مضت قرابة سنة على "طوفان" السابع من أكتوبر الجلَلْ الذي بُذل له حبر كثير وغزير تحليلًا وتقويمًا، هجاءً أو تمجيدًا، وكانت آراءٌ متفاوتة ومتناقضة، تفاعلات وتأثّرات وحماسات، ومن ثم تأسّيات حيال مآسي الإبادة والمجازر الإسرائيلية الوحشية التي تلت الحدث الكبير الذي ما برحنا نعيش تداعياته. ولبثتُ على المستوى الشخصي منتظرًا القول الفصل والقراءة الأدقّ لما جرى في هذا التاريخ المفصليّ، وما سبقه وما تلاه، ممّن عهدتُ دومًا لديه دقة التحليل والتوصيف والاستنتاج المبنيّ على عقل جدليّ، علميّ، موضوعيّ، وأعني بذلك الدكتور عزمي بشارة الذي ألفنا انتظار مواقفه وآرائه وتحليلاته الدقيقة الصائبة عند كلّ حدث مفصليّ مؤثّر في مسار قضايانا العربية، وعلى رأسها القضية الفلسطينية الأمّ.
العلم اليقين حول "طوفان الأقصى"، دوافعه وخلفياته وتداعياته وتفاصيله وحيثياته، بتنا اليوم قادرين على معرفته والاطّلاع على دقائقه لدى قراءتنا كتاب "الطوفان: الحرب على فلسطين في غزة" للدكتور عزمي بشارة، الصادر حديثًا في أيار/ مايو الفائت 2024 ضمن منشورات المركز العربي للأبحاث والدراسات، في 183 صفحة قطعًا وسطًا، وفي فصول بحثٍ أربعة: 1 ــ عملية طوفان الأقصى والحرب على غزة (تقييم في خضم الأحداث)، 2 ــ قضايا أخلاقية في أزمنة صعبة، 3 ــ الحرب على غزة: السياسة والأخلاق والقانون الدولي، 4 ــ الحرب على غزة وأسئلة المرحلة. فضلًا عن جداول وأشكال بيانيّة، وفهرس بالمراجع العربية والأجنبية، وفهرس عام بالأسماء.
يلفتنا الباحث أولًا إلى أن حدث السابع من أكتوبر الكبير لم تُعرف خواتيمه بعد، لذا يصعب الإلمام بجميع مكوّناته وآثاره، وأنّ الحقائق بشأنه "لا تُرى قبل انجلاء غبار مرحلة ما"، مع أن "للقرب الزمني، أو معايشة الحدث، فضائل أيضًا"، مؤكدًا على "أنّ هذا الكتاب الصغير لا يطمح إلى البحث في تاريخ منفصل لقطاع غزة، ولا في تاريخ القضية الفلسطينية"، علمًا بأنّ مؤلّفًا آخر للدكتور بشارة صدر في التاريخ نفسه، وعن المركز عينه، تحت عنوان "قضية فلسطين: أسئلة الحقيقة والعدالة" في 392 من القطع الوسط، وهو ترجمة عربية عن الكتاب بنسخته الإنكليزية الصادرة عام 2022. ولنا عودة إلى هذا المؤلَّف القيّم جدًا.
بإيجاز شديد، يتناول الباحث خلفية الحدث، مشيرًا إلى أن انسحاب إسرائيل من داخل غزة عام 2005 لا يعني نهاية الاحتلال. وفي هذه الإشارة ردّ على بعض الآراء التي كانت مصدّقة أنّ غزة متحرّرة من الاحتلال ومفاعيله، فسرعان ما يؤكد الدكتور عزمي على أنّ إسرائيل "ظلت قوة احتلال في غزة من خلال تحكمها في حركة سكانها، وفي كل ما يدخل إليها ويخرج منها، وفي بحرها وأجوائها، وحوّلتها إلى معسكر اعتقال كبير هو الأكبر في العالم، حيث يُسجن فيه أكثر من مليوني فلسطيني" (ص12) غير غافل عن "أنّ لمصر دورًا في ذلك، إذ إنّها أسهمت في فرض الحصار منذ عام 2007" (ص12). ويلفت القارئ إلى أنّ "غالبية سكان غزة من اللاجئين الذين يعيشون على مسافة كيلومترات معدودة من القرى التي هُجّروا منها، وهي مكوّن أساسيّ من القضية الفلسطينية التي لم تقارَب، فضلًا عن أن تُحَلّ، بقرار شارون الانسحاب من القطاع من دون اتفاق، أو تسوية عادلة، أو عادلة نسبيًّا". شرح مهمّ لحقيقة واقع غزة المحاصرة يفضي بالباحث إلى القول الحسم: "لم يغمر الطوفان الأرض من العدم". في هذا القول دحض لكلّ المقولات حول واقع غزة ما قبل "الطوفان"، والتي أدلي بها جهلًا، أو خبثًا، أو عن سوء تقدير. ويستشهد الدكتور عزمي بكلام الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش القائل بموضوعية لا لبس فيها أو شك: "من المهمّ أن ندرك أن هجمات حماس لم تحدث في فراغ، وأن هذه الهجمات لا تبرّر لإسرائيل القتل الجماعي الذي تشهده غزة" (ص12).
