}

جان جينيه عاشق فلسطين.. الكاتب المنبوذ بحياته وبعد مماته

فريد الزاهي 5 أكتوبر 2022

 

اكتشفت كتابات جان جينيه في باريس في بدايات دراساتي بها. قرأت له مسرحية "الخادمتان" (1947)، ووجدت نفسي أمام كاتب استثنائي، لا بحياته المتقلبة فقط، ولكن بذكاء كتابته المفرط ولغته الشخصية الناصعة وأسلوبه الذي يتلاعب بمتوقعات القارئ. ثم بعدها، اطلعت على "يوميات لص"، التي يحكي فيها بشكل أوتوبيوغرافي مقطعًا من حياة الصعلكة في إسبانيا، التي يختلط فيها التشرد واللصوصية بالمثلية الجنسية. وفي هذه المذكرات يقول جينيه بوضوح: "بما أن عائلتي تنكرت لي، كان يبدو لي من الطبيعي حينذاك أن أعقد ذلك أكثر بحب الغلمان. وهكذا كنت أرفض بالتأكيد عالمًا كان قد رفضني (...). هذا الكتاب هو متابعة للتفاهة المستحيلة" (ص 305).

كاتب العوالم الغريبة

"الخادمتان" مسرحية يتلاعب فيها الكاتب بالقيم والمواقع الاجتماعية. فالخادمتان الأختان تجسدان نزاع العقل والأهواء، والتمرد الأرعن والاستسلام، بحيث إن الخادمة المتمردة حين تفشل في اغتيال سيدتها، تشرب المحلول القاتل لتموت بدلها، مجسدة بذلك القتل الرمزي. ومع أن المسرحية تعتبر نقدًا لاذعًا لمجتمع القرن العشرين، ومحاكاة ساخرة للمأساة الكلاسيكية، فإنها لم تحظ بما يليق بها من تلقٍّ. وبعد عرضها، لم تُقابل نهايتها بالتصفيق كما هو معتاد، فقد صرحت إحدى الممثلات: "خلال استعراض الممثلين في نهاية العرض، لم يقابلنا الجمهور بالتصفيق. كان صمتًا مطبقًا. يا لها من لحظة رهيبة". أما المخرج فقد تعرّض لشتى أنواع النقد والتجريح. وللتذكير، فقد كُتب ما يزيد عن الخمسين مقالًا عن المسرحية غداة عرضها، جاءت آراؤها في المسرحية كلها سلبية. ومن غريب الأمور أن مسرحية جينيه تبعها عرض مسرحية للكاتب المعروف جان جيرودو، وقوبلت بالتصفيق الحار من الجمهور.

أحد عروض مسرحية "الخادمتان" (14/2/1974 Getty) 



لم تكن هذه المرة الأخيرة التي سيواجه فيها مسرح جان جينيه الرفض المتطرف. فحين عرضت مسرحية "العوازل"، التي تتحدث عن حرب الجزائر في الخمسينيات، عام 1966 بباريس، أي ثمانية أعوام بعد كتابتها، لاقت المصير نفسه وإن بشكل مغاير. مرّت العروض الأولى للمسرحية في المسرح الوطني بباريس في جوّ هادئ، وقوبلت بالترحيب، غير أن اليمين الفرنسي سوف يهاجم العرض وصاحبه، في البدء من خلال أحد صحافيي جريدة الفيغارو المعروفين الذي كتب: "أريد أن أعرف إن كان الناس، في مسرح رسمي مدعوم من الدولة، ومن ثمّ بعلم من السلطات العليا، يعرضون العلم الوطني... وهو يغلف الأقوال والحركات الخسيسة لجنوده وهم يصورون في حالات مشينة".

أسبوعًا بعد ذلك، سوف تنفجر الأحداث. ففي المشهد الذي يصور جنودًا وهم "يؤبّنون" بالضُّراط رئيسهم الضابط الذي لقي حتفه في المعركة، رمى أحدهم من القاعة بكرسي على الركح، ثم توالت الكراسي والقنينات وشتى أنواع الفضلات على الممثلين. ووقع العراك بين الميليشيا المهاجمة والممثلين، قبل أن يطلب مخرج المسرحية الشهير جان لويس بارو من المهاجمين، باسم الحرية البشرية، أن يحافظوا على أعصابهم، وأن يغادروا المسرح إذا لم ترق لهم الفرجة.

