}

عن أوتو ديكس: رسّام أهوال الحرب وعبثها

جورج كعدي جورج كعدي 7 سبتمبر 2024
تغطيات عن أوتو ديكس: رسّام أهوال الحرب وعبثها
أوتو ديكس (Getty)
المشهد الوحشيّ في قطاع غزّة اليوم، موتًا ودمارًا، يستدعي من الذاكرة البصريّة، الحديثة نسبيًّا، أعمال الرسّام والحفّار الألمانيّ أوتو ديكس Otto Dix (1891 - 1969) المناهض للحرب بقوّةٍ والتزامٍ وجرأةِ تشريحٍ لعنفها وقسوتها ومآسيها. فهو اختبر الحرب العالمية الأولى بنفسه ضمن فوج مدفعية ميدانيّ في درسدن وكان من الناجين جسديًّا (لا نفسيًّا) إذ حفرت أهوالها عميقًا في روحه فصمّم على نقل مشاهدها إلى اللوحة الصريحة والوحشية للناظر إليها. أراد مثل سلفه العظيم غويا هجاء الحرب كما هي في الواقع والحقيقة، قبحًا وشراسةً، رعبًا وجنونًا. ومضى أبعد ممن سبقوه أو لحقوه إلى رسم الحروب (من دولاكروا إلى بيكاسو) من خلال توليد الصدمة، بل الخوف والنفور ممّا لا يُحتمل النظر إليه، مشرّحًا جثث القتلى في الحرب، وبعضها متحلّل وعالق في الأسلاك الشائكة (جثث بعض شهداء قطاع غزة تحاكي صورةً مماثلة).
الأكثر تأثيرًا من أعمال ديكس المرسومة هي تلك المحفورة أو المنقوشة (engraved) والتي منحها عنوان "الحرب" وتعود إلى عام 1924، في خمسة ألبومات يضمّ كلٌّ منها عشرة نقوش هي تتمة لرسومه على الجبهة بين عامي 1915 و1918 ويمثّل معظمها الجثث المشوّهة على نحو فظيع في مرحلة التحلّل. في هذه الأعمال يهتمّ بالتفاصيل التي تبرزها إضاءة قوية، مجرِّدًا فيها الأجساد البشرية من إنسانيتها، هادفًا إلى إظهار بهيميّة الحرب، فهو نفسه يقول: "الحرب هي العودة إلى الحالة الحيوانية، إلى ذاك الصخب الجهنميّ".
وتتيح تقنية النقش التي عمل بها ديكس منذ عام 1920 مجموعة واسعة من التأثيرات التصويرية، بدءًا من التظليل الدقيق والرسم البسيط للخطوط، ما يسهم في تعزيز الواقعية. أكوام من الجثث وأطراف الجنود القتلى من منظور عين الطير. تمثيل ديكس للأجساد تعبير عن الصدمة عبر استدعاء المشهد المؤلم. يقول ديكس في حوار أجري معه منتصف الستينيات: "لقد انزلقتُ إلى أحلامي عبر الأنقاض وفي الخنادق. كان ينبغي أن أتخلّص من كل ذلك. لطالما كانت الأطلال ماثلةً في أحلامي منذ طفولتي".
لا يوقف الفنُّ الحربَ، لكن من المهمّ أن يوثّق الفنانون للحرب وتجاربهم فيها. ها أعمال ديكس المليئة بالجنود القتلى وبالمدنيين المصابين والمذهولين، تحاكي جثث الأطفال المكفّفين صفوفًا طويلة في غزة، والجثث المتحلّلة، لصعوبة الوصول إليها أو لبقائها تحت الأطلال، والأمهات اللاتي يحضنّ أطفالهنّ المصابين والنازفين. الحرب هي الحرب، فظاعاتٍ وأهوالًا، في أيّ زمان وأيّ مكان، والعالم متورّط مرّة أخرى في حرب وحشية، لا يتأنسن ولا يتعلّم. الغلبة دومًا للوحش الكامن فيه.
لم يصوّر أوتو ديكس أهوال الحرب في ميادين القتال فحسب، بل وثّق في أعماله للمشاكل الخاصة التي ترافقت مع الحرب، فلم يكن ثمة تشخيص عهدذاك لما يسمّى "اضطراب ما بعد الصدمة"، وكان على الناس أن يجدوا بأنفسهم طريقة للبقاء على قيد الحياة. كان هنالك شبّان معوّقون، مبتورو الأطراف، مصابون بالشلل، غير قادرين على العمل، ومع ذلك يحاولون البقاء أحياءً. رسم ديكس قدامى المحاربين فاقدي الساق أو الساقين معًا، وكان هؤلاء كثرًا في شوارع برلين في العشرينيات من القرن الماضي، وكان المجتمع يتجاهلهم فيما يستمتع المستفيدون من الحرب بحياة مترفة! وفي أواخر العشرينيّات كانت تزداد نداءات التحشيد التي أطلقها النازيون، وكان الفن المناهض للحرب هدفًا للتدمير والقمع والمنع، فأزيلت مئات القطع التي أُطلقت عليها صفة "الفن الهابط" من المتاحف وبيع بعضها في الخارج واختفى البعض الآخر إلى الأبد، وبينها لوحة بالأسود والأبيض لأوتو ديكس عنوانها "الخندق" لم يبق منها إلّا صورة فوتوغرافية غير واضحة.