الحصار المفروض على غزة منذ عام 2007 ليس وهمًا افتراضيًا، بل تقوم عليه أدلّة واضحة ودامغة يفنّدها الباحث واحدًا واحدًا، منها عدم السماح للغزيين بالخروج من القطاع إلا في حالات استثنائية فحسب (من مثل تلقي علاج طبي)، ومنع دخول كثير من السلع، كالمواد الأولية للبناء والصناعة والأغذية والأدوية، وغيرها، بموجب قائمة إسرائيلية طويلة، و"بحجة أنّ لها علاقة، وإن كانت بعيدة وغير مباشرة، بمتطلبات بناء الأنفاق، أو لوجود احتمال، ولو كان ضئيلًا، لاستخدامها في صناعة الصواريخ والقذائف" (ص13) فضلًا عن التحكّم في كهرباء القطاع وضربها، وقصف المناطق الزراعية، ونشوء بطالة غير مسبوقة تصل نسبتها إلى ثلثي قوة العمل (ص13).
في الوصف الدقيق الذي يقدّمه الدكتور عزمي بشارة "أصبح قطاع غزة معتمدًا كلّيًا على ما يدخل من إسرائيل عن طريق المعابر، كمعبري بيت حانون ــ إيرز، وكرم أبو سالم. وتتحكم إسرائيل في اقتصاده وحياة سكانه تحكمًا شبه كامل، يخفّف من وطأة انفراج ناجم عمّا سمّي "اقتصاد الأنفاق"، وذلك بتوسيع شبكة الأنفاق السرية التي تصل القطاع بمصر، والتي استُخدمت لا لإدخال الأسلحة ومواد صناعة المتفجرات وغيرها فحسب، بل أيضًا للتجارة واستيراد البضائع" (ص13). ويرتبط كل ذلك أيضًا "بالتهميش الذي تعرّضت له قضية فلسطين في السنوات الأخيرة، والذي لم يستهن بمعاناة الفلسطينيين تحت الاحتلال في الضفة الغربية، وبالسلطة في رام الله، فحسب، وإنّما استخفّ أيضًا بشقاء غزة المتواصل، ما كان يدفعها إلى لفت نظر العالم إلى محنتها مرة بعد أخرى بتدابير شتى، منها إطلاق صواريخ مثلًا" (ص14 ــ 15).
تَرَاكمُ ما أسماه الكاتب "شقاء غزة ومحنتها"، كأنّما للقول إنّ هذا الكمّ من القهر والإذلال والحصار والتقييد والمنع ولّد غضبًا عُبّر عنه مرارًا بإطلاق الصواريخ للتذكير بواقع القطاع المحاصر والمتروك. أضف إلى ذلك واقعًا خارج نطاق غزة إنّما يعني أهلها هو تكثيف النشاط الاستيطاني وتوسيع المستوطنات في الضفة الغربية والقدس وارتفاع وتيرة عمليات اقتحام الأقصى، ولا سيما في عام 2002، خصوصًا بوجود الحكومة الأكثر يمينية في تاريخ البلاد (ص15). فضلًا عن إساءة معاملة الأسرى الفلسطينيين في السجون الإسرائيلية ومصادرة مكتسباتهم على مستوى حياتهم في السجن (ص15). مبرّرات كافية لانتفاض فلسطينيي غزة ضدّ اقتحامات المسجد الأقصى، والاعتداءات على الضفة، والتعامل الوحشي مع الأسرى في السجون. ليكتمل النقل بالزعرور، كما يقول المثل في بلاد الشام، وتزدهر مشاريع التطبيع بين بعض الدول العربية وإسرائيل، من دون حلّ القضية الفلسطينية. واستنادًا إلى هذه الخلفية تُقرأ بالنسبة إلى الدكتور عزمي بشارة عملية طوفان الأقصى "وإن ليست هذه الخلفية سببًا مباشرًا" (ص16) وبالتالي "يمكن تفسير قرار التخطيط لمثل هذه العملية وتنفيذها بتلقين إسرائيل درسًا على الخلفية المذكورة. ويمكن أيضًا إضافة التصدّي لتهميش قضية فلسطين، وإعادتها إلى مركز الاهتمام الإقليمي والدولي" (ص16).
