}

"أنتِ لستِ وحدكِ".. عن وعد أدباء من العالم لفلسطين

دارين حوماني دارين حوماني 23 مايو 2021
استعادات "أنتِ لستِ وحدكِ".. عن وعد أدباء من العالم لفلسطين
(Tommy Thomdean, 2020)
"أنتم لستم وحدكم"، هي الجملة التي وجهّها الروائي الأميركي، راسل بانكز، إلى الشعب الفلسطيني في 26 آذار/ مارس 2002، إثر زيارته إلى مخيم جنين. يقول بانكز عن تلك الزيارة: "إن الساعات التي قضيتها في فلسطين حتى الآن حفرت في ذاكرتي مشاهد لن أنساها أبدًا. عندما اجتزنا الحاجز أحسست بأن الباب أغلق خلفي، وأني في سجن. إن جميع أعضاء الوفد متأكدون أنه سيتم اتهامهم بـ "اللاسامية"، خصوصًا في الولايات المتحدة، ولكن هذا لا يخيفنا. يجب أن نرفض هذا النوع من الإرهاب الثقافي الذي يدّعي أن توجيه الانتقادات للجرائم الإسرائيلية ضد الفلسطينيين هو نوع من معاداة السامية".
راسل بانكز ليس الوحيد الذي تحسّس الألم الفلسطيني وكتب عنه، وفضح العنصرية والإرهاب الإسرائيلي عالميًا، فثمة أسماء كثيرة، أدباء، كتّاب، وفنانون، قد لا يمكن إحصاء عاطفتهم تجاه فلسطين الموجوعة.



جرائم ضد الإنسانية
يعتبر الروائي البرتغالي، خوسيه ساراماغو، الحائز على جائزة نوبل للآداب (1998)، أن ما يحدث في فلسطين جريمة يجب أن تتوقف: "كل ما اعتقدت أنني أملكه من معلومات عن الأوضاع في فلسطين قد تحطّم، فالمعلومات والصور شيء، والواقع شيء آخر، يجب أن تضع قدمك على الأرض لتعرف حقًا بما الذي يجري هنا.. يجب قرع أجراس العالم بأسره لكي يعلم.. إن ما يحدث في فلسطين جريمة يجب أن تتوقف.. لا توجد أفران غاز هنا، ولكن القتل لا يتم فقط من خلال أفران الغاز. هنالك أشياء تم فعلها من الجانب الإسرائيلي تحمل نفس أعمال النازي "أوشفيتز". إنها أمور لا تُغتفر يتعرّض لها الشعب الفلسطيني. هنالك شعور بالإفلات من العقاب يميّز الشعب الإسرائيلي وجيشه، لقد تحوّلوا إلى أصحاب دخل من الهولوكوست".
وعندما سُئل عن التعليقات التي تقارن محنة الفلسطينيين بالوضع في أوشفيتز خلال الحرب العالمية الثانية، أجاب ساراماغو: "ربما يمكنك استبدال كلمة "أوشفيتز" بـِ"جرائم ضد الإنسانية"؛ يمكنك الاختيار. بالنسبة لي، المصطلحات ليست مهمة، لأن الجوهر هو نفسه، الأهوال والمآسي لا تُقاس. لا يمكن مقارنتها. ومع ذلك، إسرائيل حوّلت فلسطين إلى أوشفيتز. استغلوا حزنهم لإلحاق الأذى بالآخرين، إنها معاملة الحزن كبند قابل للتحويل".
ويروي صاحب "الذكريات الصغيرة" كيف شاهد بنفسه آثار الهدم الجماعي للمنازل الفلسطينية، والحصار والإغلاق، والاستخدام المفرط للقوة العسكرية ضد السكان المدنيين متسائلًا: "هل هذه حضارة؟ هل يمكن أن نسمّي هذه الديمقراطية؟". وردّ ساراماغو بعد أن اتهمته وسائل الإعلام الإسرائيلية بأنه ضحية للدعاية الفلسطينية: "ربما يكون من الأفضل أن تكون ضحية للدعاية الفلسطينية الرخيصة بدلًا من وسائل الإعلام الإسرائيلية باهظة الثمن".