وفي الغد، توصلت الجرائد الباريسية ببلاغ من "لجنة التنسيق بين قدماء المحاربين بفرنسا والهند الصينية والجزائر" جاء فيه: "منذ بضعة أيام تُعرض بباريس مسرحية هدفها الوحيد أن تستفز مرة أخرى كافة قدماء المحاربين وأن تصب على الجيش الفرنسي شاحنة من الأزبال. ولأن هذه المسرحية كتبها شخص مثْليٌّ شهير، ولص وهارب من الجندية، وعاهر سابق معروف في الأوساط الدنيئة لأوروبا، فذلك أمر يشكل فضيحة لا سابق لها". بيد أن الأحداث لن تتوقف عند هذا الحدّ. ففي كل أمسية للعرض يُرمى الركح بالطماطم والبيض الطازج وأشياء أخرى، مما نجم عنه جرح ممثلين من الفرقة، فيما تلقت الممثلتان ماريا كساريس ومادلين رونو بالبريد تهديدات مباشرة بالقتل. وأمام باب المسرح، كانت المواجهات بين الشباب اليساري واليميني المتطرف تتوالى عقب كل عرض للمسرحية.

وبعد عطلة الصيف، عادت الأحداث والمواجهات في العروض بمسرح "الأوديون" الشهير. واضطر أندريه مالرو، بالرغم من أن المسرحية لم ترق له، إلى التدخل لصالحها في الجمعية الوطنية باسم حرية الفن: "ثمة أشياء أعمق من النقاش في هذا المحفل، وهو يتعلق بمعرفة أين يجد الشعر جذوره. والحال أنكم لا تعرفون عن ذلك شيئا، ولا أنا معكم. لذا سأستعيد ما قلت سابقا: الحرية ليس لها دوما أياد نظيفة، لكن علينا أن نختار الحرية".  وهذه الأحداث هي ما جعل جان جينيه يقول في ما بعد: "مسرحية العوازل كانت مغامرة حقًا".





بعد أن نشر جينيه مسرحيته الأولى، عبّر مرارًا عن عدم حبه للمسرح، وربما لهذا السبب بالضبط جاء مسرحه سابقًا على وقته، ذا صيغ وأسلوب مغاير، يثير الدهشة قبل أن يثير الرفض أو الافتتان. وهذا الكاتب المشاكس، لم يكن ذا رأي سياسي بالرغم من أنه كان مساندًا لكافة حركات التحرر في العالم، من حركات السود في أميركا إلى القضية الفلسطينية. إنه كاتب الهوامش المعتمة، والمسارب الدفينة للحياة. فالرجل لم يعرف أمه، وانتقل في صباه من أسرة حاضنة إلى أخرى، وفي شبابه من سجن إلى آخر. وكان في يفاعته تلميذًا نجيبًا، أبدى عن قدراته وطاقاته في التعلم. وفي السجن بدأ جان جينيه الكتابة، مازجًا بين حياته الخاصة ورؤاه الشخصية للعالم والآخرين. التمرد كان صبغته الأساس، حتى إن جان بول سارتر، بعد أن ألف كتابا عن الشاعر المشاكس شارل بودلير، وجد ضالته الوجودية في هذا الكاتب فأصدر عام 1952 كتابًا عنه بعنوان: "القديس جينيه، ممثلًا وشهيدًا" سيقول فيه عن كتابه "يوميات لص": "يحكي هذا المؤلف حياته وبؤسه ومجده وعلاقاته العاشقة. إنه ينسج قصة أفكاره، ويمكننا أن نرى في ذلك، كما لدى مونطيني، المشروع الطبيعي والمألوف لرسم الحياة الشخصية. بيد أن جينيه ليس شخصًا أليفًا، حتى مع نفسه. طبعًا إنه يقول كل شيء. الحقيقة كلها ولا شيء غير الحقيقة: إنها الحقيقة المقدسة. فسيرته الذاتية ليست سيرة شخصية، إذ ليس لها من ذلك غير المظهر: إنها حكاية نشوء للكون (كوسموغونيا) مقدسة".