يشرح المؤلف واقع حركة حماس في غزة، وعلى مستوى الواقع الفلسطيني عامة والشرخ الذي حصل بينها وبين السلطة الفلسطينية في أعقاب اتفاق أوسلو، ثم الصدام المسلح بينهما عام 2006، ومعضلاتها وتناقضاتها إزاء جميع الأطراف، سواء السلطة، أو الاحتلال الإسرائيلي، وحتى مصر والدول المعادية للإخوان المسلمين. لنصل إلى عملية طوفان الأقصى بحسب نظرة الدكتور بشارة الذي يحكّم موضوعيته قائلًا: "لقد ارتكبت خلال هذه العملية العسكرية الطابع عمومًا انتهاكات بحق المدنيين الإسرائيليين" (ص19) مستدركًا أنّه "اتضح أيضًا أنّ جزءًا كبيرًا مما أعلنته إسرائيل ووسائل إعلامها، وكذلك وسائل الإعلام الغربية التي دأبت على نقل الرواية الإسرائيلية بلا تحفظ، في حين تحفظت على نقل الرواية الفلسطينية، في ما يتعلق بجرائم ارتكبت ضدّ المدنيين، لم يكن صحيحًا، وأنّ القوات الإسرائيلية ارتكبت جزءًا آخر بسبب الارتباك والذهول اللذين أصاباها بتأثير الصدمة والمفاجأة، وذلك بإطلاق النار من المروحيات والدبابات على مقاتلي حماس والمحتجزين من الإسرائيليين، هذا عدا اختلاط الحابل بالنابل عند إطلاق الجنود الإسرائيليين النار على الفارين بسياراتهم، أو سيرًا على الأقدام، من مهرجان موسيقيّ كان ينظّم بالقرب من كيبوتس رعيم، على بعد 5 كيلومترات من الحدود مع غزة، ربما تفعيلًا لتعليمات قديمة (بروتوكول هنيبعل) تحثّ الجنود على منع هروب الخاطفين مع المحتجزين (من الجنود)، حتى لو أدّى ذلك إلى قتل الآخرين". وتقتضي الموضوعية الإشارة إلى "تجاوزات، وحتى جرائم، ارتكبت في حق المدنيين من جانب الطرف المهاجم، بمن في ذلك مقاتلو كتائب عز الدين القسام، وبعضها لا يتحمّل أولئك المقاتلون مسؤوليته المباشرة، إذ تدفقت جموع من الغزيين إلى المستوطنات عبر فتحات السياج الحدودي الذي اخترقه مقاتلو القسام". ويلفتنا الباحث إلى "أنّ ما ميّز عملية طوفان الأقصى هو سمتها العسكرية التي تكاد تكون نظامية، بمعنى اختلافها عن عمليات المقاومة المسلحة المنفردة". ويحيلنا على مؤلّفه الآخر "قضية فلسطين"، الذي يصف فيه المقاومة المسلحة في فلسطين بأنّها أصبحت في ضوء التجربة وانسحاب الدول العربية من المواجهة مع إسرائيل حالة دفاعية رادعة، وبالتالي يمكن شمل عملية طوفان الأقصى كاستمرار للاستراتيجيا الدفاعية "فهي ردّ على تواتر اقتحامات المستوطنين الحرم القدسي الشريف، بحماية الشرطة الإسرائيلية وحرس الحدود، إلى درجة تشكيل واقع جديد من التقسيم الزماني فيه. وهي ردّ على الحصار المتواصل على القطاع وعدم الوفاء بالوعود المختلفة لتخفيفه بعد كل حرب من الحروب الأربعة. وهي أيضًا ردّ على سياسة معلنة لإساءة أوضاع الأسرى الفلسطينيين وظروف سجنهم منذ تأليف حكومة الائتلاف اليميني المتطرّف وتعيين إيتمار بن غفير وزيرًا للأمن القومي، وإعادة سجن أسرى محرّرين في صفقات سابقة. وكان أخذ رهائن لإجراء عملية مبادلة من أهداف العملية المعلنة، لإجبار إسرائيل على تنفيذ عملية تبادل" (ص21) دوافع ومسبّبات وأهداف واضحة لا تحتمل شكًّا أو جدالًا أو افتراضات أخرى حاول البعض الترويج لها.