وفي موقف مشابه يقول الأديب الإسباني، خوان غويتسولو: "كيف يفسّر حق الدفاع عن النفس بأنه إرهاب، والإرهاب دفاع عن النفس!! إني أستطيع أن أعدّد دولًا تمارس الإرهاب، وإسرائيل هي إحدى هذه الدول. يجب أن نخرج أنفسنا من الكليشيهات، وألا نساوي بين القاتل والضحية، بين القوة المحتلة والشعب الذي يرزح تحت الاحتلال ويقاومه. ونحن ممثلو شعوبنا غير المنتخبين، وعلينا أن ننقل بأمانة ما تشاهده أعيننا، وتحسه قلوبنا".
وفي أحد نصوصه الأدبية المعنونة "العودة إلى فلسطين"، يقول غويتسولو: "دولة مجهّزة بسلاح فتاك ومتطوّر جدًا، مع شعب مجزّأ، بلا حدود، يملك سلاحًا بدائيًا، خاضع لنصيبه اليومي في التعرّض للإنتقام الجماعي والذلّ، ما يفضي إلى ازدياد عدد المرشّحين للاستشهاد، المستعدّين للتضحية بأنفسهم ضد قدرة المحتلّ العسكرية على المدنيين الأبرياء. لم تتوقف المستوطنات عن التوسّع: لقد فجّر الاحتلال الإسرائيلي بالديناميت العديد من منازل الفلسطينيين، كما اقتلع مئات الأشجار المثمرة. إن قطعة الأرض الضئيلة التي يتراكم فوقها أكثر من مليون فلسطيني أصبحت شبيهة بجلد الحمار. بينما عدد المستوطنين الذين يحتلّون 40 في المئة من المساحة القابلة للزرع، لا يتجاوز ثلاثة آلاف نسمة".

كريستيان سالمون - راسل بانكز - خوسيه ساراماغو


وفي مقالته "الجرافة" التي نُشرت في جريدة لوموند ديبلوماتيك في أيار/ مايو 2002، يكتب الأديب الفرنسي كريستيان سالمون: "يستخدم الجيش الإسرائيلي الجرّافات بشكل فعاّل كدبابات لطرد الفلسطينيين من منازلهم". ويسمّي سالمون هذه الظاهرة "الاستعمار الداخلي"، ويعرّفها على أنها "استعمار يتطلّع إلى الداخل، ويسعى إلى أكثر من الاستيلاء على أراضي الفلسطينيين. لدى الإسرائيلي خوف من مقابلة العدو من دون درع، وخوفهم دليل ضعفهم".
وفي نصّه "المنجل والنعناع"، يتكلم الروائي الإيطالي، فيتشنزو كونسولو، عن زيارته لفلسطين، مؤكدًا أنه لا يجوز السكوت عن المجازر التي يرتكبها الإسرائيليون: "كان المخيم بائسًا، أخذونا إلى إحدى الجمعيات الرياضية التي نزع الإسرائيليون أحشاءها، مدمّرة غرفة بعد غرفة. أشعر بعدم جدوى أي كلمة، وبالتباين ما بين هذا الواجب في الكتابة، الذي هو واجبي، وما بين أن أشهد للواقع الذي رأيناه والمأساة التي تدور حاليًا. بيد أنه من واجبنا أن نكتب. في قطاع غزة الأشبه بنزول إلى الجحيم، وصلنا إلى رفح التي دمّرها الإسرائيليون بالكامل، وصلت الدبابات لتهدم خلال ساعتين وتسوّي بالأرض منازل القرية. غرقت تحت الأنقاض كل الذكريات، الكتب، ودفاتر الأولاد المدرسية".
ويقول الكاتب النيجيري، وول سوينكا، الحائز على جائزة نوبل للآداب (1986): "تزحف بشرتي كلما سمعت عبارة "الاستشهاد" التي تُستخدم ككلمة موازية للقتل الجماعي الذي يحدث في فلسطين. وعلى الجانب الآخر من الرعب، استمتاع العائلات الإسرائيلية بإعطاء سرد بياني للدبابات التي تسحق الأبرياء أثناء نومهم. من المستحيل أن تظل مفصولًا عن هذا الوضع. كانت هذه منازل لأبرياء، والآن هي أرض خصبة لأنواع جديدة من أقدام منزوعة الإنسانية". ويضيف: "سافرت إلى القدس وعايشت معاناة الفلسطينيين الذين يتجرّعون يوميًا الإذلال ومحاولات تحويلهم إلى القيمة صفر، وسلبهم القدرة على حماية أنفسهم وتراثهم وسلبهم الأمن. يجب فعل شيء ما، هنالك حاجة لأن نُفهم إسرائيل أن سلوكها غير مقبول، ويجب على الأكاديميين أن يكونوا في طليعة المطالبين بالمقاطعة الثقافية والرياضية والاقتصادية".

