}

مارتن بوبر منبّهًا إلى سقوط الصهيونية الأخلاقيّ

جورج كعدي جورج كعدي 14 سبتمبر 2024
آراء مارتن بوبر منبّهًا إلى سقوط الصهيونية الأخلاقيّ
انضمّ مارتن بوبر عام 1898 إلى الحركة الصهيونية(Getty)
هو القائل: "إنّ الحقوق المدنية والسياسية ينبغي أن تتحقّق داخل كل مجتمع وبين المجتمعات، من دون المساس بالحقوق الحيوية لأيّ مجتمع آخر. ولا يجوز أن ينال أيّ مجتمع استقلاله على حساب استقلال مجتمع آخر. ولا يجوز للاستيطان اليهوديّ أن يطرد أيّ فلاح عربيّ. ولا يجوز للهجرة اليهودية أن تتسبّب بتدهور الوضع السياسيّ للسكان الحاليين. إنّ تقاليد العدالة موجّهة نحو مستقبل هذا البلد ككلّ، وكذلك نحو مستقبل الشعب اليهوديّ".
هذا الكلام نطق به الفيلسوف النمساويّ اليهوديّ مارتن بوبر Martin Buber (1878- 1965) الذي انضمّ عام 1898 إلى الحركة الصهيونية مشاركًا في أعمالها التنظيمية والتشريعية، وغادر ألمانيا عام 1938 ليستقرّ في القدس بفلسطين الواقعة تحت الانتداب البريطانيّ، وعيّن أستاذًا في الجامعة العبرية حيث درّس الأنثروبولوجيا وعلم الاجتماع. وزاد خلال إقامته في القدس من مشاركته السياسية واستمرّ في تطوير أفكاره حول الصهيونية ليشارك عام 1942 في تأسيس حزب "إيحود" الذي دعا إلى برنامج حلّ ثنائيّ القومية، مخالفًا هرتزل في اتجاهه السياسيّ والثقافي وفي تصوّره للصهيونية كقومية يهودية ليست في حاجة إلى الثقافة والدين اليهوديين، في حين كان بوبر يرى أنّ هدف الصهيونية هو إثراء اليهود اجتماعيًا وروحيًا، داعيًا إلى ضرورة إصلاح اليهودية بعد تأسيس "إسرائيل" وقائلًا: "إننا نحتاج إلى من يفعل لليهودية ما فعله البابا يوحنا الثالث والعشرون للكنيسة الكاثوليكية". أُعجب بوبر بالالتزام الديني الذي يبديه الحسيديم في ثقافتهم وحياتهم اليومية كطائفة معنية بالقيم التي دعا إليها هو نفسه وطالب الصهاينة بتبنّيها، على عكس المجموعات الأخرى التي لم تنشغل بغير السياسة. وفي مطلع العشرينيات من القرن الماضي بدأ يدعو إلى قيام دولة يهودية عربية، معتبرًا "أنّ على اليهود إعلان رغبتهم في حياة سلم وإخاء مع العرب، وفي جعل الوطن المشترك جمهورية تتاح فيها للطائفتين فرصة التنمية الحرة". كان رافضًا أن تكون الصهيونية مجرّد حركة قومية أخرى، مطالبًا بمجتمع نموذجيّ غير قائم على فكرة هيمنة اليهود على العرب. واشتهر له مؤلَّفه "أنا وأنت" حول الوجود الحواريّ، والوعي الديني، والحداثة، ومفهوم الشر، والتعليم، وعلم تأويل الكتاب المقدس.
منذ بداية المشروع الصهيوني لاحتلال فلسطين، أدرك بوبر أنّ الصراع الوشيك (آنذاك) مع العرب سوف يكون صراعًا مريرًا طويل الأمد، وسوف تغذّيه مزاعم لا يمكن التوفيق بينها. وقد دفع هذا التصوّر العديد من زملاء بوبر من الصهاينة إلى استنتاج أنّهم يواجهون صراعًا مأساويًّا لا يسمح إلّا بحلّ وحيد: إمّا نحن أو هم. وفي نظره، كان هذا الطريق خاطئًا منذ البداية وإلى حدّ بعيد، إذ اعتبرها "واقعية قصيرة النظر"، داعيًا إلى "واقعية أعظم" ترتكز على الحوار. وعلى النقيض من أنصار "الواقعية السياسية" الذين سعوا إلى كسب ودّ بريطانيا العظمى كقوة انتداب في فلسطين، دعا بوبر إلى إقامة حوار مع العرب الفلسطينيين. كان التحدي الأول متمثلًا في تخطّي الحاجز العدائيّ حيث يتعامل كل طرف مع الآخر باعتباره "هو"، على حدّ تعبيره في كتابه "أنا وأنت". أصرّ على أنّه الطريق الوحيد الذي من شأنه أن يضمن تحقيق الأهداف السياسية والروحية للصهيونية، فالاستراتيجية السياسية التي تسترشد بحسابات "إمّا نحن أو هم" لا تؤدي إلى إدامة الصراع فحسب، بل تؤدي أيضًا إلى إفساد رؤية الصهيونية كحركة تجديد روحيّ وثقافيّ للشعب اليهودي. كان من شأن "القومية السياسية" أن تحوّل اليهودية إلى كيان سحريّ وتفرغها من قيمها الأساسية والروحية والأخلاقية (نتنياهو وعصابته الفاشية يفرغان اليهودية فعلًا من قيمها الروحية والأخلاقية).




