عليّ أن استدرك بادئ ذي بدء بأهمية افتتاح "متحف ليون" عام 2009 مـ في فرنسا كأبرز مرجع لتقاليد مسرح خيال الظل على مستوى فنون الكوكب الأرضي ما بين الصين وأوروبا مرورا بفنون حوض المتوسط ما بين تركيا والحواضر العربية. مجموعته موسوعية تعانق شتى عروض العرائس المتحركة وأصول تحريك مفاصلها سواء بالأوتاد الخشبية أم بالخيوط. سواء موجهة للصغار أم البالغين. سنؤكد على خصائص انتشاره الثقافي في الحواضر العربية مع أصولها الصينية - العثمانية. 

خيمة كراكوز وعواظ

يدعى مسرح الظل في دمشق "خيمة كراكوز" منذ القرن السادس عشر، أي على امتداد السلطة العثمانية في دول حوض الأبيض المتوسط. مؤلف من شخصيتين رئيسيتين: "كراكوز وعواظ"، في القاهرة يدعى "الأراجوز"، تنجز عروضه غالبًا في دماسة المساء في المقاهي الساهرة، تطفأ الأنوار وتبقى شمعة "المخايل" أو فانوسه الذي يرمي ظلالًا لعرائسه المقصوصة على الشاشة.

يملك "مسرح الظل" أصولًا صينية أبعد من التاريخ العثماني، تصل أوائل القرن التاسع الميلادي بأشهر مخايليه ابن دانيال، ذكره الشاعر عمر الخيام بمصطلح "فانوس الخيال"، واستعاره أبو الحسن الأشعري من رمزية "الجبر والاختيار". لأن عرائسه تخضع لإرادة خيوط المخايل في حركتها.

من عروض فرقة فلايرز الأوكرانية

ألاعيب الاستشراق

يعاني موروث خيال الظل مثله مثل رسوم المخطوطات، من التحريفات الاستشراقية، وذلك بطمس تاريخه ما قبل القرن الحادي عشر للميلاد وإخصاء أصوله الصينية المحمولة مباشرة إلى الحضارة العربية الإسلامية، مع تقاليد الكاغد (الورق) والحرير والطباعة والبورسلان. من الثابت أن أقدم نماذجه هي بابات محمد ابن دانيال الموصلي بالنسبة إلى المستشرقين في حين أنه ظهر في الصين منذ القرن الأول. وبالعكس يؤكد د. فاروق سعد أن العرب عرفوه منذ منتصف القرن الثامن (مثل الورق) وافدًا مباشرة من الصين. معتمدة على وصف أبي العلاء المعري وابن العربي وابن الفارض والغزالي وسواهم. تعتبر بعض المراجع أن انتشاره في إندونيسيا المسلمة يرجع مباشرة إلى كانتون الصينية بعد وصوله إلى بغداد ودمشق والقاهرة بقرنين. ويذكر المؤرخ اليعقوبي في كتابه "البلدان" أن بغداد كانت تحتوي منذ نهاية القرن الثامن سوقًا خاصة لبيع التحف الصينية، وورد في المصادر الصينية وجود فنانين صينيين عند العرب في نفس التاريخ، بما يتناغم مع مرويات المؤرخين العرب، أي أن وصولها من الصين أسبق بقرون من وصولها إلى الأناضول وكانوا يستخدمون الموسيقى الصينية مع عروضها العثمانية (القرن الخامس عشر). بعض المصادر تذهب أبعد من ذلك أن العثمانيين نقلوه من القاهرة ودمشق وأن البلاط العثماني كان يحوي عددًا من المخايلين المصريين.

أعاد إذًا العهد العثماني بعث تقاليده في نهاية القرن الخامس عشر وعاد بالتالي دخوله إلى الحواضر العربية الإسلامية تحت مسمى "كراكوز وعواظ". 

 

أسباب اندثار تقاليد "مسرح الظل"

ماذا بقي من هذا التراث على أصالته الفنية والاجتماعية؟ لا شيء يذكر في الحواضر العربية بالرغم من توثيقه الكامل في تركيا، وفي الصين شجعته الثورة الثقافية الماوية بسبب عمقه الشعبي وخصص للعائلات المختصة به متحف خاص منذ الستينيات في كانتون، حيث تم تطويره الدائم ورفده بالتقنيات الحديثة بما فيه تطبيقات إضاءة "الهولوغرام" (أشعة ليزر الملونة). وبرأيي ليس صحيحًا أن اندثاره من الثقافة التشكيلية العربية يرجع إلى منافسة السينما والمسرح والتلفزيون والراديو.

يذكر نزار الأسود أنه ومنذ مئة عام كانت دمشق عامرة بالمقاهي التي تعرض كل يوم الحكواتي والكراكوزاتي (المخايل)، ويشتمل "متحف حلب للفنون الشعبية" على آثار محمد الدباغ، ذكره د. قانصو إلى جانب آخرين في كتابه (أطروحة الدكتوراه)، وبقي حتى القرن العشرين مع مقاهي حلب وطرابلس وصيدا. وحافظت جزيرة أرواد على أصوله حتى عام 1965 مـ.

ساعد تأسيس "مسرح أبي خليل القباني" في دمشق على اندثاره، خاصة وأن كل الأنظمة الحاكمة ابتداءً من الباب العالي لم يكن لها مصلحة في استمراره بسبب نقده للسلطة التعسفية العثمانية الحاكمة. 

أخيرًا تحضرني مقدمة د. فوزي فهمي لكتاب "الأراجوز" حيث يقول: "إن اغتصاب الخيال من مجتمع ما، هو رهان مؤكد على يأس وضياع وخضوع هذا المجتمع"، مدينًا كل من كان خلف طمس "خيال الظل" من استشراق وأصولية.