ماريو فارغاس يوسا أثناء زيارته لقطاع غزة


في عام 2005 زار الروائي البيروفي، ماريو فارغاس يوسا، الحائز على جائزة نوبل للآداب (2010)، فلسطين، وأصدر بعد زيارته كتاب "إسرائيل ـ فلسطين: سلام أم حرب مقدّسة". يقول يوسا: "ليس في إمكان أحد أن يتهمني بأحكام مسبقة ضد إسرائيل، فلقد دافعت دائمًا عن إسرائيل. لكنني شاهدت الأمور بأم عيني، وشعرت بالاشمئزاز والتمرّد على البؤس الفظيع الذي لا يوصف. شاهدت القمع لأناس بلا عمل ولا مستقبل ولا مجال حيوي، يعيشون في مغارات ضيقة لا تطاق في مخيمات اللاجئين، أو في المدن المكتظة المغطاة بالقمامة، حيث تسرح الجرذان على مشهد من المارّة الصابرين، إنها الأسر الفلسطينية المحكوم عليها بالعيش كالنبات بانتظار الموت، لتضع حدًا لوجود بلا أمل، في انعدام قاطع لما هو إنساني". ومؤكدًا أنه يخجل من كونه صديقًا لإسرائيل، قال صاحب "حرب نهاية العالم"، خلال حديثه مع جدعون ليفي، من صحيفة هآرتس في عام 2006: "لقد أصبحت إسرائيل دولة قوية ومتغطرسة، ولديها سياسة استبدادية استعمارية واضحة، ودور أصدقائها أن ينتقدوا سياساتها بشدة". ويقول يوسا في حديثه عن إحدى القرى الفلسطينية: "في هذه القرية، كما هو الحال في العديد من القرى الأخرى، لا يعيش السكان ـ المزارعون والرعاة ـ في منازل في حدّ ذاتها. مساكنهم المحفوفة بالمخاطر، مصنوعة من القماش، وعلب الصفيح. أو أنهم يعيشون في بعض الكهوف العديدة في المنطقة التي نجت حتى الآن من سدّها بالحجارة والقمامة من قبل الجنود. أنا محاط بأطفال هيكل عظمي حفاة القدمين مفعمين بالإثارة. هنالك فتاة على وجه الخصوص، مع بريق شقيّ في عينها، تنفجر ضاحكة من محاولاتي لنطق اسمها باللغة العربية. إنهم يعزلون جميع المدن الفلسطينية الكبيرة عن بعضها بعضًا، ويعيقون الاتصالات والحركة".

يوسا في قطاع غزة


ولم يكتفِ يوسا بكتابه هذا من دون الخوف من اتهامه بمعاداة السامية، ففي عام 2017 أصدر كتاب "مملكة الزيتون والرماد"، رفقة 25 كاتبًا، من بينهم الروائي الأميركي، مايكل شابون، والروائية الأسترالية الأميركية، جيرالدين بروكس، الحائزان على جائزة بوليتزر، والروائي الإيرلندي، كولم تويبين، وقام شابون وزوجته الكاتبة الأميركية الإسرائيلية، أييليت فالدمان، بتحرير الكتاب. يتضمّن الكتاب مقالات لهؤلاء الكتّاب سجّلوا فيها انطباعاتهم إثر زيارة فلسطين، متحدّثين عن النضالات اليومية للفلسطينيين الذين يعيشون تحت السيطرة الإسرائيلية والصدمات الجماعية التي يتعرّضون لها.
وفي حديثه للصحافيين بالقدس، قال شابون إن الكتاب يسعى إلى "لفت الانتباه إلى الاحتلال، وخاصة لفت انتباه الناس الذين لا ينتبهون له". ويصف شابون في مقالته "عملاق في قفص" السفر من رام الله إلى مدينة نابلس ومشاهدة الطبيعة التعسّفية للسيطرة العسكرية الإسرائيلية على حياة الفلسطينيين من نقاط التفتيش والتصاريح إلى تخصيص الموارد وبناء المستوطنات.