في السنوات التي سبقت إنشاء "دولة إسرائيل" في مايو/ أيار 1948، كان مارتن بوبر مؤيّدًا لفكرة الدولة ثنائية القومية التي يتقاسم فيها اليهود والعرب السيادة المشتركة على الأرض التي يعتبرونها تراثهم الوطني. بالنسبة إليه، لم تكن الثنائية القومية سوى رؤية استدلالية لتكوين سياسيّ محتمل يسمح للعرب واليهود بسكنى الأرض نفسها بثقة متبادلة وكرامة محفوظة للطرفين، بحيث تكون الأرض التي يعدّها اليهود "أرض إسرائيل" والتي يعدّها سكانها العرب فلسطين هي بالقدر نفسه من المودّة أرض لشعبين. ومن أجل هذا التصوّر انخرط بوبر في مناقشات ساخنة مع القيادة الصهيونية، وكان صوته يحظى بالاحترام، ورغم ذلك لم يُصغ إليه أحد. هكذا وجد نفسه، على حدّ تعبيره، في "المعارضة الموالية"، سواءَ قبل ولادة "إسرائيل" أو بعدها، لكنّه لم يكن في أيّ حال معزولًا إذ كان له جمهور من المؤيّدين والمتعاطفين، والدليل كان موكب المشاعل الذي ضمّ مئات الطلاب من الجامعة العبرية، من اليهود والعرب، الذين ساروا في شوارع القدس إلى منزله لمناسبة عيد ميلاده الثالث والثمانين عام 1963 وأنشدوا له بالعربية والعبريّة "عيد ميلاد سعيد". ولا يزال هناك كثر يحتفلون اليوم بذكرى "نبي الحوار" في الأرض المحتلة.
يقول بوبر في رسالة إلى فريدريك إيدن عام 1914: "إن مهمتي هي فهم الناس الغاضبين، حتى عندما يرتكبون جرائم ضدّ كل ما تعنيه الإنسانية".



كان ليتفهّم، لو كان حيًّا، غضب الشعب الفلسطيني المهان والمحاصر والمقتول والمنتهكة كرامته، مهما فعل ومهما ارتكب ردًّا على المحتلّ. كان بوبر يدعو باستمرار إلى التفكير "خارج الصندوق" وخارج حدود المفاهيم السائدة والآراء التقليدية، ويعترف بأنّه مفكر غير نمطيّ، وكان مدينًا بتوجهاته الفكرية والروحية لمعلّميه في جامعة برلين، غيورغ زيمل وفيلهلم ديلتاي، إذ علّمه زيمل كيف يفكر ويتفحّص بشكل نقديّ الافتراضات التي تقوم عليها وجهات النظر في ضوء دينامكيات الحياة بين الأفراد، وعلّمه ديلتاي كيف يفكر من منظور الآخر، وهذا ما أسماه بوبر لاحقًا "تجربة الآخرين"، أي كيف نفهم تجربة العالم من جانب الآخر. من هنا امتلاكه تلك الشجاعة اللازمة لأن يكون "منبوذًا" وسط قومه، فهو تعوّد أن يكون شخصًا مستقلًا من الداخل منذ تحصيله الجامعي وانجذابه إلى هوامش الثقافة الأكاديمية. لدى قدومه إلى فيينا في سن الثامنة عشرة لبدء دراسته الجامعية، انغمس في الحياة الثقافية المزدهرة في المدينة، بحماسة شديدة، بغية تجاوز ما اعتبره قيودًا محلية للشباب المحميّ فكريًّا واجتماعيًّا، فانخرط في فوضى الحركات الفكرية المتنافسة والمذاهب الجمالية والأيديولوجيات التي كانت سائدة في نهاية القرن التاسع عشر، متنقلًا بين الأخلاق المناهضة للبورجوازية في حركة الشباب والاشتراكية الطوباوية، وبين التصوّف والأساطير، وعلم النفس العميق. واستولت على عقله النشيط أنماط فكرية غزيرة ومتناغمة، خاصة في المسرح والفنون، ما أبعده عن الجامعة. كتب عام 1901 لزوجته المستقبلية باولا أنّ المنح الدراسيّة الأكاديميّة "شيء جامد" و"عمل شاق" لم يكن يجد نفسه مؤهلًا له على الإطلاق.