وتشير التقديرات إلى أن 260 من أعمال ديكس صودرت إذ اعتبر النازيون أنّها "تُضعف إرادة الشعب الألماني بالدفاع عن نفسه"! وبسبب مناهضته للحرب طُرد ديكس من عمله أستاذًا في معهد دريسدن للفنون والحرف اليدوية، فانتقل إلى الريف الألماني حيث كان يكسب رزقه من رسم البورتريهات والمناظر الطبيعية لإعالة أسرته الصغيرة. وفي عام 1945 أُجبر على الالتحاق بالجيش الألماني، ومع نهاية الحرب وقع في أسر الجيش الفرنسي وأُرسل إلى معسكر أسرى الحرب. وبعد إطلاق سراحه واصل العمل في مجال الطباعة الحجرية مركّزًا على البورتريهات والمناظر، وتوفي عام 1969 عن سبعة وسبعين عامًا.
مرّ أوتو ديكس في عدد من المدارس أو الحركات الفنية، كالتكعيبية والمستقبلية، ليستقرّ بين أسلوبي الدادائيّة التي هي حركة فنية حرة وغير امتثالية، والتعبيرية التي تتعمّد تشويه الواقع وتبسيطه. وأصبح في ما بعد أحد مؤسّسي حركة "الموضوعية الجديدة" (New objectivity) التي تصوّر الواقع كما هو من دون محاولة تجميله، لذا صوّر الحرب كما عاشها ورآها بكامل أهوالها وفظائعها. بالنسبة إليه "لا ينبغي للفنان تحسين الواقع بل أن يشهد على هذا الواقع فحسب". من هنا كان اشتراكه في الحرب "من باب الفضول" وفق تعبيره، إذ قال أيضًا: "كان عليّ أن أعيش تجربة سقوط شخص بجانبي فجأة على الأرض مقتولًا برصاصة مباشرة. كان عليّ أن أحيا هذه التجربة على نحو مباشر. كنت أريد ذلك. ولهذا لستُ مسالمًا على الإطلاق – أم عساني مسالم حقًا؟ - ربما كنتُ فضوليًا. كان ينبغي أن أرى هذا كلّه بنفسي. أنا واقعي جدًا إلى حدّ ضرورة رؤية كل شيء بعيني، وعيش كل الأعماق المروعة البلا نهاية في الحياة. لذا مضيتُ إلى الحرب".

اتخذ أوتو ديكس مسارًا معاكسًا لمفاهيم البطل والبطولة

اتخذ أوتو ديكس مسارًا معاكسًا لمفاهيم البطل والبطولة التي كانت سائدة في زمنه. شعر بأنّه مستعدّ لتناول موضوعه الكبير. يقول: "لم أكن أريد أن أتسبّب بالخوف والذعر، بل أردت جعل الناس يدركون فظاعة الحرب، وبالتالي تحفيز مقاومتهم لها". بدأت لوحة "حرب الخنادق" تشقّ دربها بعد عشر سنوات من الحرب العالمية الأولى، مع دقة تفاصيل حسية وواقعية. ديكس نفسه يصفها: "يمكن رسم الدماغ والدم والأحشاء بطريقة تجعلك راغبًا في التقيؤ". اختبر ديكس الخندق بنفسه. و"حرب الخنادق" (1932) مثل تحفته الفنية السابقة "متروبوليس" (1928) هي لوحة ثلاثية (Triptyque) من النوع الذي كان شائعًا جدًا في القرون الوسطى، وتتكوّن من ثلاث لوحات رئيسية، مع لوحة رابعة داعمة أسفل اللوحة المركزية الثلاثية الكبيرة وهي عبارة عن مربع بمقاس 204 سم، ولوحتين مجاورتين على كلا الجانبين بالارتفاع نفسه إنّما بنصف العرض (102 سم) لكلّ منهما، والمقدمة أسفل اللوحة المركزية بالعرض نفسه ولكن ارتفاعها 60 سم فقط. وتظهر اللوحة اليسرى جنودًا ألمانًا يسيرون إلى الحرب، واللوحة المركزية عبارة عن مشهد لمنازل مدمرة وجثث مشوّهة، واللوحة اليمنى تظهر جنودًا يكافحون للعودة إلى ديارهم بعد الحرب.