يرى الدكتور عزمي في عملية الطوفان "تجاوزًا للمنطق الدفاعي الردعي بوصفه الوحيد الممكن كما تبيّن من تاريخ الكفاح المسلّح الفلسطيني"، عادًا "أن حسابات هذه الحرب خاطئة، فاستراتيجية الكفاح المسلح الممكنة في الظروف الراهنة هي الردع والدفاع مع هامش واسع لعمليات استنزاف تمنع تطبيع حالة الاحتلال، وتعوق تحوّله إلى وضع عادي لا تزعج ᾿روتينه̔ أي مقاومة" (ص22). إذًا، بعد تأييد الباحث أحقّية الخلفيات والدوافع، يرى في المقابل أنّ القائمين بالعملية أخطأوا الحسابات بتحويل المقاومة من وظيفتها الردعية ــ الدفاعية إلى وظيفة هجومية مبادِرة. فهو يتابع الفكرة بقوله: "لا يمكن أن تكون الاستراتيجيا هجومية في ظل ميزان القوى بين إسرائيل وحركات المقاومة في غزة والضفة الغربية، والأوضاع الإقليمية، حيث تنقسم الدول العربية بين دول معنية بالقضاء على حركة حماس، أو إخراجها من المعادلة الإقليمية على الأقل، وأخرى لا تستطيع أن تشاركها المواجهة المباشرة مع إسرائيل، أو غير راغبة في ذلك" (ص22 ــ 23). ويقرّ دكتور عزمي بأنّ عملية طوفان الأقصى حققت هدف "التصدي لتهميش القضية الفلسطينية من خلال التطبيع بين دول عربية وإسرائيل من دون حلّها حلًّا عادلًا" (ص24) وقد أفشلت العملية في رأيه هذا التهميش، وإن أنكرت قيادة حماس أنه من أهدافها.
فلسطيني يضم كفن أقاربه بعد نقل ضحايا هجوم إسرائيلي على أسرة إلى مستشفى العودة في جباليا/غزة (20/ 9/ 2024/ الأناضول) |
يمرّ الباحث تفصيليًا على دور الإعلام واستعادة إسرائيل دور "الضحية" في حملتها الإعلامية، وتبنّي الرئيس الأميركي بايدن الرواية الإسرائيلية حول ذبح المدنيين ( (slaughteredعلى يد حماس، وليس قتلهم (killed)، وهنا يُبرز دكتور عزمي الفروق (المتعمّدة) في المصطلحات، لخدمة الرواية الإسرائيلية المتبنّاة أميركيًا حول "قطع رؤوس الأطفال" و"جرائم الاغتصاب"... حتى أظهرت التحقيقات كذب تلك الادعاءات "ففي وسع أيّ عاقل الاستنتاج أن هذه المزاعم الفعّالة في استثارة المشاعر كانت جزءًا من استراتيجية الدعاية الحربية، لا مجرّد أخطاء. وتكرارها يخلّف وصمة يريدونها أن تلصق بالمقاومة الفلسطينية، متمثلة في حركة حماس في هذه الحالة" (ص28 ــ 29). كما تمّت "شيطنة الغزّيين بوصفهم الحاضنة الاجتماعية غير البريئة لأنهم لم يثوروا على حكم حماس للقطاع، على حد تعبير الرئيس الإسرائيلي يتسحاق هرتسوغ، بما يتيح الاقتصاص الجماعي منهم" (ص29). هنا يلفتنا الباحث إلى "أنّ الانتقام الجماعي يشكل إحدى مميزات الاستعمار الاستيطاني، فالردّ بعد عملية عنيفة تعرّض لها مستوطن أو أكثر يكون عادة بالانتقام من القرية، أو البلدة، أو الحي، حيث يقطن مرتكب الفعلة، أو من حيث خرج. فالاستعمار الاستيطاني ينظر إلى السكان الأصليين بوصفهم جماعات، ولا بد من معاقبتهم (تربيتهم) جماعةً، فهذه بنيتهم الاجتماعية، ولا وجود لمسؤولية فردية، أو تعاقدية (مسؤولية هيئات واتحادات)، كما أنهم لا يفهمون سوى لغة القوة من منظور المستعمر" (ص30).