غونتر غراس (فرانس 24)


ما ينبغي أن يُقال
في نيسان/ أبريل 2012، كتب الأديب الألماني، غونتر غراس، الحائز على جائزة نوبل للآداب (1999)، قصيدة نثرية بعنوان "ما ينبغي أن يُقال"، يقول فيها إن أهوال النازية ليست ذريعة للصمت، وإنه ظلّ صامتًا حتى الآن بسبب تاريخ ألمانيا وماضيه، فقد كان عضوًا في النازية خلال الحرب العالمية الثانية، لكنه يشعر بأنه مضطرّ للتحدّث علنًا ضد مساعدة بلاده العسكرية لإسرائيل. وهو يشير تحديدًا إلى بيع الغواصات الألمانية لإسرائيل، والتي يقول إنها مصمّمة لحمل "رؤوس حربية قاتلة"، وبالتالي لتنفيذ جريمة يمكن توقّعها، ولهذا السبب لا يمكن أن يصمت بعد الآن، ولأنه سئم نفاق الغرب. وممّا جاء في القصيدة: "ماذا يجب أن يقال/ لماذا بقيت صامتًا، متوقفًا لفترة طويلة/ على شيء تمارس فيه علانية الألعاب الحربية../ إنه الحق المزعوم في الضربة الأولى../ لماذا أتردّد في تسمية تلك الأرض الأخرى/ توجد فيها قوة نووية متنامية/ خارج الإشراف أو التحقّق/ لا تخضع للتفتيش من أي نوع/ هذا الصمت العام على الحقائق/ التي قبلها انحنى صمتي/ يبدو لي كذبة قسرية مقلقة/ ممّا يؤدي إلى عقوبة محتملة/ لحظة كسرها:/ يسقط حكم "معاداة السامية" بسهولة/ ..سُلّمت غواصة أخرى لإسرائيل/ في ما يعتبر معاملة تجارية بحتة/ يتمثّل تخصّصها في قدرتها لتوجيه الرؤوس النووية/ نحو منطقة لا توجد فيها قنبلة ذرية واحدة/ لم يتم إثبات وجودها بعد، فهي مخيفة/ دليل الوجود يكفي/ سأقول ما يجب أن يقال/ ولكن لماذا بقيت صامتًا حتى الآن؟/ لأنني اعتقدت أن أصولي الخاصة/ ملطّخة ببصمة لا يمكن إزالتها أبدًا/ لماذا الآن فقط، كبرت/ وببقايا الحبر أقول:/ الطاقة الذرية الإسرائيلية تهدّد الخطر/ سلام عالمي هشّ بالفعل؟/ لأن ما يجب أن يقال/ قد يكون متأخرًا جدًا غدًا/ ولأني مثقل بما فيه الكفاية مثل الألمان/ قد نقوم بتوفير المواد اللازمة لجريمة متوقعة/ تواطؤنا لن يتم محوه من قبل أي من الأعذار المعتادة/ لقد كسرتُ صمتي/ لأنني سئمتُ من نفاق الغرب/ وآمل أيضًا أن يتم إطلاق سراح الكثيرين/ الذين يُطلب منهم الصمت".
وردًّا على قصيدته، أصدرت السفارة الإسرائيلية في برلين بيانًا تتهمّ فيه غراس بمعاداة السامية، وقد واجه غراس انتقادات أوروبية وأميركية واسعة، لكنه أعرب عن عدم خوفه من اتهامه بمعاداة السامية.
جان ماري غوستاف لوكليزيو، الحائز على جائزة نوبل للآداب (2008)، أحد أكثر الروائيين الأوروبيين معاداة لثقافة الهيمنة الغربية. أثارت روايته "نجمة تائهة" (1993) ضجة كبيرة في الأوساط الصهيونية، بسبب نقلها لمشاعر الفلسطينيين وشتاتهم من خلال المراهقة الفلسطينية التي تعيش في إحدى المخيمات داخل فلسطين. تناول لوكليزيو في روايته هذه المأساة الفلسطينية، والمراحل الأولى في تشكّل المخيم الفلسطيني، وكيفية إيهام الصهيونية العالم بأن هذه الأرض هي "أرض الميعاد". وقد وصفته الصحف الإسرائيلية بأنه مشبوه ومعادٍ للسامية، مثل جان جينيه.