تحفة ديكس السابقة على "حرب الخنادق" والتي تحمل عنوان "متروبوليس" استلزمت منه ستّ سنوات عملًا، وهي أيضًا لوحة ثلاثية ذات ألوان مبهرة وثراء إبداعيّ يجسّد فيها الفنان رؤيته لبرلين في ذروة انحطاطها المحموم في عشرينيّات القرن العشرين. في جزئها الأيسر يظهر ديكس نفسه كرجل مشلول بفعل الحرب يدخل برلين ويستقبله صفّ من العاهرات (إذ شاع البغاء بعد الحرب بسبب الفقر وانحلال المجتمع). وفي اللوحة الوسطى المركزية تدعو آلات الساكسوفون زبائن الحانة إلى حلبة الرقص. وفي اللوحة اليمنى تطرد بائعات الهوى المتسولين. كان ديكس حسّاسًا إزاء نفاق المجتمع البورجوازي بعد الحرب. يقول بألم: "لم يكن الناس يريدون رؤية عدد لا يحصى من مشوّهي الحرب يصطفون في الشوارع، ولا يرغبون في تذكيرهم بالسنوات الكارثية. كان هؤلاء يرتدون ملابس تنكرية ويضعون أقنعة ويفعلون أي شيء لتجنّب أن يكونوا أنفسهم، ويضيّعون ذواتهم في معابد المتعة. والجريمة اليومية كانت استمرارًا لجنون الحرب. رسمتُ سكارى، أناسًا يتقيّأون، رجالًا يهزّون قبضاتهم في وجه القمر وهم يلعنونه (...)".
مأساة أوتو ديكس مع النازية تختصر بالآتي: في السابع والعشرين من تشرين الثاني/ نوفمبر 1936، أصدر وزير الدعاية النازية جوزف غوبلز مرسومًا هذا نصّه: "بناءً على السلطة الصريحة من الفوهور، أفوّض بموجبها رئيس غرفة الرايخ للفنون البصرية، البروفسور زيغلر من ميونيخ، باختيار وتأميم أعمال الفن الألماني المنحطّ منذ عام 1910، سواء كانت لوحات أو منحوتات، والموجودة الآن في مجموعات مملوكة للرايخ الألماني، والمقاطعات، والبلديات. يرجى منكم تقديم دعمكم الكامل للبروفسور زيغلر أثناء فحصه واختياره هذه الأعمال". وتشير التقديرات إلى مصادرة 260 عملًا لأوتو ديكس، إذ احتقره هتلر (الذي كان يهوى الرسم للمناسبة وكان يودّ احترافه!) ليس فقط لأنه كان يرسم بطريقة حادّة ومعقدة ووحشية تندّد بالويلات التي خلّفتها الحرب العالمية الأولى وتثير قلق سكان فايمار، بل أيضًا لأن فنّ أوتو ديكس كان يسخر من فكرة البطولة الألمانية. ومن الفنانين الآخرين الذين عوملوا مثل ديكس من قبل النازية وبينهم ماكس بيكمان وأوتو مولر وجورج غروس وبول كْلي وآخرون. وقد أُقيم لأعمال ديكس ورفاقه معرض "الفن المنحطّ" في ميونيخ في التاسع عشر من تموز/ يوليو 1937 وضمّ هذا المعرض 650 عملًا فنيًا مصادرًا من اثنين وثلاثين متحفًا ألمانيًا، وجال المعرض في اثنتي عشرة مدينة أخرى بين عامي 1937 و1941 وشاهده أكثر من ثلاثة ملايين زائر.

   "حرب الخنادق" 

كان هدف المعرض إظهار "انحطاط" الأعمال الفنية من خلال وضعها إلى جانب رسوم أنجزها متخلّفون عقليًا وصور فوتوغرافية لمعوّقين جسديًا. ووضع عمل ديكس في قسم حمل عنوان "الفن كأداة للدعاية الماركسية ضد الخدمة العسكرية"! مع الزعم بأن الجنود الألمان صُوّروا في هذه الأعمال على أنّهم "أغبياء ومنحرفون جنسيًا وسكارى". واضطر ديكس، مثل جميع الفنانين الآخرين، إلى الانضمام لغرفة الفنون الجميلة التابعة للحكومة النازية، وكانت العضوية إلزامية لجميع الفنانين تحت حكم الرايخ. وأُجبر أوتو ديكس على التعهّد برسم مناظر طبيعية أو بورتريهات "غير مؤذية" فقط. وفي عام 1939 ألقي القبض عليه بتهمة التورط في مؤامرة لاغتيال هتلر في ميونيخ، ثم أطلق سراحه وأُسقطت التهمة. ومع اندلاع الحرب العالمية الثانية ثمّ تجنيده في الحرس الوطني الألماني، حتى ألقي القبض عليه في نهاية الحرب من قبل الجيش الفرنسي واقتيد أسيرًا، على ما أسلفنا سابقًا، ومرة جديدة رأى أوتو ديكس نفسه موثّقًا للفصل الثاني من الحروب في حياته (بعد الحرب العالمية الأولى) راسمًا صورة ذاتية مؤلمة له كسجين حرب. الحرب التي مقتها وناهضها كانت قدرًا لا يرخي قبضته. 

*ناقد وأستاذ جامعي من لبنان.  

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.