منذ بداياته في السياسة الصهيونية، اضطلع بوبر بدور "الذبابة المزعجة" بحسب تسمية أفلاطون في كتابه "الاعتذار"، فهذه الذبابة تُغْضِب الناس بلدغ جلدتهم. مثلًا، توجّه إلى مندوبي المؤتمر الصهيونيّ الثاني عشر عام 1921 الذين اجتمعوا للاحتفال بذكرى الانتداب البريطاني في فلسطين لكونه تدشينًا لإقامة وطن للشعب اليهودي في صهيون، محذرًا إيّاهم من التهديد الكامن للنزاهة الأخلاقية والروحية للحركة الصهيونية من جرّاء مواءمة المشروع الصهيوني مع قوة إمبريالية استعمارية، وبالتالي معارضة المصالح المشروعة للسكان العرب في فلسطين. كما دعا رفاقه الصهاينة إلى رفض الشكل السائد للقومية الأوروبية وسعيها المتعجرف الأنانيّ إلى تحقيق الواقعية السياسية. فَشَلُ ما أسماه "القومية المتضخّمة" أفسَدَ بالضرورة "الكرامة الوطنية والتجديد الروحي" اللذين أرادت الصهيونية توفيرهما للشعب اليهودي. كتب: "من خلال تبنّي الواقعية السياسية يمكن لأي شعب نيل الحقوق التي ناضل من أجلها، ومع ذلك يفشل في استعادة حالته السويّة، فالقومية بتحوّلها إلى الزائف تأكل من النخاع الروحيّ للشعب"، فالقومية المتّسمة بالأنانية المقدسة لا تعني الخراب الروحيّ فحسب، بل الكارثة السياسية أيضًا (يعيش الكيان راهنًا خرابه الروحيّ والسياسيّ والأخلاقيّ معًا). فمنذ إعلان بلفور في نوفمبر/ تشرين الثاني 1917، أصرّ بوبر باستمرار ومن دون تردّد على أنّ المشروع الصهيونيّ محكومٌ عليه بالصراع الذي لا ينتهي مع العرب في فلسطين إذا فشلت الحركة الصهيونية، بسبب المصلحة الذاتية ضيّقة النظر، في الاعتراف بأن "أرض إسرائيل" هي أرض شعبين، وأنّه مقدّرٌ لليهود والعرب أن يتقاسما بمساواة كاملة.
أدرك مارتن بوبر أنّه بتعبيره المستمرّ عن آراء مماثلة يعزل نفسه عن الحركة الصهيونية، فلا تقبله الغالبية العظمى من رفاقه اليهود في الكيان المحتلّ، إذ كان يشكّك بلا هوادة في السياسات الرسمية للقيادة الصهيونية ويتحدّاها. كان من قلّة رفضت "برنامج بلتيمور" في مايو/ أيار 1942، وهو الحدث المحوريّ لبلورة السياسة الصهيونية، إذ دعا هذا البرنامج (الذي أيّدته الأغلبية العظمى للحركة الصهيونية) حكومة الانتداب البريطاني إلى فتح "أبواب فلسطين" أمام الهجرة اليهودية غير المحدودة ومنح الوكالة اليهودية "السلطة اللازمة لبناء البلاد وتأسيس فلسطين ككومنولث يهودي". اعترض بوبر على "البرنامج" إذ عدّه سيّئ التنظيم ومن شأنه أن يسمح لأقلّية – اليهود – "بغزو البلاد من خلال المناورات الدولية" وبالتالي "إثارة الغضب العربي" و"تقويض كل المحاولات الرامية إلى تحقيق التفاهم اليهودي – العربي".
عارض بوبر أيضًا تقسيم فلسطين الذي أوصت به الجمعية العامة للأمم المتحدة في نوفمبر/ تشرين الثاني 1947، إذ كان يخشى أن يؤدي تقسيم الأرض إلى إشعال فتيل العداء المتفاقم بين اليهود والعرب إلى حدّ خارج السيطرة. وظلّ بعد إنشاء "دولة إسرائيل" يقظًا في الدفاع عن قضية العدالة مثلما فهمها، وصمد بشجاعة أمام صورته منبوذًا، داعيًا "إسرائيل" إلى تحمّل المسؤولية عن مشكلة اللاجئين العرب، ومناشدًا رئيس الوزراء آنذاك بن غوريون، وجهًا لوجه، إلى فعل ذلك قائلًا له: "ألم نكن لاجئين في الشتات؟". وحتى وفاته في يونيو /حزيران 1965، بقي بوبر يواصل احتجاجاته بصوتٍ عالٍ ضدّ ما اعتبره سياسات خاطئة للدولة الوليدة التي كانت تعتمد المصادرة المنهجية للأراضي العربية. كان نقده للسياسات الصهيونية الحاكمة مدفوعًا باهتمام أخلاقيّ بقدر ما هو سياسيّ عقلانيّ. بالنسبة إليه، ينبع التواصل مع الآخر (الفلسطينيون في هذه الحالة) من اقتناع ضمنيّ بأنّ التماهي مع "عالم الآخر"، أي الحياة كما يعيشها الآخر ويختبرها، ضرورة جوهرية لحلّ الصراع وليس مجرّد احتوائه، ولخلق فضاء ملائم لحياة مسالمة قائمة على التفاهم المتبادل. 

*ناقد وأستاذ جامعي من لبنان.        

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.