أمر آخر تحقّق، في تقدير الدكتور عزمي بشارة، هو أيضًا لم يدخل في حسابات من خطّط لعملية طوفان الأقصى: "اتساع التضامن العالمي مع فلسطين نتيجةً للجرائم الإسرائيلية التي لم تخطط لها حماس بالطبع"، لافتًا إلى أنّ "السلوك الإسرائيلي الشديد الهمجية" ليس سببه عملية طوفان الأقصى، بل "يرجع إلى النزعة الثأرية وسياسات العقوبات الجماعية"، كما يهدف إلى "جعل غزة غير صالحة للحياة" (ص32)، مؤكدًا أن الحرب الإسرائيلية "تجاوزت هدف القضاء على حماس إلى شنّ حرب إبادة"، مكررًا القول إن حسابات القائمين بالعملية كانت خاطئة "ولم يتبقّ إلّا الإنجازات السياسية المهمة التي لم يُخطّط لها، ولكنها أصبحت من أهم نتائج الحدث، مثل إفشال تهميش قضية فلسطين (وإن لم يتوقف التطبيع)، والتضامن الشعبي العالمي الواسع مع الشعب الفلسطيني في غزة نتيجة للفظائع التي ارتكبتها إسرائيل، وهو أيضًا ليس ضمن الحسابات والخطط. ولا شك في أن القضية الفلسطينية تشهد أوسع تضامن شعبي منذ النكبة" (ص35).
يحذّر الدكتور عزمي من المبالغات قائلًا: "يضيف كثير من المحللين أمورًا مثل اتضاح هشاشة إسرائيل ومجتمعها بدليل الهستيريا والخوف الوجودي اللذين أثارتهما العملية. وربما يُفهم هذا السياق بوصفه انكشاف الضعف الذي يفترض أن يشجع "أطرافًا أخرى̔ على محاربة إسرائيل. وفي ما عدا غياب هذه الأطراف الأخرى المدعوة إلى هذه المحاربة باستغلال الفرصة السانحة، فإنّ الحصيلة الحالية هي استخدام إسرائيل الخوف الوجودي في التحشيد للحرب وقلبها إلى حرب على الوجود الفلسطيني في غزة، ولحشد إسناد غير مسبوق من داعميها، ولا سيما الولايات المتحدة، بالمال والسلاح" (ص35 ــ 36). جليّ من هذه الملاحظة (بل التحذير) فائقة الأهمية أنّ ما يمكن أن تظنّه المقاومة ومحورها ضعفًا وهشاشة في الكيان يوظّفه الصهاينة بدهاء في تعزيز مقولة "الخطر الوجودي" والخطر الداهم على الكيان، لمضاعفة مستوى الوحشية في الإبادة.
هنا ينتقل بنا الباحث، وتحت عنوان فرعي، إلى "الحرب الإسرائيلية ودوافعها"، مشيرًا إلى أنّ حصر التصريحات الرسمية الإسرائيلية بشأن عملية طوفان الأقصى وردّ إسرائيل عليها يحتاج إلى أكثر من مجلد، ومثلها تحليل الرأي العام الإسرائيلي الذي يحتاج أيضًا إلى مجلد آخر، لذا يكتفي باحثًا متابعًا بإيجاز أهم ملامح ردَّي الفعل العسكري والسياسي الإسرائيليين، وثمة في قراءتنا هنا إيجاز للإيجاز بسبب ضيق المجال. يقول الدكتور عزمي "إنّ ردّ الفعل الإسرائيلي الأوّلي جمع بين الصدمة والاندهاش وإحياء المخاوف الوجودية، وذلك بسبب اكتشاف قدرات فلسطينية غير متوقعة تطوّرت في تحدّ لحصار دام 17 عامًا على القطاع (...) ولم يخلُ الأمر من غضب وشعور بالإهانة بسبب انقلاب نظام الأشياء. ومثّل هذا الانقلاب صورة الفلسطيني الذي يجرّ الجندي الإسرائيلي، أو بسحبه من الدبابة. وأسهمت الدعاية الرسمية في مخاطبة الغرائز وتعميق المخاوف باستدعاء تشبيهات الهولوكوست ومعاناة اليهود عبر التاريخ" (ص37). صدمة إذًا، واندهاش لقوة الخصم المستجدة، وخوف على الوجود، واستعادة لذاكرة الهولوكوست، ومخاطبة للغرائز، ودعوة الى الانتقام القبليّ. ويصف الكاتب واقع الكيان الصهيوني بكلمات معبّرة وفريدة: "تعيش إسرائيل منذ ذلك اليوم عملية تعبئة وتجييش قبليّة بدائية بأساليب تكنولوجية حديثة" (ص37). معادلة صائبة ودقيقة تكتمل لدى الإسرائيلي بالمبالغات والكذب والأوصاف العنصرية بحق الإنسان الفلسطيني والدعوة إلى عدم الرأفة به والدعوات الصريحة إلى إبادته، وتشجيع عامة الناس على حمل السلاح حتى "اكتسح مشهد النساء والرجال الذين تتدلّى تحت خصورهم بنادق إم 16 (M16) المجال العمومي، من مراكز التسوق، وحتى غرف التدريس في الجامعات" (ص38).