جان ماري غوستاف لوكليزيو


وحشيتهم تسبقهم
كان الشاعر والكاتب المسرحي، جان جينيه، في بيروت، خلال الاجتياح الإسرائيلي في صيف 1982. دخل إلى مخيم صبرا وشاتيلا مباشرة بعد حدوث المجزرة. يقول جينيه في شهادته الشخصية التي نشرها في "مجلة الدراسات الفلسطينية" بالفرنسية، ثم نُشرت بالعربية في مجلة "الكرمل" عام 1983: "إن الصورة الشمسية لا تلتقط الذباب، ولا رائحة الموت البيضاء والكثيفة. إنها لا تقول لنا القفزات التي يتحتمّ القيام بها عندما ننتقل من جثة الى أخرى. لقد كان عليّ أن أذهب الى شاتيلا لأُدرك بذاءة الحب وبذاءة الموت. فالأجساد، في الحالتين ليس لديها ما تخفيه. وسط جميع الضحايا التي تعرّضت للتعذيب، وبالقرب منها، لا يستطيع ذهني أن يتخلّص من تلك "النظرة اللامرئية": كيف كان شكل ممارس التعذيب؟ من هو؟ إنني أراه ولا أراه. إنه يفقأ عيني، ولن يكون له أبدًا شكل آخر سوى الشكل الذي ترسمه وضعية أجساد الموتى، وإشاراتهم الخشنة، وهم تحت الشمس، تنهبهم أسراب الذباب. ومن الطابق الثامن للعمارة التي أسكنها، كنت أراهم، كانت وحشيتهم تسبقهم. أتنقل من جثة الى أخرى، انظر يا سيدي، انظر الى يديها. لم أكن قد لاحظت ذلك، فأصابع يديها العشر مقطوعة بمقص؛ لا شك أن جنودًا قد استمتعوا وهم يكتشفون هذا المقص ويستعملونه، ضاحكين مثل أولاد وهم يغنّون فرحين. لم يكن الغزاة موضع خشية بقدر ما كانوا موضع احتقار، وكانوا يبعثون على الغثيان أكثر مما كانوا يحدثون الرعب. منذ انقطعت الطرق، وصمت التليفون، وحُرِمْتُ من الاتصال بالعالم، أحسستني، لأول مرة في حياتي، أصير فلسطينيًا وأكره إسرائيل.. يا لها من حفلات ومن مآدب فاخرة تلك التي أقيمت حيث الموت، الجنود المنتشين بالخمرة وبالكراهية، ولا شك أنهم كانوا منتشين أيضًا بكونهم قد نالوا إعجاب الجيش الإسرائيلي، الذي كان يستمع وينظر ويشجّع ويوبخّ المتردّدين في قتل الأبرياء. فرق التعذيب هي التي كانت تفتح الجماجم وتشرّح الأفخاذ، وتبتر الأذرعة والأيدي والأصابع، وهي التي كانت تجرّ، بواسطة حبال، محتضرين معاقين، رجالًا ونساءً كانوا ما يزالون على قيد الحياة...".

جان جينيه في مخيم صبرا وشاتيلا 


ووقعت الروائية الألمانية، هيرتا مولر، الحائزة على جائزة نوبل للآداب (2009)، على عريضة في عام 2013 مع الروائي التركي، أورهان باموق، والروائي الجنوب أفريقي، جون ماكسويل كويتزي، يطالبون فيها برفع الاحتلال القاسي عن الشعب الفلسطيني، وضرورة فضح وإدانة الأعمال الإسرائيلية الإجرامية. تقول مولر في أحد حواراتها عام 2017: "في إحدى المسرحيات الأولى التي قدّمناها في المسرح منذ حوالي 12 عامًا، هنالك مشهد تذهب فيه امرأة إلى بلد شرق أوسطي غير مسمّى، وتلتقي مع لاجئ فلسطيني يقول: "ماذا عن مستقبل أطفالي؟ هل ضاع في مكان ما، هل سقط من حذائك في مكان ما؟ بالنسبة لأولئك الذين تم نفيهم، فإن له آثارًا نفسية عميقة عليهم، هذه هي الثيمة هنا، الأشخاص الذين طُلب منهم مغادرة بلدانهم ولم يتم قبولهم من الآخرين".
وفي 9 حزيران/ يونيو 2012، وجَّهت الروائية الأميركية، أليس ووكر، الفائزة بجائزة بوليتزر، رسالة إلى "دار نشر يديعوت" الإسرائيلية ترفض فيها نشر روايتها "اللون أرجواني" بالعبرية، وتقول: "إسرائيل مذنبة بارتكاب الفصل العنصري، واضطهاد الشعب الفلسطيني، إن ما تقوم به إسرائيل أفظع من العنصرية التي نشأت عليها، أؤيّد حركة مقاطعة إسرائيل، وسحب الاستثمارات منها، وفرض العقوبات عليها، وآمل أن يكون لحركة المُقاطعة تأثير كافٍ على المجتمع المدني الإسرائيلي لتغيير الوضع". وفي رسالة موقعة منها، ومن 17 كاتبًا في عام 2006، انتقدت الغضب العام من اختطاف حماس للجندي الإسرائيلي، جلعاد شاليت. تقول صاحبة "اللون أرجواني": "تم اختطاف إسرائيلي واحد أثناء وجود ما يقارب عشرة آلاف فلسطيني في السجون الإسرائيلية"، واستطردت في الرسالة قائلة: "إن هذا الاختطاف اعتُبر انتهاكًا، في حين أن الاحتلال العسكري غير القانوني للضفة الغربية، والاستيلاء المنهجي على مواردها الطبيعية ـ وعلى الأخصّ المياه ـ من قبل قوات الدفاع الإسرائيلية (!) تعتبر حقيقة مؤسفة، ولكنها واقعية للحياة، وهي نموذج للمعايير المزدوجة التي استخدمها الغرب مرارًا وتكرارًا في مواجهة ما حلّ بالفلسطينيين، على الأرض المخصّصة لهم بموجب الاتفاقيات الدولية، خلال الـ 70 سنة الماضية". وندّدت ووكر في الرسالة بالإبادة الجماعية التي ترتكبها إسرائيل في حق الفلسطينيين، ووصفت عدوان إسرائيل على فلسطين بأنه احتلال غير شرعي. وتعدّ الرسالة من أقسى الرسائل التي وجهت إلى إسرائيل من قبل كتّاب عالميين.

