا أمر سيء، ولكن هناك عددًا كبيرًا من الناس يصرخون: "شبه جزيرة القرم لنا!"، يقولون إن هذه الأرض كانت دائمًا روسية، وما أهمية توقيع نيكيتا (خروشوف، على منحها لأوكرانيا). إنما للتعبير بدقة عن هذا الأمر، عليك أن تعرف كثيرًا من الأشياء. وعلى المستوى الإنساني، أنا أتعاطف مع أوكرانيا لأنها دولة لم تعتد على أحد. أوكرانيا أقرب إليَّ من روسيا، الدولة الإمبراطورية ذات الجيش الضخم".

تستخدم روبينا شخصية كافكا المركزية في القصة، للتعبير عن أعمق مشاعرها اليهودية


أوروبا العاهرة العجوز

ليس دفاعًا عن "العاهرة العجوز"، كتب الناقد الأدبي "أستاذ فقه اللغة في جامعة كوبان، يوري بافلوف، تحت عنوان "دينا روبينا: بورتريه على خلفية الكتاب الروس وفرانز كافكا (3): "فرقة جاز على جسر تشارلز" (صدرت في 2011) أحد أكثر أعمال الكاتبة صراحةً حول الموضوع اليهودي. هذه قصة عن براغ. مثال المؤلفة يهوديان، هما الحاخام يهودا لوف بن بتسلئيل وفرانز كافكا... تستخدم روبينا شخصية كافكا المركزية في القصة، للتعبير عن أعمق مشاعرها اليهودية... مصير كافكا وأقاربه يمنحها، في المقام الأول، فرصة النطق بالحكم على "أوروبا المباركة والأكثر ثقافة". تنطق بالحكم مرتين – في ما يخص الضحايا اليهود في الحرب العالمية الثانية والحرب بين إسرائيل وفلسطين. وهي ترى أن موقف فرنسا وألمانيا والمثقفين الإيطاليين، في هذه الحرب بين إسرائيل وفلسطين، مؤيد للعرب، ما دفعها إلى وصف أوروبا بـ"العاهرة العجوز".

وهكذا، فبصرف النظر عن منطلق من يُنصف الفلسطينيين، أكان تاريخيًا أم إنسانيًا أم حقوقيًا-قانونيا، سيصبح عاهرا!

كتبت روبينا: "في الصباح كنا متلهفين لسماع الأخبار: أصّرت ألمانيا على المقاطعة؛ في فرنسا يحرقون المعابد اليهودية؛ المثقفون الإيطاليون، تأكيدًا على تضامنهم مع الفلسطينيين، يتظاهرون في الشوارع، هناك ممثلون إيمائيون، يحيطون أجسادهم بأحزمة ناسفة... والحياة تسير كالعادة. تبقى أوروبا العاهرة العجوز وفية لتاريخها المعادي للسامية".

عواء لزج مزعج

وفي لعبة تحريض لم تجهد نفسها كثيرًا في إخفائها، كتبت روبينا عن معاناة المسيحيين مما تسميه عواء المآذن، في قصة "الحمار الأبيض في انتظار منقذ": "أومأت الأم برأسها بهدوء، وقالت: نعم، ألكسندرا موهوبة جدًا. كان هناك دائمًا وفرة في معلّمات الحرف في الأديرة.

في تلك اللحظة ضرب أذنيَّ هديرٌ تقشعرّ له الأبدان. استغرق الأمر مني ثانيتين أو ثلاثًا لأتعرّف فيه على أغنية المؤذن. هذا العواء اللزج المزعج الذي أسمعه عند الفجر خلال نومي، من بعيدٍ عبر الوادي. هنا، جرى تضخيمه بمكبرات صوتٍ تُصمّ الآذان، فبدا أشبه بصرخة معركة هائلة... كيف يتحمل سكان القرى العربية أنفسهم هذا التعذيب السمعي المخصّص للكفار، وكيف لا يُصاب أطفالهم النائمون بالتأتأة؟

لمدة ثلاث دقائق تقريبًا، تعالى العواء إلى إعصارَ صوتي محموم، تضخّم حولنا أشبه بجدار ملموس. جلسنا وانتظرنا. كان من المستحيل أن نقول كلمة أو نسمع بعضنا بعضًا. وأخيرًا، انتهى كل شيء، كما لو أنه انهار في صمت الصحراء المذهل، المعذب بهذا العنف الصوتي.