طلاب جامعة جورج تاون في واشنطن العاصمة ينظرون من نوافذ مساكنهم إلى مسيرة احتجاجية لدعم فلسطين في الحرم الجامعي (4/ 9/ 2024/Getty) |
يعيد الدكتور عزمي وقائع الشروع في الإبادة من خلال عمليات القصف الوحشية جوًّا وبرًا وبحرًا على غزة عمومًا، وليس على أهداف محددة فيها، وهذه كلّها وقائع مهمة، موثقة ودقيقة جدًا، مرفقة بأشكال بيانية لاستطلاعات داخل المجتمع الإسرائيلي حول إمكانية الانتصار في الحرب وتحقيق الأهداف وإزالة التهديد، وهل سيتم كل ذلك في تقديرات الشارع الإسرائيلي. وهذا حيّز في البحث يحتاج إلى قراءة في الكتاب وغير مفيد اختصار مضمونه وأرقامه في قراءتنا الحالية. أمّا في أهداف حرب الإبادة ودوافعها فيرى أولًا أنّه "لا يمكن تفسير السياسات الإسرائيلية من دون دوافع الانتقام" (ص44) أولًا، وثمة من ناحية أخرى "استغلال الحرب من قبل قوى وازنة في المؤسسة الإسرائيلية لتنفيذ مخططات مؤجلة التنفيذ في الضفة الغربية والقدس" (ص44)، فضلًا عن سعي نتنياهو إلى "انتصار مطلق" عبر اجتياح كل غزة، أي احتلال القطاع بأكمله، وجعله تحت السلطة الإسرائيلية، متحديًا الضغوط الدولية، بما في ذلك الضغوط الأميركية، لمواصلة الحرب. ويعدّد الباحث بالأرقام والجداول الخسائر الإسرائيلية في حرب الإبادة هذه، ويعرّج أيضًا بالجداول على التراجع ونسب التغيّر في الاستثمارات داخل إسرائيل من جراء هذه الحرب، وعلى كلفة المبيعات العسكرية الأميركية للكيان، لافتًا في المقابل إلى أنّ لمساندة الغرب غير المشروطة وجهًا آخر يشرحه في ثلاث نقاط "أولًا، ظهر بوضوح عجز إسرائيل عن خوض حرب طويلة من دون الدعم الأميركي المتواصل بالمال والسلاح والذخيرة (...) وبالتالي، فإن إسرائيل تفتقر إلى مقوّمات استقلال القرار السياسي في زمن الحرب، ولذلك عليها أن تعمل من دون توقف على ضمان موقف أميركي مؤيد لسياستها ولا يفرض عليها شروطًا (...) ثانيًا، بيّنت الحرب أن دولة الاحتلال أصبحت عاجزة عن إدامة احتلالها الذي يتخذ شكل نظام فصل عنصري من دون ارتكاب جرائم ضد الإنسانية بمقاييس تصل حد الإبادة الجماعية (...) ثالثًا، أصبح هذا الأمر يرتبط أكثر فأكثر بتحالف صهيوني يميني ــ ديني يصطدم على نحو مباشر بنمط الحياة المديني العلماني والعلماني الليبرالي الذي نشأ في ظروف ازدهار اقتصادي وتطور عملي، ويغير صورة إسرائيل في العالم. والاصطدام هذا قائم، وإن حجبته وحدة القبيلة في زمن الحرب (...) رابعًا، تضرّرت صورة إسرائيل في العالم بسبب ما ارتكبته وترتكبه في غزة، وصعدت حركات تضامن شبابية وطلابية واسعة ونشطة تذكّر بحركات الشباب ضد نظام الأبارتهايد في جنوب أفريقيا، وضد الحرب في فيتنام في ستينيات القرن العشرين وسبعينياته" (ص58 ــ 59).