خوان غويتسولو- أليس ووكر - وول سوينكا


دعم حركة المقاطعة
سار عدد من الكتّاب على خطى أليس ووكر، ففي خطاب مفتوح في مجلة "لندن ريفيو أوف بوكس" London Review of Books، في 23 أيلول/ سبتمبر 2019، وقّع أكثر من 250 كاتبًا على عريضة تدافع عن حركة BDS (حركة المقاطعة الكاملة لجميع العلاقات مع إسرائيل)، وكان العديد من الموقّعين من بين الكتّاب الأكثر شهرة في العالم، منهم الفيلسوف الأميركي، نعوم تشومسكي، والشاعر البريطاني، أميت شودوري، والكاتبة البريطانية، جاميت وينترسون، والكاتب الكندي، يان مارتل، والروائي النيجيري بن أوكري. وجاء ذلك بعد سحب "جائزة نيللي ساكس الأدبية"، التي تمنحها مدينة دورتموند الألمانية من الروائية البريطانية، كاميلا شمسي، بعد إعلانها دعمها لحركة المقاطعة، ورفضها ترجمة روايتها الفائزة إلى العبرية، حيث أجابت على طلب الترجمة إلى العبرية: "سأكون سعيدة جدًا لنشر كتبي باللغة العبرية، لكنني لا أعرف أي ناشر (خيالي) باللغة العبرية ليس إسرائيليًا، وأنا أفهم أنه لا يوجد ناشر إسرائيلي غير مرتبط تمامًا بالدولة. لا أريد تجاوز خط المقاطعة الذي شكّله المجتمع المدني الفلسطيني، والذي طلب من كل من يريد تغيير الوضع عدم التعاون مع المنظمات المتواطئة بأي شكل من الأشكال مع الدولة الإسرائيلية"، وهكذا تبدو مشكلة شمسي مع الدولة الإسرائيلية، وليس مع اللغة العبرية.

وحاز الكاتب الأسترالي، كريستوس تسيولكاس، على الشهرة بسبب روايته "الصفعة/ The Slap" عام 2008، التي اشتهرت لاحقًا كمسلسل تلفزيوني يحمل الاسم نفسه. عندما طلب منه الناشرون الإسرائيليون الإذن بترجمة كتابه، الذي عدّ من الكتب الأكثر مبيعًا، إلى العبرية، رفض تسيولكاس. وكان ردّه أنه سيسمح فقط بنسخة عبرية من الكتاب إذا تمكّن الناشرون الإسرائيليون من ضمان قيامهم بترجمة "الصفعة" في الوقت نفسه إلى العربية، ونظرًا لعدم قدرتهم على تلبية هذا الطلب الغريب، والذي من المحتمل ألا يطلبه مطلقًا من أي ناشر آخر، فإن روايته هذه لم يتم نقلها إلى العبرية.
وفي وقت سابق، في عام 2005، أعلن المؤلف البريطاني، تشاينا مييفيل، أحد أهم كتّاب الخيال العلمي، عن رفضه ترجمة كتبه إلى العبرية. يتذكر الناشر الإسرائيلي راني غراف: "أبلغني أن ذلك مستحيل، طلبتُ منه أن يكتب أي مقدمة يريدها، وسنقوم بترجمتها كما هي، ونطبعها في الكتاب من دون تحريرها، لكنه رفض رفضًا قاطعًا".
ولا ننسى الرسائل التي يوجّهها العديد من الأدباء والكتّاب العالميين من أجل دعم مقاطعة إسرائيل، ومن بينها رسالة وقّعت عليها اثنتان وعشرون شخصية أدبية عام 2016، تطالب مركز القلم الأميركي برفض تمويل الحكومة الإسرائيلية لأحد مهرجانات المركز بسبب انتهاكات إسرائيل لحقوق الإنسان. ورغم أن مركز القلم الأميركي رفض الطلب إلا أن عدد الموقّعين ازداد بعد ذلك ليصل إلى 140 كاتبًا و13 منظمة، ومن بين الموقّعين: أليس ووكر، وأنجيلا ديفيس، وكورنيل وست، وراسل بانكز، ومارلين هاكر، وديبورا آيزنبرغ، وآخرون، ومن بينهم حائزون على جائزة البولتيزر. وتقول أهداف سويف، وهي عضو في القلم، وروائية مصرية أميركية تكتب بالإنكليزية: "إن أخذ أموال الحكومة الإسرائيلية، ومعاملتها على أنها داعم حضاري للفن والثقافة، وهي تقتل وتعذّب وتفصل، هو مساعدة لها في جرائمها. وهذا لا يليق بالقلم". وفي عام 2010، وقع أكثر من 500 فنان في مدينة مونتريال الكندية على عريضة ضد الفصل العنصري الإسرائيلي، ولدعم الحملة الدولية للمقاطعة، وسحب الاستثمارات، وفرض العقوبات على إسرائيل.