من فلسطين إلى العرائش

القليلون يعرفون أن السينمائي الفرنسي جان لوك غودار، الذي وضع حدًا لحياته في الأسابيع الأخيرة، كان قد أنجز (صحبة آن ماري بييفيل وجان بيير غوران) فيلمًا تسجيليًا تركيبيًا من الصور عن فلسطين عام 1976، بعنوان "من هنا وهناك" يحكي عن توازي حياة عائلتين، إحداهما فرنسية والأخرى فلسطينية، كما عن مجزرة أيلول الأسود بالأردن، وعن تداريب الفدائيين... في الفترة نفسها التي يعود إليها فيلم غودار بالصور فقط، كان جينيه يقوم بزيارات للفلسطينيين في الأردن منذ 1971. وحين وقعت مجزرة صبرا وشاتيلا الرهيبة كان ببيروت، فرافقته المثقفة والدبلوماسية الفلسطينية ليلى شهيد ليقف على هول المجزرة في المخيمين. وعن ذلك كتب نصه الشهير "أربع ساعات في شاتيلا" مازجًا فيه قوته الشعرية بضراوة الحكي: "الصورة الفوتوغرافية لا تلتقط الذباب ولا رائحة الموت البيضاء والكثيفة، إنَّها لا تقول لنا القفزات التي يتحتم القيام بها عندما ننتقل من جثة إلى أخرى (...). منذ قطعت الطرق، وصمت التليفون، وحُرمت من الاتصال بالعالم، أحسستني لأول مرة في حياتي، أصير فلسطينيًا وأكره إسرائيل".

نظم عبد الكريم خطيبي ندوة عن جان جينيه في الرباط في 2004 بعنوان "الفتنة والانشقاق"



في عام 1984، في اللحظات الأخيرة من حياة الرجل، وقبل أن يرقد جثمانه في مقبرة مدينة العرائش بشمال المغرب، ذلك البلد الذي يعرفه جيدًا، وارتاده خلال الحرب العالمية الثانية منخرطًا في الكتيبة الأجنبية الفرنسية، قبل أن يهرب من الخدمة العسكرية، سيحرّر جينيه كتابًا بين الرواية والسيرة الذاتية عن القضية الفلسطينية، كما عن كل القضايا التي ساندها، مازجًا فيها بين التركيب الاستعادي والنقد القارص والحكي، بعنوان "أسير عاشق". فلقد ظل هذا الهامشي المتمرد عاشقًا أسيرًا لكافة القضايا الثورية، يحمل في جسده وذاكرته شروط القدر البشري. وهذا الكتاب عبارة عن شهادة من العمق والدقة بحيث إنها تستعيد معاشرة الكاتب للفلسطينيين من بداية السبعينيات إلى أواسط الثمانينيات... وحسب علمي لم يهتم كاتب فرنسي ولا غربي أبدًا بمصائر هذا الشعب بهذه الحدة والخصوبة التي أبان عنها جان جينيه.

سنوات بعد وفاة هذا الكاتب الإشكالي "المنشق"، يبدو أنه أضحى شهيدًا لمواقفه ولحياته. فبالرغم من تحول بعض نصوصه إلى مسرحيات، يبدو أن هذا الكاتب ظل منبوذًا ومراهناته على قضايا التحرر في العالم، بطريقته الخاصة المعيشة والناقدة أيضًا، تحمل هموم مرحلة بكاملها. إنه منبوذ الثقافة الفرنسية كما الثقافة العربية التي عاش بعض قضاياها الحارقة (فلسطين والجزائر). وعبد الكبير الخطيبي الذي كتب عنه كثيرًا، نظم عنه ندوة في الرباط في 2004 بعنوان "الفتنة والانشقاق" قال في مقدمتها: "بعد أن كان جينيه في الماضي غريبًا بين السجناء واللصوص، وبعد ذلك غريبًا بين الكتاب الذين كرموه، ظل الرجل يراقب نفسه من "ليله المحمول" بحثًا عن لغة غير مشهودة، أو بالأحرى عن لغة وأسلوب قاطع سيكون القارئ مدعوًا ليكون رهينة له". كان حقًا كاتبًا منشقًا، حتى أنه اختار لروحه وجثمانه المنفى في تلك المقبرة الهادئة المطلة على المحيط الأطلسي، بمدينة العرائش، حيث قضى بعضًا من وقته وحياته، وحيث يبدو أنه كتب بعض فصول كتابه الأخير: أسير عاشق. 

 

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.