يتوقف الباحث عند حراك الطلاب الذي انتشر في الجامعات الأميركية والأوروبية "بتمرّده الأخلاقيّ على الظلم، وعدم التزامه بالانقسامات الأيديولوجية. ومن المرجح أن يطلق هذا الحراك، مع انضمام أوساط من الأساتذة إليه، سلسلة تفاعلات ثقافية وفكرية خيطها الواصل بينها هو ارتباط فكرة التحرّر لدى هذا الجيل بالظلم الواقع على الفلسطينيين" (ص61).
حول ما يسمّى "اليوم التالي" ومخططاته (منذ البداية وحتى الساعة ولم تضع حرب الإبادة أوزارها بعد!)، يرى الدكتور عزمي بشارة أنّ عملية طوفان الأقصى "لم تغيّر موازين القوى، ولكنها ألقت الضوء على ملامحها وتحدّتها في الوقت ذاته (...) وتولّد خلال الحرب على غزة تضامن شعبي عربي وعالمي غير مسبوق مع الفلسطينيين، ونفور من الهمجية الإسرائيلية. كما أن الحرب أفشلت عملية تهميش القضية الفلسطينية. وبدأ هذا التحوّل في الموقف تجاه ضرورة حل القضية يتخذ صيغًا بنّاءة، مثل اعتراف دول غربية بدولة فلسطين، ضمن مبادرة تقودها إسبانيا. ولكن قد يُفرغ هذا الاعتراف من معناه إذا لم يشمل حدود الدولة: خطوط الرابع من حزيران/ يونيو، وتكون القدس الشرقية عاصمتها" (ص62). ويأمل الباحث في أن يكون "الثمن الذي دفعه الشعب الفلسطيني الرازح تحت الاحتلال هذه المرة، وانسداد السبل أمام هذا الاحتلال على الرغم من استخدام أقصى درجات العنف، يُفترض أن يكونا كافيين "لإقناع" المستعمِر وحلفائه بالانتقال إلى تركيز الجهود على التوصل إلى حل دائم وعادل. هذا ما حصل لفرنسا في الجزائر، فالمقاومة الجزائرية لم تهزمها عسكريًا، بل حصل العكس. ولكن حجم المعركة واستعداد الشعب الجزائري للتضحية واستمرار المقاومة بعزيمة لا تفتر، كل ذلك دفع فرنسا إلى إعادة النظر في وجودها في الجزائر. فبعد وصول القمع المديد إلى ذروة غير مسبوقة، يحصل أن يستنتج المستعمر أن القوة فقدت نجاعتها، والأجدى هو البحث عن حلول لا تشمل تورّطًا عسكريًا أو استخدامًا للقوة" (ص64). غير أنّ هذا الأمل يتبدّد حين يبدي الدكتور عزمي استغرابه حيال استمرار إسرائيل وداعمتها الرئيسة، الولايات المتحدة، في تجنّب الخوض في حل للقضية الفلسطينية "حتى بعد هذه المأساة الكبرى التي حلّت بالشعب الفلسطيني"، بل هما "تبحثان عن سبل لإدارة قطاع غزة بإنشاء سلطة تحت إشراف أمني إسرائيلي، مع إشغال الرأي العام العربي باتصالات سداسية هذه المرة (فلسطين ومصر والأردن والسعودية والإمارات وقطر)، لصياغة أفكار لليوم التالي، وكيفية التوصل إلى حل الدولتين، مع أن مبادرة السلام العربية ما زالت موجودة" (ص65). الفكرة الجوهرية هنا أن فظاعة حرب الإبادة على غزة لم تقنع الولايات المتحدة وكيان الاحتلال بعد بضرورة إيجاد حلّ دائم للصراع العربي ــ الإسرائيلي، بل يراوغ الحليفان ويسعيان بدلًا من ذلك إلى وضع إسرائيل يدها الكاملة على القطاع، وإلهاء الجهات العربية المعنية بالكلام الفارغ عن "حل الدولتين" غير الجدّي.