جان بول سارتر خلال اجتماعه مع عدد من المفكرين


في المقابل..!
في المقابل، كان جان بول سارتر متأثرًا بسكرتيره اليهودي، بيني ليفي، وهو يسعى جاهدًا إلى عدم تعديل موقفه إزاء الإرهاب الإسرائيلي، ومقدّمًا كل دعمه لدولة إسرائيل. كانت تصريحات فيلسوف الوجودية متناقضة بين موقفه هذا وموقف اليسار البروليتاري الذي كان يدعمه. يتذكر الصحافي الفرنسي، آلان غريش، موقف سارتر خلال اجتماع لعدد من المفكرين: "لا أتذكر وجود كلمات كثيرة في خطاب سارتر يشير إلى الفلسطينيين، أو ماضيهم المأساوي، وأراضيهم المحتلة. بالتأكيد، لم ترد أي إشارة إلى الاستعمار الاستيطاني الإسرائيلي، الذي يشبه من نواحٍ كثيرة الممارسات الفرنسية في الجزائر". ويضيف غريش: "كنت منزعجًا جدًا لرؤية هذا البطل الفكري يخضع في سنواته الأخيرة لمعلّم رجعي (بيني ليفي) إلى هذه الدرجة، وكنت منزعجًا لأنّ ذلك كان في ما يتعلق بفلسطين التي تمثّل بالنسبة إليّ سؤالًا ملحًا على الصعيدين الأخلاقي والسياسي لا يقلّ أهميةً عن مسألتي الجزائر وفييتنام".

وليس سارتر وحده الذي يبرّر جرائم الصهيونية فقد كان للشاعر الأرجنتيني خورخي بورخيس مواقف عديدة يشيد فيها بدولة إسرائيل. يقول في كتابه "هوامش سيرة" (2020): "أثناء الحرب الإسرائيلية ـ العربية (1967) وجدتني أنحاز وبسرعة. ومع أن النتيجة لم تكن مؤكدة بعد فقد كتبتُ قصيدة عن المعركة. وبعد أسبوع كتبتُ قصيدة عن النصر". كما أصرّ الروائي الإيطالي، أومبرتو إيكو، على المشاركة في "معرض القدس للكتاب" عام 2011، ملبِّيًا دعوة بلدية الاحتلال الإسرائيلي في المدينة المقدسة، وخلال مؤتمره الصّحافي في القدس، سُئل إيكو من قبل أحد الصّحافيّين عن رأيه حول سياسات الحكومة الإسرائيليّة تجاه الفلسطينيّين، فأجاب: "لديّ الكثير مما يمكن الحديث عنه في ما يتعلّق بالحكومة الإيطاليّة، الأمر الذي لن يُتيح لي الوقت لأتحدّث عن الحكومة الإسرائيليّة". وفي جوابه، أراد صاحب "اسم الوردة" تحويل التركيز إلى التاريخ الأوروبي الاضطهادي بحق اليهود، وذلك للتغطية على ممارسات الصهاينة الوحشية مع الفلسطينيين. وفي مقالة له في "نيويورك تايمز"، يقول: "البارز لدى الإسرائيليين هو أنهم استخدموا الوسائل الأكثر تقدّمًا بهدف حرث الأرض، وإنشاء المزارع النموذجية. وأنا على علم بأن المكان الذي يعرف اليوم بإسرائيل كان في الماضي أرضًا فلسطينية؛ فلم تُنتَزع هذه الأراضي باستخدام العنف، وعن طريق القضاء على الشعب الفلسطيني صاحب الأرض، كما كانت الحال في شمال أميركا وجنوب أميركا، بل أساسًا عن طريق الهجرة والاستيطان البطيئين اللذين لم يَجْرِ معارضتهما في البداية".