نظرتْ رئيسةُ الدير إلى وجهيَ المرتبك، وأومأت لي برأسها، وقالت بصوتٍ بالكاد مسموع: "نعم، نعم... جيراننا... - وكررت وهي تتنهد - جي- را- ننا..."، وانحنت، وانتابها الحزن، مثل امرأة قروية عجوز، وسوّت وضع القبعة الرسولية البيضاء على رأسها".

وبحسب الناقد بافلوف المشار إليه أعلاه، وصف الآذان بهذه الألفاظ الواردة في القصة، يشهد ببلاغة على "الصحة العقلية" لمؤلفتها.

زانية تبحث عن الشهادة

ويندهش بافلوف من الموقف اللاأخلاقي الذي تَسوقُ إليه وتسوّق له روبينا، في روايتها "ها هو المسيح قادم!"، حيث، كما تقول "يُقتل حاييم غورك المسالم واللطيف بثلاث طلقات بينما كان يقود سيارته في قرية عربية". "الحبكة في هذه الرواية تقوم على التالي: الفتاة العربية ابتسام شحادة تقرر قتل يهودي، لأن هذه هي الطريقة الوحيدة لإخفاء خطيئتها وتجنب الموت على أيدي إخوتها. فهي حبلى من معلمها، ولا يبقى أمامها سوى هذا..."، أي قتل يهودي مسالم لطيف.

وفي قصةٍ، يمكن ترجمة عنوانها بـ "قصة من الحياة"، كتبت روبينا: "كانت هناك ثلاث نساء عربيات يجلسن على الطاولة المجاورة. كالعادة، متشحات كلهن بالسواد... تتحرك الزوجات العربيات بسلاسة على طول الأرصفة، في ثنائيات وثلاثيات، ويبقين معًا. لكن في أحد الأيام صادفت امرأة وحيدة، ترتدي جلابية سوداء واسعة حتى أخمص قدميها، ووشاحًا أسود وحجابًا. فقط عيناها أشرقتا من عمق الشق. جلستْ بتثاقلٍ على المقعد المجاور لي، وظهرت ركبة سميكة بيضاء من خلال شق فستانها... جلستْ وساقاها الغليظتان متباعدتان في حذاء أديداس رياضي، وراحت تتنفس بصعوبة... ثم أخرجت علبة حبوب، من مكانٍ ما في جيبها، وألقت بحبتين في راحة يدها ودفعتهما إلى فمها، كما كان الأوزبك العجائز، وبالحركة نفسها، يلقون ما في أيديهم إلى أفواههم ويمضغونه ببطء، ثم يبصقون لعابًا أخضر طويلًا على الأرض، كان ذلك منذ فترة طويلة، في طفولتي في طشقند. لعدة دقائق، جلسنا بجانب بعضنا بعضًا، تتلامس نظراتنا، بشكل غير محسوس، منفصلتين، بشكل لا يمكن تصوره، عن بعضنا بعض"...

حقًا يصعب تصور هذا الانفصال، هذا البعد، بل الشرخ الإنساني بين أي شخص لمجرد أنه عربي، و/ أو مسلم، وبين الكاتبة التي تعرف قيمة الكلمة وكيف توظّفها، حين تربط بين الآذان والعواء، وبين سائحة عربية، جلست لتناول حبة دواء، وبصاق أخضر يخرج من فم أوزبكي عجوز. إنه شيء يدفع إلى الغثيان!

 

1-  https://dzen.ru/a/ZfL4cY4iVmrGNL0Y

2- https://www.liveinternet.ru/users/5393901/post333237138

3-Конец формы

 https://rkuban.ru/archive/rubric/literaturovedenie-i-kritika/literaturovedenie-i-kritika_3707.html

4- https://lgz.ru/article/kartinka-s-natury/

 

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.