أمّا بالنسبة إلى كيان الاحتلال، "فإنّ المهمة الأولى بعد الحرب هي إيجاد بديل لحماس يمكنه "فرض الأمن" بالتعاون مع دول عربية، مثل مصر، والأردن، والإمارات، مع العلم أن نتنياهو يرفض أن يكون البديل سلطة رام الله. ولذلك تتجاوب إسرائيل مع الإدارة الأميركية بالحديث عن "سلطة متجددة" (...)" (ص65)، فمّما يُنشر ويقال يتضح، بحسب الدكتور عزمي، "أنّ مشاريع اليوم التالي الإسرائيلية والأميركية المجهولة لا تتضمن حلًا لقضية فلسطين، بل حلولًا "إبداعية̔ لكيفية إدارة قطاع غزة بحيث لا تشكل تهديدًا أمنيًا لإسرائيل" (ص66)، وفي الرؤية الأشدّ قتامةً "يمكن أن تصمت حماس عن سلطة مفروضة بعد الحرب إذا كانت تتوافق معها، لأنها تدرك أن إدارة القطاع لم تعد متاحة لها، إلّا إذا تركته إسرائيل ركامًا وطلولًا على حاله، وانسحبت وواصلت محاصرته، فحينها ستكون حماس القوة المنظمة الرئيسة القادرة على إدارة القطاع، أي إدارة الخراب في غياب دعم دولي للإعمار واستمرار الحصار" (ص65). ولناحية سلوك السلطة الفلسطينية في رام الله تجاه ما يجري في غزة منذ 7 تشرين الأول/ أكتوبر، وغياب أي تنسيق مع حركة حماس "فهو سلوك من يعتقد أن حماس جنت على نفسها، ويُفترض أن تتحمّل وحدها عواقب عملها. وتروم السلطة الاستفادة من هذه "الفرصة" المتاحة، بقضاء إسرائيل على حركة حماس، لكي تتسلّم هي إدارة قطاع غزة من جديد، سوية مع الضفة الغربية. وتمثل محاولات جهاز المخابرات الفلسطيني العودة إلى العمل في القطاع مؤشّرًا على بدء التنافس على إدارته" (ص67). أي أنّ ثمة سباقًا محمومًا، منذ الآن، ولم تنقضِ الحرب بعد ولا بانت نتائجها الميدانية، نحو حكم غزة في "اليوم التالي" الذي لم يأتِ بعد!
حول ما أسماه الباحث "الجريمة" في عنوان فرعي في ختام الفصل الأول، يرى أنّه "في ما عدا الأهداف السياسية المعلنة التي تبغي إسرائيل تحقيقها بغضّ النظر عمّا تسبّبه من ضحايا بين المدنيين (وعدم الاكتراث هذا معلن بصياغات عدة، تغطي حقيقة استهداف المدنيين)، وحتى لو لم نأخذ تصريحات الوزراء والنواب الداعين إلى الإبادة في الاعتبار، فإن الفظائع المرتكبة على نحو متكرر حتى تحوّلت إلى نهج متكامل، تكشف إرادة لتقويض مقومات الحياة في قطاع غزة، والإضرار الجسدي والمعنوي بأكبر عدد من سكانه ودفعهم إلى الهجرة" (ص70). ويفصّل الدكتور عزمي عناصر قصف المنازل والتجويع الفعليّ واستهداف وكالة الغوث الأونروا، وعدد الشهداء والجرحى الرهيب، وتضرّر قطاع البيئة وقطاع التراث الثقافي، وكل ذلك يظهر في جدول تفصيليّ بالخسائر الاقتصادية الناجمة عن الحرب الإسرائيلية على غزة بحسب القطاعات، مع مقارنتها بالخسائر الناجمة عن حربَيْ 2014 و2021 ، مؤكدًا "أنّ الانتقام وحده لا يفسر هذه الدرجة من التدمير، ولا استعادة هيبة الردع الإسرائيلية وحدها، على أهمية هذا الدافع"، إذ يرى أن هنالك إرادة في تحويل غزة إلى "عبرة"، وتأليب المجتمع الفلسطيني على حركات المقاومة، وحتى فكرة المقاومة نفسها "فقد يدفع حجم الخسائر في غزة أجزاء من الغالبية الصامتة إلى لوم المقاومة على نتائج عمليتها غير المحسوبة، مع أنه لا يوجد فعل يبرر ردّ الفعل الإسرائيلي بحرب إبادة" (ص81 ــ 82) عادًا "أنّ سبب جرائم الإبادة هو العنصرية والغطرسة والعقلية السائدة والمهيمنة على أصحاب القرار في إسرائيل، وأيضًا أهدافهم السياسية" (ص82).
ويخلص الباحث في ختام الفصل الأول إلى أن توقّع نهوض قوى سياسية فلسطينية مقاومة للاحتلال ليس ضربًا من الخيال في ظل عدم الوصول إلى حل عادل يضمن للشعب الفلسطيني حقوقه الوطنية في تقرير المصير.
٭ناقد وأستاذ جامعي من لبنان.
(يتبع).