أومبرتو إيكو - ميلان كونديرا - خورخي بورخيس 


حال أومبرتو إيكو هو حال ميلان كونديرا المصاب بـِ"متلازمة الضمير الأوروبي المعذّب" الذي أشاد بدولة إسرائيل خلال كلمته التي ألقاها في القدس إثر فوزه بجائزة "جيروساليم" عام 1985، متجاهلًا العنصرية الإسرائيلية وطرد مئات الآلاف من الفلسطينيين من أراضيهم وبيوتهم وتعذيب من تبقّى بنظام فصل عنصري واضطهاد لم يشهد التاريخ المعاصر مثله. يقول كونديرا: "إن كانت الجائزة الأهم التي تمنحها إسرائيل مكرّسة للأدب العالمي، فلا يُعدّ ذلك صدفة، إنّما يعود لتراث طويل. إنّها الشخصيات اليهودية الرفيعة التي، بإبعادها عن أرضها الأصليّة، وتعاليها على المشاعر القوميّة، أبدت دائمًا حساسيّة استثنائية تجاه أوروبا ما فوق القوميّات. إن كان اليهود، حتى بعدما أُحبطوا بشكل تراجيدي من قبل أوروبا، قد بقوا مخلصين رغم ذلك لهذه العالميّة (الكوزموبوليتية) الأوروبية، فإنّ إسرائيل، مكانهم الصغير الذي وجدوه أخيرًا، تبرز أمام عينيّ كالقلب الحقيقي لأوروبا، قلب غريب موضوع في ما بعد الأجساد".
لم تكن فلسطين يومًا موضوعًا عابرًا في أدبيات أصحاب الضمير الحيّ عالميًا، قد يكون سارتر، وبورخيس، وإيكو، وكونديرا، من بين بعض الأدباء الذين كانت لهم دوافعهم للتعمية على المجازر التي ألحقها الصهاينة بالفلسطينيين الأبرياء "بحجة أرض الميعاد"، كان لديهم ضمير مخترَع يبرّر القتل والتهجير في فلسطين، ضمير ركّبته أوروبا بنفسها لتجميع اليهود في غيتو آخر اسمه إسرائيل، لكن في نبشنا عن المدافعين عالميًا عن الفلسطينيين وجدنا مدافعين من نوع آخر، لا يمكن عدّهم، يدركون أن واجبهم الإنساني أن يجمعوا صراخ وبكاء الأطفال في هذه الأرض التي اسمها فلسطين ليُسمعوها للعالم أجمع. هذه الأرض، النسخة الأصلية للوجع، التي يمتلئ تقويمها بصمت أدبي عربي، ولا يجرؤ بعض أدبائه على الدفاع عنها خوفًا من عدم وصولهم إلى العالمية.


مراجع مختارة:
إسكندر حبش (2021). جغرافيات متناحرة. عمان: دار خطوط وظلال.

https://reliefweb.int/report/israel/writers-delegation-expresses-shock-outrage-israeli-policies-after-gaza-visit

https://www.aish.com/ci/s/Authors-Snubbing-Israel.html

https://www.haaretz.com/israel-news/bds-in-books-how-the-boycott-affects-israeli-writers-and-publishers-1.6272748

https://english.elpais.com/elpais/2016/07/01/inenglish/1467370265_186015.html

https://www.haaretz.com/1.4856437

http://laht.com/article.asp?CategoryId=13003&ArticleId=2414600

https://www.jpost.com/international/toni-morrison-nobel-prize-winning-author-and-critic-of-israel-dead-at-88-597870

https://www.theguardian.com/books/2012/apr/05/gunter-grass-what-must-be-said

http://palestine.assafir.com/Article.aspx?ArticleID=1645

https://lithub.com/translation-as-activism-an-interview-with-philip-boehm/

https://www.7iber.com/politics-economics/zionism-and-umberto-eco/

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.